٨- اللعب مع الموت .

648 17 0
                                    


حدقت أليدا غير مصدقة .. وتعاظم الأزيز المنخفض في أذنيها ليصبح هديراً ..
صفقت راحة يدها على الجدار الساخن لتدعم نفسها .. لم تكن تتوقع ما سمعت من مايس ..
في أكثر أحلامها جنوناً لم تكن تتوقع متحضرة لمثل هذا الطلب .
قالت مكافحة لتبقي صوتها ثابتاً :
_لا أصدق أنك تعني هذا .. لا يمكن أن تكون راغباً في الزواج بي .
بدأ اللون الرمادي في وجهه يتبدل إلى الأسمر الطبيعي .. وقال :
_ولكنني أعني ما أقول حقاً.
بدأت ترى مايس القديم يبرز مجدداً وهو يحس بنفسه يعود إلى السيطرة على الموقف .. مايس الهادئ الحازم , المتكبر , عاد ليمسك زمام الأمور ثانية .
سألها :
_ماذا يجب أن أفعل لأقنعك ؟ هل يجب أن أكون متودداً قديم الطراز وأركع على ركبتي أمامك ؟
هل يجعلك هذا تصدقين أنني جاد في طلبي ؟
هزت أليدا رأسها مستنكرة .. وحاولت ان تبعد يديها عن يديه لكنه امسكها بسرعة ..لم تصدق هذا التغير المفاجئ في مزاجه ..ليس بعدما بدر منه منذ قليل .. وكيف يمكنها أن تثق برجل يستطيع تغير تعابير وجهه وطريقة تصرفه من الانهيار إلى الإرهاب خلال بضع دقائق .. كيف يمكنه ان يعتقد أنها ليست الطريقة التي حشرها فيها غضباً ليعانقها رغماً عن إرادتها ؟كيف أن يفسر التمرد بأنه اهتمام ؟
جالت بنظرها مرعوبة لترى ما إذا كان كالب قد عاد إلى عمله في تهذيب الشجيرات ..لكنها لم تلمح له أثراً.. كان في داخلها إحساس يقنعها بعدم صوابية البقاء بمفردها مع مايس في ملعب التنس هو بالتأكيد لا يشكل خطراً داهماً عليها ,لكنها لا تستطيع أن تنسى بسهولة القساوة الفولاذية في عينيه ولا البأس البارد لقبضته .
قالت وقد أشاحت بنظرها بعيداً عنه :
_أحتاج إلى الوقت للتفكير مايس .. لا أستطيع اتخاذ قرار الآن بشأن الزواج بك أو عدمه.
كانت خائفة أن تقول له إنها لن تتزوجه .. كانت خائفة من إثارة غضبة مجدداً.
وضع يداً ناعمة وباردة على شعرها , فارتجفت دون إرادة منها :
_أليدا .. أنا مندهش إذ ليس من عادتك تمثيل دور العابثة .
_ليس الأمر هكذا .. يجب أن أعود إلى المنزل .. مارغريت تنتظرني .
بسيطرة قوية على النفس سارت مرفوعة الرأس عبر المرجة الخضراء الواسعة نحو المنزل .. كانت
تعرف أن مايس يراقبها لكنها لم تستدر إلى الوراء .
في غرفتها , أرادت صنبور الماء في مغطس الحمام , وتركت المياه تجري بأقصى قوة لها
كانت تدرك انها لن تستطيع غسل آثار لقائها بمايس , لكن الاستحمام جعلها تشعر انها أفضل حالاً .. لاشك أنها سترى مايس عما قريب , وأنه سيضغط ليحصل على ردها ..
وكانت مقتنعة بجدية عرضة للزواج .. لكنها لن تعطيه فرصة .
ارتدت تنوره حمراء وبلوزه زهرية بسيطة .. بينما كانت تفكر بتناول عشائها في غرفتها , تصاعد
قرع مستعجل على الباب .
كانت مارغريت :
_آنسه أليدا .. تعالي بسرعة !
حين فتحت الباب كانت مدبرة المنزل تقف في الخارج تفرك يديها :
_مارغريت ؟ ما الخطب ؟
_إنه كوكو .. لقد أفلت .. أرجوك أن تحضري لترى إذا كان بإمكانك المساعدة .
