كان ممر الطابق الاعلى من المستشفى معتما ومهجورا الا من طاقم قسم المرضى او زائر له. هناك عند زاوية ذاك الممر, وقفت احدى الزائرات مرتاعة امام صحن محطم وقد سالت محتوياته امام قدميها, في هذه اللحظة مر شخص مصادفة وشاهد الفوضى المرعبة على الارض, كان الشخص فتاة طويلة رائعة البنية ذات شعر اسود كثيف معقوف الى الوراء باناقة, انها فتاة جميلة بالفعل بعينيها البنيتين الواسعتين.
قالت بهدوء: "الممرضة ويلز كنت تركضين. اظن ان هذا السائل هو عينة السيدة دودس؟ ارجوك اذهبي وقولي للاستاذ فان بلفيلد انك اوقعت هذه العينة."
اجابت الممرضة ويلز, التي كانت تخاف من رؤسائها: "انني لا اجرؤ على ذلك ايتها الاخت, انه يرعبني. ففي الاسبوع الماضي عندما اوقعت الملقط في الجناح, نظر الي, صحيح انه لم يفعل شيئا الا انه حدق بي- هل يمكنني ان اكتب له ملاحظة؟"
عندها قالت ميغان رودنر مبتسمة: "لا اظن انها فكرة جيدة ايتها الاخت."
اوشكت الممرضة ويلز على لانفجار بالبكاء فسارعت ميغان الى القول: "ارجوك عودي الى الجناح واطلبي من الرئيسة ان تعطيك شيئا يهدئ اعصابك وانا ساشرح الامر للاستاذ فان بلفيلد. "
"اه ايتها الاخت, انت رقيقة فعلا, ساعمل بجهد من الان فصاعدا..."
وقفت ميغان محدقة الى نتيجة فحوص السيدة دودس التي استغرقت عدةايام ولم تكن السيدة متعاونة حينذاك. وهي بالتاكيد لن تكون كذلك الان. سينزع الاستاذ من هذه الحادثة ولكنه كعادته سيخفي غضبه وراء وجه بارد وهادئ. على كل حال ميغان على عكس الممرضة ويلز لا تخافه, بل انه يعجبها قليلا كاعجابها باي شخص رفيع ومهذب.
عبرت ميغان ممرا صغيرا وفتحت الباب الموجود عند نهايت ه. كان المختبر عبارة عن مجموعة من غرف كبيرة مملوءة بالكثير من العمال والمعدات. تبادلت التحيات مع الجميع وطرقت باب الغرفة الاخيرة.
بدت غرفة الاستاذ هادئة جدا بعد كل ذلك الضجيج الذي مرت به في باقي القسم. كان الاستاذ يجلس خلف مكتبه منهمكا في الكتابة, فبدا طويلا عريض المنكبين ذا شعر فاتح متموج يخالطه الشيب.
"نعم؟" قال من دون ان يرفع نظره.
"الاخت رودنر من جناح الملكةيا سيدي. عينة السيدة دودس..."
"اه اجل اتركيها مع بيترز, ساراها بنفسي." ثم اضاف ببطء: "شكرا ياتها الاخت."
فقالت ميغان بسرعة: "انها ليست معي, لقد تحطم الصحن." رفع نظره اليها مستطلعا وجهها بعينين زرقاوين باردتين مما اعطاها فرصة لتدرس وجهه. كان وسيما بانفه الارستقراطي رفمه الذي يمكن ان يصبح رفيعا في بعض الاحيان, وهذا ما كان عليه الان.
"قال بصوت هادئ: "اين هي؟"
"في الممر."
وقف قائلا: "تعالي معي وسنرى." امسك الباب فمرت من امامه واتجها الى مكان الحادث. وقفت صامتة فيما انحنى هو ليلقي نظرة عن كثب. ثم استقام متمتما شيئا لم تستطع ان تفهمه. لا بد انه شتيمة هولندية وهي في الواقع لا تلومه على غضبه.
سال برقة: "هل اوقعت الصحن ايتها الاخت؟"
نظرة اليه وجها لوجه: "سيدي لقد وقع."
"هكذا اذاً, وعمّن تتسترين؟"
عندما لم تجب قال: "ربما انت خائفة من ان تخبريني."
"يا الهي, انا لا اخافك وانت تعلم ذلك."
لم يقل شيئا الا انه رماها بنظرة باردة: "على الاقل اجري تلك الفحوصات ثانية, وعندما تنتهي ارجوك ان تعلميني بالامر لارسل احد التقنيين الى جناحك كي يحضرها."
قالت مبتسمة: "حسنا سيدي, انا اسفة بشان الحادثة. انه فعلا لطف منك الا تنزعج."
"انزعج؟انا غاضب جدا. طاب مساؤك."
