اشتدت ذراعاه من حولها في ردة فعل للحظة قصيرة , وسرعان ما تراجع إلى الوراء غير
مصدق لما سمع , كان وجهه أحمر , وعيناه تبحثان عن جواب في وجه أليدا المصدوم , حين لم يجد فيه ما يطمئنه , بدا وكان نوراً انطفأ وراء عينه تاركاً أليدا وحدها في ظلام.
قال بحذر :
_أسف .. لم يكن لذي فكرة .
أشاح بنظره , ومر أمام مايس مسرعاً إلى السلم .. صاحت أليدا في وجه مايس , والغضب
يتصاعد في داخلها :
_مايس .. كيف تجرؤ على قول هذا ؟ ليس هناك خطوبه ..أنا لم ..
رفع مايس رأسه إلى الوراء ورد مبتسماً :
_حقاً ؟حين تعودين إلى رشدك , سيكون هناك خطوبة .. في الوقت المناسب .
التفتت أليدا إلى تايثي التي بدأت تستعيد وعيها , وعندما سأل مايس ببرود:
_ما الذي حدث لها ؟
_أخبرتك بما كان يحدث جئتك إلى المطعم البحر .. لقد أنقذها بن قبل ان تسقط عن المنصة
ثم أغمي عليها .. على الأقل هي سالمة الآن .. ولا فضل لك في ذلك .
انحنت أليدا تساعد تايثي على الجلوس , وقالت مارغريت:
_سنساعدك على النزول إلى الأسفل ,, بإمكانها ان ترتاح بينما تقرر ما ستفعل.
وقفت الأميرة:
_لقد قررت ما هو الأفضل لابنتي .. استدعوا الإسعاف , يجب أن نعرضها على أفضل الأطباء ,وربما على الطبيب النفسي في تلك العيادة الخاصة في سويسرا.
وأكملت تهذر غير واعية أن لا أحد يستمع إليها ,, فقد أوقفت أليدا ومارغريت تايثي على قدميها ,
وبدت مصابة بدوار , ولا تعرف أين هي .
قالت أليدا:
_استندي إليّ تايثي .
تمكنت أليدا بمساعدة مارغريت من إنزالها على الدرج المنحدر فيما كانت الأميرة تثرثر خلفها
دون اكتراث بها ,وكان مايس يرافقها .. حين أوصلتا تايثي إلى أريكة في غرفة الاستقبال
استدارت مارغريت إلى أليدا قائلة بإشفاق :
_اذهبي الآن عزيزتي ..لقد عانيت من توتر شديد اليوم, وربما لديك مسائل خاصة تحتاجين لانجازها ونظرت إلى مايس نظرة ذات مغزى .
قالت أليدا والتعب يطغى عليها : أجل
فقد اكتفت من مشاكل الآخرين وعليها الآن أن تهتم بنفسها .. لكن الأميرة قالت :
_عليك أولاً أن تجدي كوكو .. لا يمكن السماح له بأن يبقى طليقاً .. قد يؤذي نفسه.
كوكو ! أمام المأساة التي كادت تقع في الساعة الماضية , اختفى القرد من تفكير أليدا تماماً
فكرت على مضض بالأضرار الفادحة التي يمكن للقرد أن يسببها لكنوز القصر التي لا تقدر بثمن .. فتخطت مايس مذعورة , وركضت إلى القاعة الرقص لتنظر إلى الثريات الضخمة .. لكنها لم تجد كوكو !
راحت تفتش في الأروقة , تنظر نحو الطاولات والمقاعد المذهبة .. توقفت لحظة في الردهة
ولاحظت أن باب المكتبة الذي نادراً ما يكون مفتوحاً .
كان النور هناك خافتاً , ولم تستطيع ان تجد الزر الكهربائي , نظرت في العتمة مدركة انها لن تراه حتى لو كان موجوداً , سمعت صوتاً خفيفاً آتياً من الظل , فاستدارت بسرعة لتتأكد من مصدر
الصوت الذي كان يطلق أنيناً كأنين طفل .