_كوكو ؟أتعنين قرد الأميرة ؟ ما الذي يفعله في زانادو ؟
ولحقت بمارغريت مسرعة على السلم .
_جاءت الأميرة تبحث عن مروحة أضاعتها في الحفلة الراقصة إنها غالية الثمن كما تقول ..
ورافقتها الآنسة تايثي .. ثم قفز كوكو .. ولم تستطيع أليدا فهم الكثير من شرح مارغريت المتلعثم , وسمعت زعيق الأميرة .. كانت تصيح :
_كوكو ! يا طفلي الحبيب !
وفتحت أليدا باب قاعة الرقص الكبيرة لتستوعب المنظر كانت الأميرة , بشعرها المنفوش
ذي اللون البرتقالي تقفز صعوداً ونزولاً على أرض باحة الرقص المنزلقة .. فوقها كان كوكو , وضحكة
انتصار على وجهه ,يهذر ويتأرجح من ثريا إلى أخرى .. انكمشت أليدا فزعاً حين رأت قطع
الكريستال ذات الرؤوس الحادة تتأرجح وترن بجنون .
استدارت الأميرة إلى أليدا :
_افعلي شيئاً ..لو سمحت ! انزلي كوكو لي !
بقيت أليدا مصدومة لحظات , ولم تستطيع الكلام .. وقفت الأميرة تنظر إليها .. لاحظت
أليدا أن تايثي تقف دون حراك في الزاوية ,عيناها تنتقلان من كوكو إلى أمها ,ثم إليها .
قررت أليدا أن عليها أخذا زمام الأمور فقالت للأميرة :ناديه.
ردت الأميرة ببرود :
_لقد فعلت هذا ..لكنه لم يستجب .
نظرت أليدا لترى أن كوكو أصبح فوقها تماماً , بدا معتداً بنفسه ,ماكراً , ومسروراً لانه تفوق ذكاء على البشر .. انتزع قطعة كريستال وصوبها نحو رأس أليدا .. لكنها كانت يقظة فانحرفت عن مكانها
لتقع القطعة إلى جانبها , وتتفتت على مئات الشظايا الصغيرة .
أطلقت مارغريت ,التي لا تزال تفرك بيديها , آهة صغيرة :
_هذه الثريات لا تقدر بثمن .. يجب ألا يقطعها .. يجب ألا يفعل!
قالت أليدا :
_مارغريت ,اذهبي وجدي كالب .. سنحتاج على أطول سلم خشبي في القصر كله.
نظرت مارغريت بإحباط إلى أليدا .
_ لكن كالب عاد إلى المطار .. فهل نسيت أن طائرة السيد بن ستصل هذا المساء !
شدت أليدا شفتيها .. وصمتت لحظة ثم قالت :
_يجب إذن ان تجدي السيد مايس .
_لقد خرج السيد مايس ليمضي الأمسية في الخارج , وقال إنه لن يعود إلى العشاء .
قالت مرغمة :
_إذن ربما استطعت بمساعدة تايثي إمساك السلم .
نظرت إلى تايثي .. وأيقنت على الفور انها لت تتلقى أي مساعدة منها ..فقد كانت تبعد نفسها , متجاهلة . قفز كوكو فوق الثريات , غير عابثة بهستريا امها .. في الواقع بدت عيناها مركزين على مكان وزمان آخرين كان واضحاً أنها مخدرة .
استدارت الأميرة مرة أخرى إلى أليدا :
_لو وقع كوكو وآذي نفسه , سوف..
ردت أليدا وقد طفح كيلها :
_سوف ماذا ؟
أجفلت الأميرة من حزم أليدا وجرأتها , فتلعثمت :
_سوف ..سوف ..
قاطعتها أليدا بصوت منخفض وثابت :
_سوف لن تفعلي شيئاً .. في الواقع ستضطرين للتعويض شخصياً عن الأضرار التي تسبب بها قردك المدلل .. وأؤكد لك الثمن سيكون باهظاً .