راقبها الاستاذ وهي تذهب, بدت انيقة بزيها الازرق الداكن وذاك الغطاء من الموسلين الذي تعتمره عادة الاخوات في الريجنت فوق رؤوسهن. بقي يراقبها حتى توارت عن نظره. عندها فقط عاد الى مكتبه.
رجعت ميغانالى جناحها حيث امضت ربع ساعة في اقناع السيدة دودس بضرورة اعادة اجراء الفحوص, ثم عادت الى مكتبها لتشرب فنجانا من الشاي وتنظم دفتر العطل. حين انضمت اليها الممرضة جيني مورغان.
"الممرضة ويلز ترتب خزانة البياضات ولكنها لا تزال تبكي."
"هل هناك ما يكفي من الممرضات لابقائها هناك؟ سيبدا العمل خلال دقائق, ستاخذين الجولة الاولى, اما الثانية فستكون للممرضة كريج."
"هل كان مغتاظا؟"
"اجل لكن بأدب. سيرسل احد التقنيين عند جهوز العينة الثانية."
"حسن, لا احد يعرف شيئا, أليس كذلك؟ لعله خدع بالحب."
بدت جيني الواقعة بالحب دائما متعاطفة.
فتحت ميغان جدول العطل ثانية وقالت بعدم اهتمام: "أراهن على انه متزوج وله دزينة اولاد, لا بد انه لطيف في بيته."
حين ذهبت جيني عادت ميغان وركزت على جدول العطل ولكن ليس لمدة طويلة, فقد كانت خارجة ذلك المساء في مناسبة خاصة حيث ستلتقي اهل اوسكار, تمت خطوبتهما منذ ستة اشهر, وهذه هي المرة الاولى التي ستلتقي فيها عائلته. كان اوسكار طبيبا شرعيا طموحا ذا مستقبل واعد, تقابلا منذ سنة او اكثر, وبمرور الوقت تقدم لطلب يدها. كان ذلك قبل يومين من عيد ميلادها الثامن والعشرون. وبما انه كان مولعا بها اعجبها, صحيح انها لم تكن تحبه بشغف, الا انها وافقت على الخطوبة, تقدم منها في الماضي الكثير من طالبي الزواج الا انها رفضتهم جميعا, فلطالما حلمت بانسان مميز يجعلها تشعر ان الحياة من دونه مستحيلة, الا انها كانت في اوقات كثيرة تعي انها تطلب الكثير من الحياة. وبرايها ان الحب الثابت والميل الى الاشياء نفسها كافيان لبناء زواج ناجح.
على كل حال, مع الوقت اصبحت راغبة في ان تصبح السيدة اوسكار فيلدنغ, لذلك حاولت ميغان ن تكيف نفسها مع اراء اوسكار حيال الانوثة, اذ انه المح الى انها مبذرة كثيرا, فما حاجتها لشراء كل تلك الثياب والاحذية الايطالية الثمينة بينما تمضي معظم وقتها في الزي الرسمي؟ هذا صحيح كان اوسكار دائما لطيفا عند ابداء ملاحظاته هذه, لذا عملت جهدها كي ترضيه. الا انها كانت تتساءل احيانا هل هي توافقه فعلا على مبادئه في الحياة؟ لكن الحق يقال, ان اوسكار لم يك ليرضى ابدا ان تشارك بالمصاريف عندما يخرجان معا, حتى انه المح الىضرورة التوفير للمستقبل, مهما يكن, يجب عليهما مناقشة الموضوع, فهي ليست مبذرة, صحيح انها تشتري عادة ملابس انيقة كلاسيكية الا انها لم تشتر شيئا مؤخرا, رغبة في ارضائه.
بقيت ميغان مناوبة في جناحها حتى الساعة الخامسة حين سلمته لجيني.
"هل انت خارجة؟"
"نعم مع اوسكار لمقابلة والديه."
"اتمنى لك امسية جميلة. غدا يوم عطلة, اظنك ستذهبين لمكان لطيف."
كنتجيني تحب الاخت رودنر, على الرغم من انها تظن ان اوسكار متكبر لا يستحق هذه المخلوقة الجميلة التي تتحضر للخروج من المكتب.
تفحصت ميغان خزانتها, يجب ان تختار شيئا مناسبا, ولكن هل هناك شيء مناسب لمقابلة من سيصبحون اهلها في المستقبل؟ قررت اخيرا ان ترتدي فستانا من الكريب الصيني ازرق ماويا ذا كمين طويلين وياقة عالية, وارتدت فوقه معطفا من الصوف طويلا ازرق داكنا غالي الثمن, كذلك اختارت اجمل ما عندها من الاحذية الايطالية مع ما يناسبها من قفازات وحقيبة ونزلت الى مدخل المستشفى.