رأت بارتياح في النور الخفيف المنبعث من الباب , كوكو متكوراُ يرتجف بين وسائد الأريكة المخملية الطويلة قرب المدفأة.
هلعت لتصرفه الجبان , ونادت :كوكو!
مد يديه نحوها وعلى وجهه تعبير بائس محروم .. كان مذعناً كالطفل , حتى أنها نسيت غضبها ,
فجلست إلى جانبه , وتركته يزحف إلى حجرها , وسرت بعد تفحصه لكونه سالماً غير مصاب بأذى .. لا شك أنه خائف بسبب تركه وحده .
بما أن الأميرة كانت مشغولة بابنتها , لم تعرف أليدا ما هي الخطوة التالية.. وتعلق كوكو بها
حين وقفت يلف ذراعية حول عنقها .. ووقف كالب بالباب , وابتسم حين رأى كوكو يعانق أليدا .
_آنسة أليدا .. كنت أبحث عنه ! وساورني قلق من أن يتسبب بالمزيد من الأضرار, على كل حال , سأحتفظ به في شقتنا إلى أن يعود إلى منزلة .
لدينا صندوق كرتوني بإمكانه الارتياح فيه.
تحرك كالب بسرعة , و كوكو على كتفه .. أما أليدا فقد لمحت بن وهو يمر قرب الباب ,فصاحت :بن !
استدار لسماع صوتها , لكنه بقي متحفظاً .. لم يكن في لقائهما ذلك الدفء الذي اعتادت
ان تراه .. لا تواصل أو تفاهم بينهما .. مع ذلك كانت مصممه على التحدث إليه لسببين : أولاً لكي تخبره عن اتصال جورج سايلور ورسالته الغامضة .. وثانياً لكي توضح له أنها ليست خطيبة مايس , ولن تكون :
_بن .. أريد أن أتحدث إليك .. أرجوك .. يمكن أن ندخل المكتبة .
تقدم نحوها دون أن يتكلم محاذراً أن تلتقي نظراتهما .. فتقدمته نحو المكتبة , ووقفت أمام المدفأة الكبيرة وقلبها يخفق بسرعة كانت مضطربة بحيث التصق لسانها بسقف حلقها وأحست بتعرق يديها .
نجح بن في أن يجد زر الكهرباء الذي راوغ أليدا وبكبسة من إصبعه انبعث إلى الحياة
المصباح الإسباني القديم الطراز , المعلق في السقف باعثاً النور مما جعلها ترفرف عينيها .. واستدار بن نحوها فجأة.
بدأت تقول :
_تلقيت مكالمة اليوم من جورج سايلور ..
أشار بيده يقاطعها :
_لقد اتصل بي في العاصمة .. ونقل إلي بعض الأخبار التي قد تسرك .
أجفلت : ما هي ؟
سمعا حركة قرب الباب , فإذا بمايس يستند بغير اكتراث إلى الباب ينظر إليهما ببرود .
وردد سؤالها :
_صحيح بن .. ما هي ؟
رد بن بلهجة منتصرة :
_أدخل مايس .. من الأفضل أن تسمع هذا أنت أيضاً.
بدأ الشك يبدو على وجه مايس , وقال بسرعة :
_ربما يجب أن نؤجل هذا النقاش إلى الغد .. ساعتها, أنت وأنا يمكننا البحث بالأمور على حدة.
ونظر إلى أليدا , فقال بن بحزم:
_لا .. أريد الانتهاء من هذا الأمر .. الآن .
نظرت أليدا إلى بن بلهفة وقالت في سرها وآمالها تتصاعد :
_لا شك أنها أخبار جيدة تتعلق بزانادو .. يجب أن تكون هكذا !
_مايس . انت تعلم أنني كنت اليوم في العاصمة للحديث مع الحاكم .. يبدو أن زانادو أعطى إرجاء مؤقتاً للحكم عليه .
صاح مايس وقد بدأ وجهه يشحب :
_ماذا .. ماذا تعني ؟ سيباع زانادو إلى مؤسسة كاونت , كما هو مخطط !