شهقت الأميرة :
_هل تجرؤين على مخاطبتي هكذا ؟
تابعت أليدا بالصوت المنخفض عينه :
وأكثر من هذا ..طالما أنا في زانادو .. فإن قردك غير مرحب به هنا هل هذا مفهوم ؟
_لماذا ..
_ليس هناك ما يجبرنا على التعامل مع حيوانات مدللة غير أليفه .
ولن أحرك إصبعاً لأساعد كوكو الغالي عليك , إلا إذا وافقت على تركه في المنزل حين تزورين هذا المكان .
سادت لحظة صمت طويلة .. أخيراً هزت الأميرة رأسها , وقالت مهددة :
_سأشكوك لمايس .. انتظري فقط حتى اخبره قصة التمرد هذه أيتها الموظفة .
_ أنا موظفة لديه .. وليس لديك .
لم تعقب الأميرة , بل ركزت نظرها بغضب على أليدا .. وفوجئت بتصفيق حاد من تايثي
التي قالت بصوت واضح وساخر :
_برافو ..
استدرت الأميرة بنظرها شرسة إلى ابنتها وقالت مهددة :
_انتِ اخرسي ..سيكون حسابك عسيراً في المنزل .
توقف التصفيق وغاصت تايثي مجدداً في الظل .. أحست أليدا بإشفاق غريب عليها .. فالعيش مع الأميرة له صعوبات , حتى لو كان في جو من الرفاهية والترف .
فكرت أليدا بسرعة .. تذكرت انها رأت سلماً خشبياً مرتفعاً في كوخ ملعب التنس ..غير أنها ليس قوية
بما يكفي لتحمله بمفردها ..وعاد كوكو يقفز من ثريا إلى أخرى , ويرمي من حين إلى أخر قطعة
كريستال دقيقة إلى الأرض ..يجب فعل شيء .. وبسرعة .. إذا أرادت أن تتجنب المزيد من الضرر.
قالت :
_مارغريت .. أريدك ان تتصلي بالمطار .. استعلمي ما إذا كانت طائرة بن ستصل في موعدها .. وإذا كانت ستتأخر , اطلبي مناداة كالب وقولي له أن يعود فورا إذا اضطر .. اما ّاا كانت الطائرة ستصل في موعدها ,فلينتظر ويحضر معه بن في أسرع وقت ممكن ..
أسرعت مارغريت لتفعل ما أمرتها به وأكملت أليدا :
_تايثي .. ستساعديننا كثيراً إذا ما التقطت قطع الكريستال التي يرميها كوكو على الأرض.
رمقتها تايثي بنظرات عدائية .. وفيما انحنت أليدا نافذة الصبر تلملم القطع الواقعة على الأرض لمحت من زاوية عينيها حركة سريعة , كانت تايثي تتسلل من قاعة الرقص .. وجمدت أليدا ..روادها
إحساس مخيف مقشعر كان يمر على مؤخرة عنقها .. إحساس دفعها لأن تلحق بتايثي دون تفكير. كانت تايثي تركض بخفة صعوداً على السلم المقوس , وتوقفت لحظة تنظر على أليدا التي صاحت بها :
_تايثي ..توقفي !
لم تأبه تايثي بها , وتابعت الركض على طول الممر,عند كل باب قليلاً , تبحث عن شيء ما..
ثم اقتربت أليدا منها بحيث رأت عينيها تلمعان بشدة .. ثم انطلقت كالسهم قبل أن تدركها ..
فتحت باباً صغيراً , وتسلقت سلماً حلزونياً في الداخل , وقالت اليدا
مخطوفة الأنفاس :البرج !
لم تكن تعرف ما تنويه تايثي , لكنها شعرت انها تضمر شراً وسمعتها أليدا تشهق لتتنفس وهي تتقدمها في الظلام فلم تشك بأنها تحتاج إلى من يساعدها في التعامل معها .
صاحت آملة ان تسمعها مدبرة المنزل : مارغريت !