كان اوسكار بانتظارها يتحدث مع الاستاذ فان بلفيلد الذي لاحظها, ولكنه تجاهلها, لم تكن ميغان من النوع الذي يرتبك ابدا, سارت باتجاههما قائلة: "مساء الخير سيدي, مساء الخير اوسكار."
رد الاستاذ التحية وقال اوسكار بكل ثقة: "اه اهلا ميغان, بكل تاكيد تعرفين الاستاذ."
فقالت مبتسمة: "بالطبع."
عندها قال الاستاذ بلهجة ثابتة: "لأا تدعيني اؤخركما, اتمنى لكما امسية سعيدة."
"انا متاكد من ذلك سيدي فميغان ستلتقي والدي للمرة الاولى."
قال بوجه جامد وهو ينظر الى خاتمها الماسي: "هذا شيء جميل."
راقبهما الاستاذ وهما يستقلان سيارة اوسكار القديمة ثم عاد الى الاجنحة.
اتى والدا اوسكار الى لندن من اسكس, فمن عادتهما ان يمضيا كل سنة عدة ايام في فندق متواضع, كذلك يحضران حفلةموسيقية ويشاهدان مسرحية وبالطبع يمضيان مع ابنهما اطول وقت ممكن. كانت ميغان قد تلقت رسالة رقيقة ومهذبة من والدة اوسكار عندخطوبتهما, الا انها الان تشعر بقلق شديد لاعتقادها انها لن تعجب بوالديه وبانهما لن يعجبا بها, وعندما افصحت عن افكارها لاوسكار قال ضاحكا:
"اكيد ستعجبون ببعضكم البعض, فليس هناك من سبب لحصول خلاف ذلك."
عندما وصلا الى الفندق وانضما الى عائلة فيلدنغ في المقصف, ادركت ميغان انها ووالدة اوسكارلم يعجبا ببعضهما البعض من النظرة الاولى, الا ان ذلك لم يكن ظاهرا, فقد تبادلا القبلات وعبرا عن فرحتهما بملاقاة بعضهما اخيرا, وابديتا ملاحظاتهما عن طقس اذار الرائ, بعد فترة وجيزة تكلمت مع والد اوسكار, كان رجلا قصيرا ذا شارب عريض, لقد اعجبها, الا انها لم تحظ بفرصة للحديث معه, اذ حجز اوسكار طاولة صغيرة وطلب المشروبات ثم انغمس في الحديث مع والده.
شربت ميغان الشراب والتونيك اللذين لم تطلبهما ولم تكن تحبهما, وتبادلت حديثا قصيرا مع حماتها, غير ان السيدة فيلدنغ احتكرت الحديث واستجوبتها عن حياتها, عائلتها, والمدرسة التي تعلمت فيها, وعمرها بالاضافة الى التعبير عن املها بان تكون ميغان سيدة بيت, فقد اوجزت بكل صراحة ان النساء لا يحق لهن العمل ابدا حين تكون لديهن عائلة وزوج للاعتناء بهما.
نظرت ميغان الى جليستها, كانت امراة بدينة ذات انف حادوعينين غائرتين, ترتدي ثيابا رخيصة, وتسرح شعرهابطريقة مخيفة, لقد اخبرها اوسكار بان والديه بحالة ميسورة ولكن يبدو انهما حريصان على اموالهما, اذ ان السيدة فيلدن غامرت ان يطلبوا وجبة الطعام نفسها.
"انا متاكدة اننا سنستمتع بها, اظن ان كاسا واحدة من الشراب تكفينا."
دهشت لان اوسكار لم يمانع في تدبير والدته الامور. فقد وافق على كل مقترحات والدته حتى انه فرح كثيرا لاقتراحها الحصول على بعض المفروشات المخزونة في العلية عندما يتم الزواج.
سالت ميغان: "اي نوع من المفروشات؟"
"طاولات كراسي وخزانة كبيرة وعدد من السجاجيد التي ورثتها عن والدي, هذا بالاضافة الى عدة اشياء منوالد السيد فيلدنغ, كبعض الخزائن الجيدة والجميلة."
التزمت ميغان الصمت ازاءهذه المقترحات الا انها يجب ان تتناقش مع اوسكار حول الموضوع فهي كغيرها من الفتيات تريد ان تختار بيتها بنفسها. ترى اين سيكون هذا البيت؟ لا تعرف ميغان ردا على هذا السؤال, فهي واوسكار لم يتحدثا بهذا الموضوع قط.
سالت ميغان وهما في طريقق العودة الى الريجينت: "اوسكار ماذا تنوي ان تفعل عندما تنتهي من العمل في الريجينت؟"
"الحصول على مركز اعلى افضل البقاء هنا ولكني لا اعتقد ان هناك مراكز شاغرة, على كل حال هناك العديد منالمستشفيات في لندن."