قال بن ببرود :
_ لا .. لن يحصل هذا , أعرف أن كاونت لا تستطيع الوفاء بالعقد .. كما عرفت اليوم أن ولاية فلوريدا تعتزم الحفاظ على زانادو و تحوله إلى متحف .. لذا عليك أن توقف مجيء البولدوزر.
نظر مايس إلى بن نظره طويلة ملؤها الريبة .. وبدا للحظات مضطرباً .. وواجه بن بنظرته بثبات وهو يقول :
_لا أصدقك بن .. لقد لجأت إلى خداع قذر .. ولا يمكن أن يكون ما تقوله صحيحاً .
_بإمكانك التأكيد بنفسك من ديفد تاكر في مؤسسة كاونت .. لقد ألغيت الصفقة , ولم يستطيع
جورج سايلور توقيع العقد في الوقت المناسب بسبب حادثة تزلج.. حين اكتشف أنك وتاكر تحولان الدفع بالعقد لتمريره , غضب وأقسم أنه لن يوقعه أبداً.
_أكد لي ديفد تاكر أن سايلور سيوقعه .
_مؤسسة كاونت تشتري أملاكاً في طول ساحل فلوريدا وعرضه لبناء مجمعات سياحية .. وهم
متورطون في العديد من الاتفاقات الآن .. وظن تاكر أن سايلور سيوقع عقد زانادو
دون سؤال .. ربما كان سيفعل .. لو لم أصل إليه أولاً .
لم يصدق مايس ما سمع : أنت ؟
رد بن بعناد :
_أجل مايس .. أنا .. لقد كان مستاءً جداً حين علم ان احد الممتلكات التي ستشتريها شركته هي زانادو ..
إنه كما تعلم مولع بالأنتيكات , ولن يشارك بإرادته في تدمير زانادو الشهير .. وتعرف هذا أيضاً .
بدأ وجه مايس يتجعد من شدة غضبة , وتمتم : لا أصدق !
بذل مجهوداً عظيماً ليستعيد رباطة جأشه .. وانتصب ينظر إلى بن قائلاً بلؤم :
_سأنتقم منك بن .. صدقني .. سأنتقم منك .
هز بن كتفيه :
_لا يهمني ماذا ستفعل مايس طالما أن زانادو أصبح بأمان الآن .
تجاهل مايس بن , وتابع :
_كان يجب ان أعرف .. لقد أبلغتك جاسوستك الصغيرة بخبر حادثة سايلور .
اختنق صوت أليدا في حلقها :
_هذا غير صحيح !
التفت مايس إليها :
_هل جزاء من أدخلك منزلة وأمن لك العمل أن تسرقي السمع إلى محادثاته لتكسبي معلومات
تستخدمينها ضده ؟ كم يدفع لك ؟
لم تستطيع أليدا تحمل ازدراء مايس المهين :
_أنه لا يدفع لي شيئاً ..فأنا ..
قال يهمس بكراهية :
_أوه .. إذن أنت تفعلين هذا مجاناً !
تدخل بن قائلاً :
_لا شأن أليدا بهذا , دعها جانباً .
نقلت أليدا عينيها إلى وجه بن .. وأحست انها في دوامة متسارعة .. وما آلمها أكثر اقتناعها أنها مهما حاولت إبعاد نفسها عن الموقف , سيساء فهم كل ما تقول .. فوقفت صامتة , تحدق إلى بن برجاء وامل أن ينجدها .
قال بن :
_وماذا عن عرضك للزواج بها مايس ؟ منذ برهة وجيزة كنت تقول إنكما خطيبان .
رفع شفته إلى الأعلى مكشراً بسخرية :
_خطوبة ..؟ زواج ؟ لا تكن مجنوناً ! لماذا أريد أن أتزوجها في وقت أحصل فيه على أي فتاه أريد ؟
معها ولديها مركز اجتماعي .
تراجعت أليدا إلى الوراء ويدها على عنقها المرتجف كعصفور مذبوح .. وقالت :
_لقد طلبتني للزواج .. لكنني لم أوافق أبداً .