وأسرعت خلف تايثي .. تحاول عبثاً إقناعها :
_تايثي .. أرجوك عودي لاشيء تفعلينه في الأعلى ؟
لكن دون رد. أخيراً , حشرت أليدا تايثي في غرفة المراقبة في أعلى البرج .. وقفت تايثي وظهرها إلى النافذة وكان المساء بلونه الرمادي قد بدأ يدخل الليل .
صاحت تايي محذرة :
_ابتعدي عني !
_تايثي , ماذا تريدين ؟ لماذا صعدت إلى هنا ؟
_انت ! لقد اكتفيت منك !لقد خطفت مني بن !
تراجعت أليدا مصدومة :
_تايثي .. أنا لم أخطف منك أحد .. انزلي معي فليس هنا المكان المناسب لمناقشة الموضوع .
سمعت اليدا وقع خطوات مارغريت على السلم الحديدي خلفها .. وفي مكان أبعد صياح الأميرة .
قالت تايثي :
_أريد بن أليدا .. وسأحصل عليه .
_تايثي .. البحث في هذا الأمر غير مناسب هنا .
كانت تتحرك نحو تايثي وهي تتكلم , متجاهله اللمعان الغريب في عيني الفتاة الخضراوين ,
ضربت تايثي يد أليدا الممدودة وتراجعت نحو النافذة ,تبحث عن قفلها .
بصدمة أدركت أليدا أن النافذة ليست نافذة .. بل هي بوابة خلفية .. لاحظت أليدا أن تايثي تهم بالخروج من الباب إلى المنصة الخطرة في الخارج .. فصاحت :
_تايثي ..لا!
أمسكت القفل وفتحت الباب ودون ان تنظر إلى الخلف نقلت ثقلها الشرفة الخطرة وصاحت محذرة:
_لا تلحقي بي !
سمعت اليدا شهقة مارغريت المذعورة حين فتحت تايثي الباب , وتنفست :
_آنس تايثي ..لا ..
ومن خلفها كانت تقف الأميرة التي صاحت بحدة :
_تايثي ..كفى سخافة !ابتعدي من هناك في هذه اللحظة بالذات !
لكن تايثي لم تخف .. ونظرت إلى والدتها بكراهية شديدة:
_ما خطبك أمي ؟ أتريديني ان أعود معك كي تستطيعي مراقبة الضرر الذي يسببه حبيبك كوكو الصغير؟ آسفة لأنني أزعجتك.. وضحكت بصوت أجش غير متعقل.
وخرجت أكثر فوق المنصة , وظهرها يستند إلى السياج المنخفض .. كانت الريح
قد بدأت تنفخ , وتطاير شعرها حول وجهها .. فأزاحته جانباً بيد مرتجفة .
همست مارغريت :
_آنسة أليدا .. يجب ان تنزل الآنسة تايثي عن المنصة هذه ..لقد حكم عليها أنها أضعف
من ان تحمل أي ثقل , منذ سنوات بعيدة . ومن المفترض ان تكون الأبواب إليها موصدة يمكنها
أن تقع من هناك بسهولة .
أمعنت أليدا النظر في السياج فأدركت صحة ما تقوله مارغريت كان السياج الضيق صدئاً في بعضة
أمكنة , ورأت أن القسم الذي تقف عليه تايثي ينحني بشكل خطير كلما تحركت.
قالت الأميرة :
_تايثي .. ارجعي إلى الداخل , إذا عدت , سأهديك ذلك المركب الذي أردته .. أو ربما ذلك العقد الألماسي الذي أعجبك في محل المجوهرات .. تعالي الآن, وتوقفي عن ألعابك السخيفة !
هزت تايثي رأسها وتكلمت بصوت منخفض لم تستطيع حتى أليدا القريبة اكثر منها أن تسمعه جيداً:
_مسكينة امي .. تحاول دائماً ان ترشوني بأشياء .. أشياء .. والمزيد من الأشياء
طوال حياتي .. متى تدركين أمي أنني لا أريد الأشياء ؟لا المراكب , ولا الألماس .. أنا
أبدو رهيبة وأنا أرتدي الألماس .. أمي .. ألم تدركي هذا بعد ؟
وأطلقت صوتاً هو مزيج من الضحك والبكاء .