"اتريد البقاء دائما في لندن؟"
"هذا ممكن, يجب ان انتظر ما سيطرأ"
"وانا؟"
"تذت حصلت على عمل هنا اظن انه من الافضل ان تقيمي مع والدي وساتي لزيارتكم نهاية الاسبوع وايام العطل الاخرى... فالبيت على بعد ساعتين بالسيارة."
"انت لا تعني ذلك,أليس كذلك؟"
"اعنيه طبعا انا اعنيه, فليس باتطاعتنا عمل شيء اخر, ثم لماذا نهدر اموالنا ونستاجر شقة او حتى غرفة وباستطاعتنا ان نعيش في بيت والدي مجانا."ثم ضحك وربت على ركبتها: "اذا ظننت انك... لكن لا, انت فتاة طيبة."
رمقته ميغان بنظرة, كان وجهه جميلا واضحا وطبيعيا. فخلال سنوات سيصبح طبيبا معروفا ذا خبرة جيدة, كان مولعا بها, على الرغم من انها تشعر احيانا انه يحب عمله اكثر منها وانه ليس من النوع الذي يسحرها, في بعض الاحيان كانت تحلم بالانسان الذي يسحرها.
رافقها اوسكار الى مدخل مسكن الممرضات.
قالت ميغان: "غدا يوم عطلة."
"لكنني لن استطيع ان اراك, متى عطلتك المقبلة؟ يمكن ان اخذ عطلة الاحد."
"هل يمكنك ذلك؟ يمكن ان نذهب لمنزلي فانت لم تلتق عائلتي بعد, انا حرة في عطلة نهاية الاسبوع الذي يليه."
"سارى ما يمكن عمله." عانقها بسرعة: "نامي جيدا, حاولي خلال الاسبوع ان تجدي ساعة او اثنتين كي اقضيها معك."
"سابذل جهدي."
دخلت ميغان غرفتها واسترجعت احداث هذه الامسية, صحيح انها كانت ناجحة جدا ولكن مع مرور الوقت يمكنها ان تتفق ووالدة اوسكار. من الانسب له ان يغرم بفتاة خجولة هادئة ولطيفة مع والدته وفوق كل ذلك ترضى لاحتلالها مرتبة ثانية في حياة زوجها. استغرقت بالنوم وهي تفكر بطريقة تجعل منها تلك الفتاة.
في صباح اليوم التالي, عدلت ميغان عن الفكرة تماما, فالخجل والرقة لم ينفعاها قط في العمل, ولم تحل مشكلاتها مع المشرف عن الغسيل المتأفف دائما من كثرة استخدام البياضات في جناحها, ولم تفيدها ايضا مع المسؤول عن الصيدلية ذي الطبع السيء الذي يستفهم دائما عن كل طلبية ثم يدعي انه لم يتسلمها قط, امضت ميغان صباحا مرهقا ذلك اليوم,وفيما هي تتحضر لتناول الغداء, تم استدعاؤها فيما هي تقضم اول لقمة من فطيرة شيبرد. اعطتها المسؤولة عن قسم الحوادث الاخت ايفا شامبرز التفاصيل:
"ستواجهين عملا منهكا, آمل ان هناك الكثير من الممرضين المناوبين."
اصيبت امرتان بجروح بالغة في الراس, وقد كانتا متعبتين, مما جعل ميغان تستخدم كل طاقتها للعناية بهما, اعطى الجراح الاستشاري برايت اوامره بضرورة اجراء عملية في الحال:
"حضريهما للعملية وتاكدي من عدم وجود مرض فقدان المناعة. ارسلي بطلب احد من المختبر قادر على التعامل معهما, اذا اهتاجتا, فكلتاهما قويتان ومن المحتمل اصابتهما بارتجاجات بالمخ."
تجاوب المختبر بسرعة وفوجئت ميغان بالاستاذ فان بلفيلد يستجيب لنداء الطوارئ, قال بلفيلد بهدوء: "علمت انهما يعانيان من ارتجاج في المخ ففضلت المجيء بنفسي."
"اه هذا حسن, فكلتاهما مهتاجتان, لدينا اسرة مسورة ولكنهما بالطبع ستحاولان النزول..."
كان الاستاذ الشخص المناسب للموقف, صحيح انه لطيف, الا انه يمتلك قوة تمكنه من السيطرة على المراتين الغائبتين عن الوعي بسهولة فائقة, تركها الاستاذ وهي تحاول السيطرة عليهما فتمنت لو انه بقي ليساعدها بعد انتهاء العملية.