نظر بن إليها ثم إلى مايس , وسأل :
_هل هذا صحيح مايس ؟
_إنه صحيح . كانت أليدا أحد الأسلحة الكثيرة التي أردت أن أحاربك بها .. وفعلت .. وضعت خطتي بإحكام , غازلتها , وأبديت اهتمامي بها آملاً ان أكسبها إلى جانبي .. ولم يكن
هناك شك عندي أنها كانت جاسوسة لك .. ولو إنني تعاملت بشكل جيد , لأصبحت جاسوسة مزدوجة ممتازة , لكنني كنت على خطأ.
تقدم مايس إليها .. فأحست بقشعريرة ذعر وهو يمد يده إليها وأجفلت حين لا مست أصابعه الباردة خدها :
_انت جميلة جداً عزيزتي .. في الواقع كدت أقع في حبك .
صاحت أليدا , تحس لن تتحمل المزيد :لا تلمسني !
أوقد استغلالها من قبل مايس أفكارها وأشعل غضبها , ولم يكن غضبها من بن أقل من غضبها من مايس .
لقد سئمت الخجل من المجتمع الراقي .. سئمت النفاق والخداع .. سئمت ان تعلق دائماً وسط موقف لا تريده ولا تفهمه . فخلصت مبتعدة عن الأخوين , ووقفت قرب المدفأة الكبيرة تواجههما معاً ..لتقول بغضب :
_لقد اكتفيت ! جئت إلى هنا لأجل العمل فقط .. فأصبحت متورطة ضمن عائلة غريبة الأطوار , ونزاع سخيف بين أخوين يصران على استغلالي كمخلب في لعبة السلطة ! حسن جداً .. لست مضطرة لتحمل هذا ولن اتحمله ! سأرحل .. إذا كنتما ستستمران في ألعابكما الصبيانية السخيفة , فافعلا هذا بدون .. سأترك زانادو غداً !
تجاهلت وجهيهما المصدومين .. وعصفت خارجة من الغرفة , تصفق الباب وراءها ..
واتجهت إلى غرفتها متوقفة أحياناً لتمسح دموع الغضب عن عينيها .
كانت ليلة طويلة , وكانت تغفو وتصحو بالتناوب لتعود إلى أفكارها المؤرقة.
حين هربت من المكتبة , توقعت ان يلحق بن بها ليحتج على تركها زانادو , لكنه لم يفعل .. وبالرغم من أنها كانت المبادرة في إنهاء علاقتهما , إلا أن فكرة الهجران ظلت تشغل بالها .
لقد جاء بن ببٌعد جديد إلى حياتها , أيقظ بداخلها أحاسيس عميقة تعد بالتطورإلى علاقة أكثر عمقاً من أي علاقة عرفتها من قبل .. كانت تخشى أن تكون قد أساءت قراءة الوعد في عينية .. أو أن يكون الانجذاب الذي أحست به غير مشترك .. ومع انحسار الليل وفقدانها الأمل في ان يتصل بن بها , أدركت على مضض أن حلمها بمستقبل
يجمع بينهما قد أصبح سرابأً .
في الصباح التالي , زارت مارغريت وكالب في شقتهما الصغيرة , وأخبرتهما عزمها على
مغادرة زانادو .. وهذا ما أشعرهما بالدهشة والانزعاج , ثم أشار كالب إلى غرفة مخزن صغيرة .. حيث بدت في الزاوية لفافة من الورق الأسمر .
جذب كالب اللفافة : انظري .
صاحت أليدا باستغراب :
_انها سمكة السليفيش التي اصطدتها !
كان قد اعيد جمع السمكة وحشوها وتحنيطها لتبدو كما كانت وهي حيه , زرقاء فضية لا معة
بزعنفة مرفوعة وفم حاد كالرمح .
_لقد وصلت هذا الصباح .. وبالطبع سترغبين في شحنها إلى شيكاغو ..
أعطته عنوان شقتها , وأكد لها انه سيهتم بأمر شحنها بنفسه .. وحثها على الانضمام إليهما لتناول فنجان شاي , فقبلت دعوته بامتنان .
قالت مارغريت وهي تلاحظ الدوائر الحمراء تحت عينيها :
_أتمنى ألا ترحلي .