قالت أليدا تحاول إقناعها :
_تايثي .. المكان خطر جداً في الخارج , هذه المنصة قد تفلت عن البرج ,عندها ستلاقين حتفك .
لم تكترث تايثي لما سمعته , فأكملت أليدا وقد بدأ صبرها ينفذ :
_ألا يمكن على الأقل ان تقولي لنا ماذا تريدين ؟
تطلعت تايثي إلى أراضي زانادو .. وقالت تايثي :
_ماذا أريد ؟ ما أريد .. هو بن .
تشاورت أليدا هامسة مع مارغريت , تسألها :
_متى سيحضر بن ؟
_إذا وصلت طائرته في الوقت المحدد لها سيكون هنا بعد وقت قصير .
نادت أليدا تايثي :
_إذا جئتك ببن إلى هنا .. فهل تدخلين ؟
فكرت تايثي قليلاً .. ثم مررت يدها على عينيها بقلق , وجعلت حركتها غير المدروسة السياج خلفها يترنح بحدة.
شهقت أليدا خائفة .. بينما راحت تايثي تحدق إلى الفضاء دون ان تنطق ولو بكلمة واحدة .
فكرت أليدا يائسة بطريقة أخرى تخرجها من هذا المأزق .. وقررت أن على مايس ,بصفته رب البيت
ان يعلم بما يجري .. هي تعرف ان بن يعي أكثر طريقة تفكير تايثي .. لكن
في ورطة كهذا يمكن لمايس أن ينقذها .
سألت مارغريت :
_أتعرفين أين هو مايس ؟
هزت مديرة المنزل رأسها نفياً :
_إنه غالباً ما يتناول عشاءه في مطعم "البحر" .. عدا هذا لا أعرف أين يمكن أن يكون .
_سأذهب لأفتش عنه .. قد يتمكن من مساعدتنا .. ابقي تايثي تتحدث , ولا تدعي الأميرة تثيرها , سأعود في أسرع وقت ممكن .
أسرعت أليدا تنزل السلم الحلزوني .. تدرك ان الوقت ضيق جداً أمامها .. كم تمنت لو كانت غير مجبرة على البحث عن مايس ,لكن لا خيار آخر لديها , الشيء المهم الآن , هو إنزال تايثي عن البرج .
وهي تمر أمام قاعة الرقص , رأت كوكو يجلس فوق الثريا .. ويبدو راضياً تماماً , وبما إنه لم يعد الآن مركز الاهتمام , فعرضه المثير توقف .. ولسوف تتعامل معه لاحقاً.
دون تردد فتحت باب الكاراج , وصعدت إلى السيارة .. كان المفتاح فيها لحسن الحظ , ودار المحرك رأساً .
لم تكن تعرف "وارث آفينيو" جيداً ولم تقد سيارة من قبل في الشارع .. على أي حال سرعان ما وجدت سيارة
مايس التندربيرد تقف عند إحدى الزوايا .. واكن أسهل رؤية لوحة مطعم "البحر"
فتوقفت أمام بابه ..
كان المطعم من الداخل أشبه ما يكون بحديقة عامة فيه برك تشابه في نوافيرها البرك الصخرية الطبيعية .
رفع كبير السقاة حاجبيه دهشة لرؤية أليدا تدخل راكضة في تنورتها البسيطة وبلوزتها , وشعرها
متطاير بجنون .. قالت له مقطوعة الأنفاس .
_أرجوك , هل لك أن تستدعي السيد مايس راولي ؟ الأمر خطير !أقنعة شيء في لهجتها
البائسة أنها جادة , فقد اختفى في المطعم وفي لحظة عاد ليقول :
_آسف .. السيد راولي ليس هنا.
_هل انت واثق ؟ هل تعرفه جيداً ؟
رفع كبير السقاة هامته إلى الأعلى متفاخراً :
_أؤكد لك أنني أعرف السيد راولي , وأكرر أنه ليس هنا .. ربما تجدينه في المقهى ..
_شكراً لك .