وضعت السيدتان في غرفة العناية الفائقة بعد اجراء العمليات, وهكذا عاد الجناح الى طبيعته, كانت ميغان كالعادة سعيدة لاخذها قسط من الراحة بعد عناء يوم طويل, عشاء مع كوب من الشاي وحمام ساخن وسرير. هذا ما كانت تفكر به بسرور وهي في طريقها الى البهو, اخيرا وصلت الى المدخل حيث شاهدت الاستاذ امامها, لا بد انه في طريقه الى بيته, ترى اين بيته؟ لماذا يتاخر في العمل؟ بالتاكيد هو لا يحتاج للعمل لمدة اثنتي عشرة ساعة يوميا.
استدار الاستاذ فرآها فيما كانت تسير عبر المدخل: "يوم مرهق ايتها الاخت رودز, طاب مساؤك."
بادلته التحية وبقيت تراقبه حتى استقل سيارته الرولس رويس وانطلق فيها, تمنت للحظة لو انها تستطيع ان تذهب معه وترى اين يعيش.
دامت العطلة من يوم الاربعاء حتى منتصف ليل الخميس, يقع مستشفى الريجنت شمالي النهر, بمجمعه الذي يمتد وسط شوارع ماهولة بكثير من البيوت والمصانع الصغيرة والابنية المهملة, لاحظت ايفاشامبرز استمرار حصول الشيء نفسه, عند نهاية كل يوم عمل طويل:
"اذا لم يمت الناس بسبب الحوادث في المصانع, فانهم يداسون بسيارة او يطعنون من قبل شاب ارعن."
طانت عطلة نهاية الاسبوع في الواقع هي الاسوا دائما, لذلك شكرت ميغان ربها على ان يوم الاربعاء اصبح قريبا.
صحيح انها لم تر اوسكار الا مرة او مرتين لمدة ساعة في مقهى قريب من المستشفى, الا انها كانت تخرج في ايام العطل للتنزه مهما كانت متعبة, لم يكن امامها خيارات كثيرة, فاكتفت بنزهة قصيرة كان الطقس رائعا وجميلا في نهاية اذار, فكان مريحا ان تتمشى في الحديقة الخضراء حيث يوجد الكثير من الاشجار والزهور الجميلة. تذكرت ميغان بفرح انها ستذهب في الاسبوع القادم مع اوسكار الى بيتها, وفي الاسبوع الذي يليه ستحصل على شقتها الخاصة, اذ ان احدى الممرضات ستتزوج, وهكذا فسوف تشغر الشقة الصغيرة التي عاشت فيها لسنوات عديدة, صحيح ان اوسكار لم يرحب بالفكرة, الا انها وجدت انها فرصة رائعة ليكون لها مكان تذهب اليه حيث تستطيع ان تطهو وتتحدث مع اوسكار. وهما نادرا ما يجدان وقتا للحديث.
عاد الجناح الى طبيعته الرتيبة, طلبات ادخال مرضى وتسريح الذين انتهى علاجهم, بالاضافة الى المعاينات وتحضير الوجبات, وتوزيع ايام العطل بين الممرضات ومواصلة صارعاتهن مع المسؤول عن الغسيل, الا انها اصبحت بعد اربع سنوات قادرة تماما على ادارة الجناح بكل تعقيداته.
كان اوسكارمشغولا حتى يوم الاحد, وعلى الرغم من انها كرهت ان تمضي يوم العطلة في البيت, وجدت الفرصة سانحة لتذهب الى الشقة وتجري التحضيرات اللازمة للانتقال اليها, كانت قد قابلت صاحب المبنى الذي يشغل الطابق السفلي ويؤجر الطابق العلوي لسيدة رصينة ارستقراطية, وهي , برايه, تضفي صيتا حسنا على الشارع المهمل.
على كل حال, سواء كان مهملا ام لا, فهو قريب من المستشفى, وفي الواقع كانت ميغان تتوق لكي يصبح لهاا شقة حتى ولو كانت في بهو, امضت ميغان معظم يوم السبت في ترتيب وتوضيب محتويات الشقة واغراضها مع المستاجرة السابقة, ووافقت على الاحتفاظ بالمفروشات البسيطة والاهتمام بقط شريد موجود في الشقة, اذ انه لامر جميل ان يكون لها في الامسيات رفيق لطيف ودود, عادت الى المستشفى ذلك المساء باكرا, متشوقة لكي تنتقل الى الشقة, وقد لاحظت برضى شديد ان قطع المسافة استغرق خمس دقائق فقط من البيت الى المستشفى.