_أشعر أن عليّ الرحيل .. بإمكانهما تكليف شخص غيري لإكمال عملية التقييم .. أظن أنني ما عدت قادرة على تحمل تصرفاتهما أكثر .
ودخلت المكتبة لتلقي نظرة اخيرة على مسرح شهد نهابة مؤلمة ليلة أمس .. ثم أقفلت الباب
بهدوء .. وكأنها تغلق فصلاً من فصول حياتها .
وابتسمت لنفسها وهي تصعد السلم الحجري المقوس الكبير , إنها تتذكر أول يوم لها في زانادو .. يوم لحقت ببن مضطرة وتتبعته على هذا السلم وبنطلونها الجينز الواسع والكنزة الفضفاضة . كان هذا منذ وقت قصير جداً ..
ومع ذلك .. بدا طويلاً بالنسبة إليها .
دخلت غرفتها وفتحت أبواب الخزنة الكبيرة واستعادت حقيبتها من رف مرتفع .. وأخذت
تطوي بحذر كل قطعة ثياب وتضعها بعناية في الحقيبة .
حين وصلت إلى الساري الأرجواني والفضي ترددت .. وأمسكت الطيات الناعمة للقماش
على حدها لحظة , متذكرة الحفلة الراقصة .. هل تريد ان تأخذ معها هذه الذكرى لذلك المساء المليء بالأحداث ؟أم من الأفضل تركه خلفها لتوفير
على نفسها بعض العذاب الذي لا شك ستشعر به كلما شاهدته ؟
ثم تذكرت وقوفها على الشاطئ , والريح تلاعب شعرها وهي تقف في ضوء القمر ليرسمها بن .. لا .. ليس ذكريات تلك الليلة جميعها سيئة .. بل هناك أحداث سعيدة تتذكرها هكذا طوت الساري ببطء تمرر أصابعها فوق طياته الرقيقة قبل أن تضعه في الحقيبة .
حين أنهت توضيب ثيابها , ظهرت مارغريت ومعها صينية الغداء فجذبت أليدا الطاولة المستديرة الصغيرة إلى النافذة حيث تستطيع النظر إلى المحيط المفتوح .. ركزت الستائر الحريرية على جانب واحد , وفتحت النافذة , تتنشق الهواء المالح إلى أعماق رئتها ..
أجل ستشتاق للشاطئ أكثر من شوقها لزانادو.
اغتنمت الوقت المتوفر لديها بعد غدائها المتأخر , لتمشي للمرة الأخيرة على الشاطئ قبل أن ترتدي ثيابها , وتلحق بموعد الطائرة .. ارتدت فستاناً قطنياً بسيطاً أحتضن جسدها بخفة .
سارت عبر بستان البرتقال , ولم تستطيع منع نظرها من التسلل إلى الكابينة .. إنها هادئة الآن , وتشك ان يكون بن بداخلها .. وهذا أمر جيد إذ ليس لديها الرغبة في مقابلته قبل أن ترحل .. ويكفيها ما نالته من إساءة ليلة أمس .
سارت على الشاطئ , بعيداً عن الكابينة , اعجبتها مجموعات الصدف عند خط الماء فراحت بين الفينة والأخرى تنحني لتلقط واحدة تضعها في جيبها .. حتى جمعت تشكيلة جميلة متعددة الألوان والأشكال .. وقدرت أنها ستكون زينة حلوة لرف الكتب في شقتها .. ولم تعرف لنفسها أن الأصداف المعروضة على رف مدفأة كابينة بن هي التي أعطتها هذه الفكرة.
مر الوقت بسرعة . وظلت عينيها من وهج الشمس وه ترفع بصرها محاولة الحكم كم مضى عليها
من الوقت منذ تركت غرفتها .
قدرت ان الساعة حوالي الخامسة .. واستغرقت دون وعي منها في تأمل أبراج زانادو التي كانت تلمع ذهبية تحت أشعة شمس ما بعد الظهر .. وأحست بالرضى لانه لن تحل مكانها أبراج من زجاج وأسمنت .. ربما ستتمكن يوماً من العودة إلى بالم بيتش وان تزور زانادو كسائحة بعد ان يصبح متحفاً .