وانطلقت مسرعة إلى المقهى . كانت الأنوار في الداخل باهته , وهذا ما جعلها تتردد في الدخول وحدها
غير انها تذكرت تايثي الواقفة فوق المنصة المتداعية .. فسوت كتفيها مستقيمة وخطت
إلى الداخل , شاهدته فوراً يجلس مع مجموعة من أصدقائه حول طاولة وهو مستغرق في حديث
مع شقراء أنيقة .. رفع رأسه لحظة , وشاهدها واقفة , فعلا وجهه تعبير حيرة .. اعتذر
من رفيقته وتقدم نحو أليدا فقال بهدوء :
_هل أفترض أنك جئت إلى هنا لتزفي إليّ الخبر السار ؟هل أعلن لأصدقائي أننا مخطوبان ؟
وأشار إلى المجموعة التي يجلس معها .
هزت أليدا رأسها :
_ليس الوقت مناسباً لهذا الكلام .
وأغمضت عينيها لتتحاشى رؤية الغضب المتصاعد في عينيه .
_هل تجدين متعه في تركي معلقاً أنتظر ردك؟ أليدا لن أقبل أن تتلاعبي بي ..اعلمي أن عرض الزواج لا يصدر عني بسهولة , وإذا لم تعطيني رداً قاطعاً ..سأتصرف من تلقاء نفسي , وأعلن الخطوبة .
متجاهلة سخريته , أعلنت له القصد من مجيئها بأسرع ما تستطيع , وراحت تصف له منظر تايثي فوق السياج البرج والخطر الذي يتهددها , تبدل مزاجه من الغضب إلى عدم التصديق , ثم تحول مجدداً إلى الغضب وقال :
_ أفهم من كلامك أنك ما جئت بحثاً عني إلا لأجل تايثي فقط ؟لتقول إنها تحاول لفت الانتباه
إليها ؟ بالتأكيد لا تتوقعين مني أن أذعن لنزوة أخرى من تايثي ؟
وأدار ظهره لها .. فحاولت مجدداً :
_لا مايس .. الأمر أكثر من هذا .. إنها خرجت عن طورها .. يمكن أن تقع من البرج وتلاقي حتفها ..
نحن نحتاج لمن يساعدنا في إقناعها بالنزول .
بدا في عيني مايس بريق قاس:
_سأحضر فيما بعد .. حين أنتهي من شرابي .. اذهبي وقولي لتايثي ان تنزل من هناك فوراً .
سار عائداً إلى أصحابه, بينما هو يشرح لهم سبب المقاطعة التفت أكثر من واحد منهم لينظر إليها , وقفت أليدا لحظة .. وسمعت ضحكة مايس , لتدرك أنها لن تستطيع الاعتماد عليه في المساعدة.
عادت إلى زانادو بسيارة "الفولز واجن" متجاوزة كل حدود السرعة , حين توقفت أمام المنزل
نظرت إلى أعلى البرج خائفة مما قد ترى .
كانت تايثي لا تزال تقف على المنصة , شعرها يتطاير حولها ..والقمر تسلل من خلف الغيوم يغمر
البرج بنور خفيف .. ارتجفت أليدا .. وأملت أن يسعفها عقلها بفكرة أو .. بطريقة .. أيه طريقة ..
لإقناع تايثي بالنزول من ذلك المكان المرتفع المحفوف بالمخاطر.
سألتها الأميرة ما ان دخلت غرفة البرج :
_هل وجدته ؟
هزت أليدا رأسها إيجاباً .. وعيناها مثبتتان على وجه تايثي التي كانت تقف في الخارج فوق زانادو , وجهها خالٍ من أي تعبير .
ردت بلهجة تتكلف فيها الإقناع :
_انه .. سيأتي قريباً .. كيف حالها ؟
همست مارغريت :
_لاشيء تغير .
قالت أليدا همساً بدورها :
_لم تستطيع إقناع مايس بالمجيء معي .. قال إن تايثي إنما تحاول فقط لفت الانتباه إليها .. إنه
لا يأخذ تصرفها على محمل الجد .
قالت مارغريت :
_أنه معذور في إحساسه هذا .. فلطالما تصرفت تايثي كطفلة مدللة .. لكن هذه المرة .. الأمر مختلف .