انطلقت هي واوسكار باكرا في صباح اليوم التالي, بيت اهلها يقع في باكنغ هامشير في قرية صغيرة شمالي مدينة تايم, ويعمل ابوها كشريك في مؤسسة محاماة, وقد عاش معظم حياته في سوينلي, متنقلا بين مكتبه في التام وايلزبري, لقد ولدت هناك كذلك اخوها واختها, وعلى الرغم من انها تحب عملها الا انها كانت في اعماقها فتاة قروية, كانت تملك في الماضي سيارة صغيرة وتمضي عطلة نهاية الاسبوع في البيت, لذلك املت ان يحظى اوسكار على عمل في القرية, تصميمه على العمل في لندن ازعجها قليلا, كم تتمنى لو انه يمضي يوما في بيتها مما قد يحمله على تغيير رايه.
تبعد قرية سوينلي عن مستشفى الريجنت حواليستة اميالد قرية سوينلي عن مستشفى الريجنت حوالي ستة اميال, سلك اوسكار عندما خرج من الضواحي الطريق رقم 41أ وعندما وصل آيلزبري اتجه نحو طريق التام قبل ان يسلك الشارع الضيق المؤدي الى سوينلي.
"كنا وصلنا اسرع لو سلكنا الطريق 40م."
"اجل اعرف ولكن هذه الطريق اجمل, فانا لا احب الطرق السريعة, لكن يمكننا ان نسلك تلك الطريق في العودة اذا اردت."
شعرت ميغان بخيبة لقلة اهتمامه بالريف, فبعد تلك الطرق المضجرة حول المستشفى كان من الممتع ان ترى كل تلك الحقول الخضراء المملوءة بازهار الربيع والاشجار الصغيرة المخضرة, فقد اتى الربيع باكراهذه السنة.
بعد هذا المنظر الرائع سلكا طريقا اضيق من السابق يؤدي الى القرية, شعرت ميغان بسعادة عارمة عند رؤيتها قرميد البيوت الصغيرة وقالت: "نر من داخل القرية, بيتنا له بوارة بيضاء, انه الاول الى اليسار."
كانت البوباة مفتوحة, فسلك اوسكار الطريق القصيرة وتوقف امام باب بيتها المفتوح, كان بيتها من الطراز الفكتوري يعود الى القرن السابع عشر, فالجدران بيضاء ونوافذ خشبية تمتد امامه مروج مملوءة بورد الدفلى ومحاطا باشجار خضراء كبيرة.
نظرت بوجه مشرق الى اوسكار: "لقد وصلنا الى بيتي, ادخل فامي تنتظرنا."
كانت امها قد اصبحت فعلا على الباب, لا تزال امراة جميلة, بطول ابنتها تقريبا: "حبيبتي اتيت اخيرا وقد احضرت اوسكار معك ايضا." ثم حضنت ميغان وسلمت على اوسكار: "لقد سمعنا عنك الكثير ونشعر كانك واحد منا, تعال وقابل زوجي."
دخل السيد رودنر الى الصالة يحمل جريدة الاحد في يده ويضع نظارات على انفه. كان اكبر عمرا من زوجته بكثير ذا شعر ابيض كثيف وعينين رماديتين ووجه مربع.
حضنت ميغان اباها قبل ان تقدمه لاوسكار: "اخيرا تمكنتما من ان تاتيا معا, هل الباقيان هنا؟"
قالت امها: "انهما بالكنيسة ولكن سيكونان هنا خلال نصف ساعة, سنشرب فنجان قهوة ونتحدث قليلا قبل ان يصلا."
وصلت ميلاني وكولن بعد ذلك بقليل, كانت ميلاني بخلاف امها واختها, فهي فتاة خجولة ورقيقة, ذات جسم صغير نحيل, بشعر ذهبي وعينين زرقاوين, اعجب ابها كثيرا االى حد انه لم يبعد عينيه عنها. فرحت ميغان كثيرا لرؤيتهما, وشعرت بالحال انهما صديقاها. بعد قليل تركتهم ميغان يتحدثون وذهبت الى الحديقة لترى ارانب كولن ولتساعد امها في اعداد طعام الغداء.
لاحظت بارتياح شديد ان اوسكار يتصرف وكانه في بيته وان والديها احباه, كانت قد خططت لنزهة في الحديقة بعد الغداء ليتكلما قليلا عن مستقبلهما, الا انها عدلت عن الفكرة بعد ان لاحظت سعادته برفقة والدها.
وفيما كانتا تحضران الشاي قالت لها امها وهي تلمع الكؤوس: "لقد اعجبني خطيبك, يبدو انه حساسومستقيم. انا متاكدة يا حبيبتي من انه سيكون زوجا رائعا."
قالت ميغانبتردد: "اجلولكن لا اظن اننا سنتزوج قريبا, فهو مصمم على الاستقرار في لندن, وانا افضل لو انه يجد عملا في الريف امي. انا احب عملي ولكنني لا احب لندن, على الاقل الجزء الذي نعمل فيه."