كانت مستغرقة في أحلام يقظتها حتى أنها لم تلاحظ الطيف الطويل السائر إثرها في ثوب السباحة
كان يسير بثبات , ويداه في جيبي سترة مانعة للريح , وخصلة شعره التي لفحتها الشمس
تتدلى على جبينه ..
لما وصل إليها توقف ليشاركها الإعجاب بالأبراج المرتفعة .
قال بنعومة قرب إذنها :
_إنها جميلة .. أليس كذلك ؟
التفتت على الخلف مجفلة لتجد بن يقف أمامها , قالت بعد برهة :
_أجل .. كنت ألقي نظرة أخيرة على الأبراج لأختزنها في ذاكرتي إلى الأبد .
قال بن بصوت حاد :
_أنت إذن راحلة حقاً ؟
_هذا المساء .. لقد جمعت بعض الأصداف لأزين بها شقتي , وكان يجب ان أقف بإعجاب أمام زانادو .. أنا مرتاحة جداً لتمكنك من إنقاذه بن .
التقطت عيناه عينيها وأسرتهما : حقاً ؟
تجنبت عينيه :
_بالطبع .. لكن كيف فعلت هذا ؟
_ضربة حظ .. حين التقيت بتشارلز والترايت وانا أفتش عنك ليلة الحفلة , وأبدى انزعاجه لأن زانادو سيهدم ..إنه يهوى جمع التحف كما تعرفين , وقد كان ضيفاً دائماً في زانادو في السنوات الأخيرة .. ذكرت له أن مؤسسة كاونت هي التي ستشتريه فثار سخطة وقال عن هذا غير صحيح .. بسؤاله عرفت أن جورج سايلور صديق مقرب له
وإنهما يتشاركان الاهتمام بالفن والأثريات .. فلم يكلفة الأمر سوى اتصال هاتفي بسايلور في المستشفى حتى وضعني على اتصال بسايلور على الفور .
ابتسم حتى تجعدت عيناه عن الزوايا :
_ما إن عرف سايلور القصة كاملة حتى أوقف عملية امتلاك المؤسسة لزانادو.
_وكيف توصلت إلى تحديد موعد لمقابلة الحاكم ؟
_هذا أمر سهل .. لقد رتبه لي جورج سايلور , بعد لقائي بالحاكم سويت كل الامور ..
كنا قد تقدمنا لمنحة فدرالية منذ زمن بعيد .. ولقد وصل الرد في الوقت المناسب ..
وأعتقد ان الحظ كان معنا .
استدارت أليدا نحو بن وحاولت منع صوتها من الارتجاف:
_انا سعيدة جداً لأجلك .. أين ستذهب الآن ؟ هل مطلوب منك أن تغادر الكابينة ؟
_سأبقى هنا على الأرجح لعدة أشهر .. حتى يتحول زانادو إلى متحف , سيكون لدي خيار البقاء في الكابينة .. لكنني قد انتقل إلى شقة صغيرة في "وارث آفينيو " ربما سأحتاج
إلى التعود على التغيير في المنظر .
ردت أليدا تفكر بلوحاته :أوه ..
كيف يستطيع أن يرسم إذا لم يكن يقيم مصدر إلهامه .. البحر ؟
قال وكأنه يرد على هذا السؤال الذي لم تطرحه :
_هذا لن يعني بالنسبة إليّ الكف عن رسم صديقي البحر .. على أي حال , الآن وانا حر أكثر , قد أرغب
في عمل من نوع آخر .. وكما تعرفين , كنت قد بدأت الرسم صورة أريد ان أنهيها , صورة لسيدة
جميلة .