_هل اتصلت بكالب في المطار ؟
_لقد وصلت طائرة السيد بن في موعدها .. ويتوقع أن يصلا قريباً
أحست أليدا أن من الواجب عليها قول يء فعل شيء .. فتقدمت إلى الأمام , وبدات تتحدث
إلى تايثي بصوت هادئ :
_تايثي .. لقد عرفنا مكان بن سيحضر سريعاً .. إنه في طريقة إلى هنا الآن , حين يصل
أدريك أن تعودي إلى الداخل , وسنترككما معاً لتتصارحا .
أدارت عينين فارغتين إلى أليدا :
_بن لقد أخذته مني !
_لا تايثي .. سيحضر بن سريعاً .. وسيتحدث إليك .
أدركت أليدا أن الفتاة فقدت سيطرتها على الموقع , وربما هي الآن تائهة في أرض خيال كئيبة
من وحي تصوراتها ومن المستحيل التعامل معها الآن على أساس واقعي .
أشارت إلى الأميرة ومارغريت بالبقاء حيث هما .. وتقدمت ببطء نحو تايثي .. كانت قبضتها على السياج
المترنح تقلقها .. وفكرت أن تقترب منها يكفي لتمد يدها . لو أن تايثي تقبل يدها ,
فسيكون هذا ضمانه لعدم وقوعها فيما لو انهارت المنصة.
بدا أن تايثي لم تلاحظ تقدم أليدا الثابت البطيء نحوها , وعادت لتنظر شاردة الذهن بفراغ رهيب
وصلت أليدا إلى الباب الصغير , لكن ما إن وضعت يدها على إطار الباب حتى تكلمت تايثي :
_توقفي أليدا .. الزمي مكانك .
_تايثي .. أنا أريد أن أساعدك فقط .. أريد أن أقف إلى جانبك إلى أن يصل بن .
_بن؟وهل بن قادم؟
أجفلت أليدا وغمرها إحساس باليأس .. بكل تأكيد تذكري تايثي أنها أخبرتها بأن بن قادم!
أم أنها لا تتذكر؟
ضاقت عينا تايثي تنظر حولها بارتباك , ثم ترنحت والهواء يلفح ظهرها
..سألت بصوت مرتفع:
_أين أنا؟ لماذا تردينني أن أقف هنا ؟
عادت أليدا وضع يدها على إطار الباب , وقالت بنعومة :
_نريدك أن تعودي إلى الداخل الآن.. أرجوك .. خذي يدي.
مدت يدها نحو تايثي ,التي مررت عينين خضراوان قلقين على وجه أليدا ..ثم صاحت فجأة:
_لا أريد مساعدتك .. ابتعدي عني !
تراجعت أليدا خائفة من العدائية البادية على عيني تايثي , وهي تشعر في الوقت عينه بالإحباط.
قالت مارغريت :
_أسمع شيئاً ..ربما يكون كالب والسيد بن .
قالت أليدا دون ان تزحزح نظرها عن وجه تايثي :
_هذا ما أرجوه.
شهقت الأميرة من خلفهما .. كانت تايثي لا زالت بعيدة عن التجاوب , لكن هذا لم يمنع الأميرة
من أن تنظر إلى أليدا بشيء من الأمل والإعجاب, ومع ذلك لم تتكلم.
قالت أليدا:
_بسرعة مارغريت .. اذهبي وانظري من القدام .
بعد بضع دقائق , تنفست أليدا الصعداء لسماعها صوت بن في الردهة السفلى .. في لحظة, كان قفز السلم ثلاث درجات دفعة واحدة وفي أثره جاءت مارغريت وكالب .
استوعبت الموقف فوراً :فتاة على الشرفة حديدية مهزوزة ومخدرة بدا وانها فقدت التواصل مع الواقع..
وجه أليدا المتوتر ,والأميرة الصامتة بشكل غريب.
قال لكالب :
_اعطني حبلاً.
غادر كالب مسرعاً وعاد يحمل حبلاً , ولم يضع بن وقتاً في ربط انشوطة في نهايته ,ثم قال لأليدا:
_سوف أكلمها ,في هذه الأثناء سأخرج إليها , وأدس الحبل فوق رأسها وكتفيها أريدك أن تمسكي الطرف الآخر حين أصل بالحبل إلى خصرها , أريدك أن تجذبي ..هل فهمت ؟
همست أليدا , مرتاحة للتخلي عن زمام الموقف لشخص آخر :
_أجل .