"ربما يمكنك ان تقنعيه بتغيير رايه, فهو لا يريد ان يتخصص أليس كذلك؟"
"لا لكنه مصمم على الحصول على اكبر قدر ممكن من المؤهلات مما يعني العمل في المستشفيات لوقت طويل."
"حبيبتي هل اعجبت والديه؟"
قالت ميغان وهي تجفف اخر سكينة: "في الحقيقة والده هادئ ولطيف, الا انني حاولت جاهدة ان أحب والدته, ولكنها لا تحبني, فهي كما تقول لا تحب النساء العاملات."
"ولكنك لن تعملي عندما تتزوجين, أليس كذلك؟"
"لا اوسكار لا يريد ذلك, فهو يرى انه من الافضل ان يحصل على عمل فياحد المستشفيات التعليمية بينما اقيم انا مع والديه..."
قالت امها بحدة: "لكن ذلك لن ينفع, فماذا ستفعلين طوال النهار, كما انه لن يكون بيتك. ميغان بعد ان استلمت ادارة جناح لسنين طويلة لن يكون من السهل عليك ان تخضعي لام اوسكار, خاصة انك لا تحبينها..."
"ماذا سافعل؟ انها مشكلة أليس كذلك؟"
"اصبري يا حبيبتي, اعرف انه امر صعب ولكنها الطريقة الوحيدة."
عادا الى الريجينت بعد ان ودعا عائلتها وقبلتهم فردا فردا, والقت نظرة على كلب العائلة السلاقي المسن وعلى القطة كاندي, ثم قطفت باقة من ورد الدفلى لتزينبها شقتها.
سالت بعد ان استقلا السيارة: "حسنا, هل اعجبتك عائلتي؟"
"كثيرا, اخوك ذكي جداأليس كذلك؟ لا شك انه متفوق في المدرسة."
"اجل لحسن الحظ, فوالدي يريده ان يستلم مكانه في المؤسسة فيما بعد."
"اما اختك انها اخاذة كملاك خجول, انت لا تشبهينها ابدا." ثم اضاف عندما ضحكت ميغان: "ارجوك لا تسيئي الظن بي, فانت تعرفين ما اعني,هل تعمل؟"
"لا انها تساعد امي في البيت, ولكنها تطرز الابرة بشكل رائع, كما انها تلون وترسم وتصنع قفازاتها بنفسها, والاهم من ذلك فهي طاهية ماهرة."
"كانت العوامة التي تناولناها مع الشاي شهية, احب ان اتخيلها وهي تعمل في المطبخ..."
ارتبكت ميغان من الملاحظة, الا انها فضلت الا تخبره انها هي التي حضرت العوامة فيما كان يتحدث مع ميلاني في غرفة الاستقبال, انه امر طبيعي ان يظنها تجهل فن الطهي طالما انها مشغولة دوما في الجناح.
قل اوسكار بحرارة: "لقد كان يوما رائعا, لم استمتع هكذا منذ وقت طويل."
فرحت ميغان كثيرا بهذه الملاحظة فقالت: "اذاا يجب ان نعيدها مرة اخرى,لا تنس انني سانتقل الى شقتي هذا الاسبوع, اذا لم تكن مشغولا مساء الخميس يمكنك ان تاتي للعشاء."
بما انه لم يكن هناك احد,لثمها اوسكار على خدها قائلا: "ماذا سناكل؟ بازيلاء مع توست وقهوة طازجة."
"على الارجح, من الافضل ان تحضر معك زجاجة شراب, تصبح على خير."
قبل ان تذهب الى النوم, وضعت ميغان لائحة طعام ستجعل اوسكار يغير رايه عن البازيلاء.
غادرت المستاجرة السابقة يوم الاثنين, وفي مساء الثلاثاء هبت ميغان الى الشقة, واحضرت واحدا لينظفها لذلك لم يبق عليها سوى توضيب الشقة, وبما ان ميغان كانت غير مشغولة تلك الليلة, عادت الى المستشفى ووضعت معظم ثيابها في حقيبة وملات حقيبة اخرى بالكتب وعادت الى الشقة. عندما وصلت الى مدخل المستشفى تقدم منها الاستاذ بلفيلد واخذ الحقيبة من يدها.
"اسمحي لي, السيارة قريبة من هنا."
وقفت ميغان تنظر اليه ثم سالته بغباء: "السيارة؟ ولكنني ذاهبة.."
"الى شقتك الجديدة بلا شك, ساوصلك اليها في طريقي."
"هذا لطف منك ولكن في الحقيقة لا حاجة لذلك."