أحست بالارتباك تحت نظراته الحادة , وتمنت ألا يحول الحديث نحوها .. وأن يبقيه بعيداً عن الأمور الشخصية ويتركها تعود إلى ديارها مع شيء من السلام ولاتزان .. لا تريد أن تبقى تتذكر
آخر لحظة لهما معاً .. هذه ذكريات تريد أن تستبقيها بعيدة , كي تحتضنها قريباً منها
خلال ليالي الشتاء الطويلة التي تنتظرها وحيدة .حين لم ترد تابع بن بصوت منخفض :
_تذكرين أنني قلت لك أن ليس لدي موهبة لرسم الصور الشخصية ؟ حسناً ..أظنني كنت مخطئاً,
صورتك أليدا حقيقية وأعتقد أنني تغلبت على السد النفسي الذي كان يتملكني عندما أحاول رسم صور الناس , وهذا بسببك .
قالت ,و صوتها لا يزيد عن الهمس :
_قلت إنك لا تستطيع الوصول إلى قلوب الناس .
مد يده إليها :
_لقد أريتني قلبك .
جذبت نفسها منه .. قالت وهي تهم بالسير نحو زانادو :
_حقاً بن .. يجب ان أذهب الآن , لا أريد أن أتأخر عن موعد الطائرة .
تقدم يسير معها :
_أعتقد أنك يجب أن تعرفي أنني حسمت أمري مع مايس , وكم كنت اتمنى لو أنني استطعت تخفيف وطأة ما جرى بالأمس بالنسبة إليك , لكن بدا لي ساعتها أن لا شيء أقوله سيقنعه أنك لست جاسوسة لي , غير أنني حين ذهبت لأقابله بعد ذلك , شرحت له الأمر على حقيقته , وكان متفهماً , وإنه يشعر بالمرارة طبعاً كما كنت سأشعر بها لو كنت مكانه .
_هكذا إذن .. وهل سامحك على وقوفك ضد بيع زانادو ؟
_أشك هذا , قال إنه سيترك بالم بيتش ليعيش في نيويورك .. هناك سيكون أقرب لأعماله ومصالحه والحياة الاجتماعية التي اعتاد عليها .. وربما مع الوقت ..
صمت قليلاً ثم عاود الكلام :
_ أليدا .. ليلة أمس في البرج انزعجت مما حدث لتايثي .. وكنت أحس بالإرهاق والضغط من
جراء السعي إلى إنقاذ زانادو .. أعرف أن هذا ليس عذراً كافياً لكن أرجوك سامحيني لتصديقي مايس حين قال أنك ستتزوجين به .. أيمكن ان تسامحيني ؟
دارت أفكارها في دوامة ,ليلة أمس أحست أن بن خذلها , وهي الأن ليست متأكدة أن كانت قادرة على المسامحة أم لا .
_بن .. كيف يمكنك التفكير انني أوافق على الزواج به وانت تعلم ما يعنيه أحدنا بالنسبة إلى الآخر ؟
حدق إلى عينيها والبؤس بادٍ في عينية وقال :
_لست أدري .. صدمت بشدة حين قال إنك خطيبته لدرجة توقف معها ذهني عن التفكير .. خطر ببالي أنك مثل كل الأخريات , خدعك مايس بماله ومركزه الاجتماعي .
أشاحت أليدا نظرها عنه وتابعت سيرها , لا تريد أن تتلكم عن الموضوع أكثر .. إضافة إلى أن الوقت حان لترتدي ملابسها قبل السفر .
أمسك بن بذراعها بقوة , وأدارها لتواجهه :
_لا أستطيع السماح لك بالذهاب هكذا وأنا أعرف أنك غاضبة مني ! بيننا شيء ..سمّه تفاهما ً.. سمّه ما أردت .. شيء يمكنه أن ينمو ويزهر , انت المرأة الوحيدة التي أحسست بالارتياح إليها .. الأولى التي اهتممت بها حقاً , قولي انك لست غاضبة مني .
كان في عينيه شوق .. يخفي وراءه شيئاً أعمق .. عيناه كانتا تحرقان عينيها , وأحست بحرارة يده
تلسع ذراعها .
_أوه .. بن .. لقد تأخرت كثيراً عن البوح بهذه المشاعر , كان بالإمكان أن يجمعنا شيء
مشترك ربما .. لكن , الآن , وأمور عديدة أفسدت العلاقة بيننا .