أمسكت طرف الحبل وراقبت بن يسير بحذر نحو تايثي ..راقبته تايثي بالطريقة المتحفظة

ذاتها ,وكأنما من مسافة بعيدة .
قال لها :
_ستكونين مرتاحة اكثر لو جئت إلى هنا , قربي .. ما رأيك لو تمسكين بيدي لأساعدك على الدخول؟
_أحب الوقوف هنا .. إنه بارد جداً
اقترب منها أكثر :
_بإمكاننا فتح الأبواب هنا .
_ابتعد عني .. أنت قريب جداً .
_لا تخافي , نحن صديقان .. ألا تذكرين ؟
_انت صديقها .. ولا يمكنك أن تكون صديقي أيضاً .
قال بصبر متقدماً :بالطبع أستطيع .
لم تلاحظ تايثي تحركه حبست أليدا أنفاسها . كانت قدمه تكاد تلامس المنصة المهزوزة لكنه لم يكن قريباً بما بكفي لوضع الحبل حولها .. يجب أن يخطو إلى الخارج أولاً .. فهل سيتمكن
من هذا دون أن يرسلهما معاً إلى الموت ؟
هبت ريح باردة عبر الباب وارتجفت أليدا .. في الخارج , بدت تايثي غير مكترثة بالريح.
أصبح بن قريباً بما يكفي منها .. لحظات وسيتمكن من رفع ذراعية لرمي الحبل من فوق رأسها ..ولم يبدُ على بن انه يلاحظ ترنح المنصة أو تزايد قوة الريح , فقد كان يركز على ما ينوي عمله..ببطء وضع الحبل فوق رأسها .. وبحركة سريعة دسه حولها .. فصرخت صرخة مدوية حادة طويلة.
صاح بن :
_اليدا ..شدي !
وشدت أليدا الحبل بمساعدة مارغريت وكالب , ليجذبوا تايثي نحو السلامة .. وكان هذا في الوقت المناسب
تماماً إذا أن جزءًا منفلتاً من السياج الحديدي انفصل عنه وتهاوى على الأرض أمام المنزل
مطلقاً صوتاً مدوياً .
أخيراً أصبحت تايثي سالمة .. متداعية إلى الأرض ككومة مهملة .. أما أمها ومارغريت فقد انحنتا فوقها للمواساة .
صاحت اليدا :
_بن هل انت بخير ؟
ورمت نفسها بين ذراعية , فضمها إليه .
_انا بخير .
_لست ادري ماذا حصل لها بن .. لقد ركضت إلى هنا , وخرجت إلى المنصة .
_أعرف.. أعرف .. لاشيء كان يمكن أن تفعليه لمنعها .. كنت أعرف بمشاكلها منذ زمن بعيدا
لذا لم يدهشني .. كنت اتمنى لو أنك لم تضطري إلى التورط .
تركته يحتضنها .. أغمضت عينيها ومالت إلى صدره تستمع إلى دقات قلبه الثابتة المطمئنة .
لم تفتح عينيها إلى أن سمعت من يصفر وهو يصعد السلم اللولبي , وانفتح باب غرفة البرج بقوة ليقف مايس هناك يراقب ببرود المنظر أمامه .
لم ينظر إلى تايثي المتلفة ببطانية دافئة سوى نظرة فضول , ثم ركز نظره على أليدا ملتفة بذراعي بن , أحست أليدا أنها محمية , ولم تشعر بالذعر من تنفس مايس الغاضب ,
مع ذلك انكمشت تلتصق ببن حين رفع مايس إصبعه في وجه أخيه.
صاح مايس بغضب :
_بندكت .. ما معنى هذا؟
خطاء إلى الأمام وقبضتاه مشدودتان إلى جانبية .. واكمل:
_من الأفضل لك أن ترفع يديك عن خطيبتي فوراً !

على باب الدمعحيث تعيش القصص. اكتشف الآن