لم يجب بل وضع يده الكبيرة تحت مرفقها واخذ حقيبة الكتب وقادها نحو السيارة, انه لامر مريح ان تجلس بقربه, الا انها لم تستمتع كثيرا فلم تستغرق الطريق اكثر من دقيقة.
توقف امام بيتها العتيق, واخذ منها مفتاح الشقة ليفتح الباب ثم اضاء الشقة وعاد لياخذ الحقيبتين. صحيح بان الشقة بدت خالية الا انها كانت نظيفة ولا تحتاج سوى لبضع ارائك وازهار وصور ومدفاةصغيرة, كانت ميغان تقف في الصالة تشكر الاستاذ عندما مر القط به مسرعا.
"لك؟"
"اجل فقد قالت المستاجرة السابقة انها كانت تعتني به, ساحضر بعض الحليب, لا شك انه جائع."
تجمع بعض الصغار حول السيارة, ونظر الاستاذ اليهم ونادى اكبر ولد: "اذهب الى المتجر عند نهاية الطريق, اظنه ما زال مفتوحا, اشتر علبتين من طعام القطط وبعض الحليب." اعطى الصبي بعض المال وقال: "ستحصل على خمسين بنسا ان اسرعت."
"في الحقيقة لم يكن هناك حاجة..."
قال الاستاذ بكل ثقة ناهيا المناقشة: "الحيوان جائع, انت لا تنوين البقاء هنا هذه الليلة؟"
"لا سانتقل الى هنا غدا... عندي عطلة يوم الخميس, ساطهو عشاء رائعا فاوسكار سياتي, دكتور فيلدنغ."
قال ببرودة: "اجل اعرفه." بدا مستعجلا فارتاحت عندما عاد الصبي بسرعة حاملا الحليب وطعام القطط: "اعطها للسيدة." ثم اعطاه بعض المل قائلا: "أشتر لك ولاصدقائك بعض الحلوى."
نظر الصبي بسعادة الى المال وصرخ باتجاه الاولاد: "انت رجل طيب."
شكرت ميغان الاستاذ على مساعدته وتمنت له امسية سعيدة, ثم راقبته وهو ينطلق بسيارته, قبل ان تدخل الشقة لتطعم القط وتفك امتعتها.
بعد ان شبع القط جلس يراقبها, كان نحيلا جدا ومهملا, ولكنه سيصبح بقليل من العناية والدلال رائعا: "ليس لك اسم؟ بما انك تنتمي الى هذا البيت يجب ان يكون لك اسم. ترى من اين اتيت؟ منذ متى وانت تتجول في شارع ميريدث؟"
ربتت على راسه وقالت: "بالطبع هذا هو اسمك, ميريدث."
كان هناك باحة مهملة خلف البيت حيث يحتفظ المستاجرون بسلال المهملات, فتحت ميغان شباك المطبخ كي يتمكن القط من الدخول والخروج متى يريد, ثم وضعت له طعاما وتمنت له ليلة سعيدة, لم تكن مرتاحة لفكرة ترك الشباك مفتوحا, الا انها لم ترد ان تبقيه في الخارج لمدة طويلة. على كل حال كان حائط الباحة عاليا جدا.
كان الجناح مشغولا جدا في اليوم التالي, واقتربت ايام العطلة ثانية. شعرت ميغان بالذنب لانها ستاخذ عطلتها والعمل في المستشفى متراكم, ولكن جيني ستاخذ عطلة نهاية الاسبوع, مما يعني نهماكها في العمل لساعات طويلة.كانت ميغان متعبة جدا في المساءالا انها اكنت حرة حتى صباح الجمعة لذلك اخذت باقي اغراضها الى الشقة حيث استقبلها مريديث, رتبت السرير الذي يتحول الى كنبة في النهار وتناولت العشاء واطعمت القط ثم جلست قرب النار لتضع لائحة بالاغراض التي ستحتاجها للعشاء يوم غد.
اصبح كل شيء جاهزا الان مدت السريرثم اخذت حماما ساخنا ونامت بهدوء الى جانب ميريدث الذي تسلل الى السرير ونام على حافته.
فتحت ميغان عينيها حين تسلل الى السرير وتمتمت: "تحتاج الى حمام جيد." ثم اقفلت عينيها ونامت.
*
أنت تقرأ
الأستاذ الهادئ - بيتي نيلز
Romanceكانت ميغان تملك كل شيء تريده, عملا جيدا تمتعت بالقيام به وعائلة رائعة وخطيبا,اخبرها الجميع بأنه سيكون زوجا صالحا ومهتما. لكن فجأة انهار عالمها هذا, ولم تعد متاكدة من شيء. الا ان وجود الاستاذ الهولندي جاك فان بلفيد اعاد قليلا من الثقة في نفسها, التي...