اقترب منها كثيراً .. وأمسك ذراعها الأخرى :
_لا داعي لأن تفرق هذه الأمور بيننا ,يكفي أن تأخذي قراراً يتجاوزها .. يجب ألا تدعي أخي يفرقنا .
نظر إليها بعينيه الزرقاوين المشعلتين ودونما إرادة منها , ضمت نفسها إليه ..من بعيد, كانت تسمع الأمواج تنقلب وترتفع ثم تنكسر ,ثم تتجمع وتتكسر .. وبدا لها أن الصوت يتناغم مع الإيقاع المتسارع لنبضات قلبها .. تركت نفسها
تنجرف إليه , وارتفعت ذراعاها تلتفان حوله .. كانت تقف على إطراف أصابع قدميها فوق الرمال .. تتركه يضمها بشدة .. وفي أعماق أعماقها شعرت بنار تومض قليلاً قبل
ان تغمرها في لهيبها .. وآمنت أنها لن تمل يوماً من هذا الرجل , حتى ولو عاشت معه مئة سنة ,ألف سنة.
دفن وجهه في شعرها الحريري الأسود , وقال بصوت أجش :
_لن تذهبي إلى تلك الطائرة .
سحب رأسه إلى الوراء , ورأت نفسها منعكسة في عينيه :
_لن أذهب ؟ ولماذا لن أذهب ؟
_لأنني أحبك أليدا برايس , ولسوف نتزوج .
ضحكت بارتجاف :
_مالذي يجعلك مقتنعاً بذلك ؟
ضحك :
_أوه .. لدي صورة يجب أن أنهي رسمها .. ويبدو أن هذه هي الطريقة الفضلى لإجبارك على البقاء هنا والجلوس أمامي , لست أنوي أن ألحق بك إلى شيكاغو كي أنهي رسمها .. فأنا لم أحب يوماً شتاء الشمال البارد الطويل .
قبل طرف أنفها .
رفعت نفسها تقبل أنفه بدورها .
_لا يجب ان تبقى هنا ونتعانق أمام أنظار الجميع .
رفع رأسه ونظر إلى الشاطئ :
_هذه المرة لا أرى البجع المائي , ولا النورس , ولا أية طيور أخرى .
لفتت نظريهما حركة خفيفة على الرمال .. وأطل سرطان رمال فضولي من جحره , وتقدم نحوهما , فضحك بن..
_بما أن لدينا رقيباً من نوع ما .. فمن الأفضل أن نذهب إلى مكان آخر .
أشارت إلى الأعلى :انظر ..
كانت الشمس الغاربة فوق رأسيهما تلامس بنارها رؤوس الأبراج , وهبط سرب من النورس عبر بستان البرتقال وغطى البحر على أصواته حتى كادت لا تسمع .
قال بن دون مقدمات :
_هكذا سأرسم زانادو .. تماماً هكذا .. مع مغيب الشمس .
استدارت أليدا إليه وسؤال في عينيها :
_وهل قررت رسم زانادو ؟ ظننتك لا تريد هذا .
_كان هذا من قبل .. وأظنني حاضراً الآن , ولسوف أبدأ رسمه حال إنهاء صورتك .. ربما أنهي رسمه في الوقت المناسب لأهديك الصورة كهدية زفاف .
_اوه ..بن .
ولم تستطيع قول المزيد , فقد غاصت الآهات في قلبها .
استندت إليه لحظات , رأسها على تجويف كتفه , بينما كان الموج يردد صدى كلمات الحب التي
كانت تتمتمها في قلبها .. ثم دست ذراعها حول خصره .. وكيفت خطواتها مع خطواته ..
ليسيرا ببطء فوق رمال زانادو.تمت 🌺
أنت تقرأ
على باب الدمع
Romanceهل يغشَ القلب أحياناً؟؟..إذا كان الجواب لا، فهل يستطيع قلب أليدا أن يشرح لها لماذا يخفق لبن راولي رغم عداوته واتهاماته بينما لا يعبأ هذا القلب بأخيه مايس راولي الذي يحاول جاهداً التقرب منها؟... قدم لها مايس كل ما تحلم به الفتاة..، لكن قلب أليدا ظل ي...