تمرد القلب

181 1 5
                                    

        كيف للقلب أن يكون بتلك البساطة حينما يقع في غرام شخصٍ ما و كيف له أن يكون مُعقدا بهذا الشكل حينما يحاول التخلص من ذلك الشعور !
كيف لقلبٍ بقسوة الصُلب أن يُكسر ليصبح برقة طبقة هشة من الزجاج !
و كيف لقلب مُظلم بارد مُفتقد لمعاني الحياة أن يُزهِر و أن تشرق شمسه فيملأه الدفئ و الأماني .
فسُبحان مُقلب القلوب ..

                        .......................

      مرت سويعات مُذ أفاقت من نومها ، نهضت بثُقل في اقدامها و توجهت الي المرحاض كي تتوضأ و تُكمل ما فاتها من صلاتها اثناء نومها ، و أثناء مرورها وجدت والدتها في المطبخ ترمقها بنظرة حادة ، فألقت علي امها التحية :
- "صباح الخير"

ردت عليها بإزدراء "صباح النور"

كانت تعلم ان امها غاضبة لغيابها الطويل عن المنزل و احداثه خلال فترات نومها التي تتعدي النهار بغروبه و لقلة مشاركتها في أعمال المنزل ، كم تمنت لو وجدت شخصاً واحداً بهذا المنزل يمكنه تقدير حالتها ، و لكن لا احد يعلم ما يكمن داخلها ولا احد بإستطاعته إستيعاب أن نومها هروب من قسوة العالم .

                             ...............

     ارتدت ملابسها التقليدية و حذاءها دون إستخدام قطرة واحدة من مساحيق التجميل ، توجهت نحو باب المنزل مُعلنة ذهابها :
"ماماا أنا ماشية ، سلام"

أغلقت باب المنزل الحديدي الذي أكله الصدأ و سارت في طريقها نحو محطة الحافلات ، و كالعادة سارت موجهة نظرها نحو الأرض لتتجنب إلتقاء أعينها بجاراتها و لتتجنب سؤالهم :

"مفيش أخبار جديدة بقا يا حبيبتي ، عايزين نفرح بيكي"

و كأن كلمات العالم إقتصرت علي ما يخص الزواج و الخطبة و الرجال ، و كأنهم ملكوا العالم بحصولهم علي رجل .

أكملت سيرها بنوع ما من الراحة لأنه لم يستوقفها أحد اليوم ، وصَلَت الي المحطة و أستقلت حافلة ، كادت أن تغطت في النوم و لكن أفاقت علي صوت الكمثري و هو يقول بصوت مُفزع :
"التذكرة يا أنسة"

دفعت الأجرة ، ثم عادت لتوجه النظر من خلال النافذة بجوارها ، تنظر الي الناس البسطاء السائرين بالشوارع و هي تلتقط آثار الهموم الواضحة علي ملامح وجوههم ، بلغت درجة حساسيتها أن تقرأ شدة بلوغ الألم في اعين الناس دون التفوه بحرف واحد ، ربما لأنها تعلم جيداً ماذا يترك الألم بداخل الأنسان و كيف يتسلل خارج الروح ليطفئ ملامح الوجه و يُصيب الجسد ، لكن رغم كل ما عهدته لم تفقد الأمل يوماً .

وصلت إلي مقر عملها و قبل أن تشرع في الدخول سمعت إسمها يتردد علي لسان أحدهم :
- "مني ، يا مني"

إستبدلت مني ملامحها الشاردة بإبتسامة واسعة :
-"ري ري"

-"إيه يا بنتي بنادي عليكي بقالي ساعة ، سرحانة في مين كدة علي الصبح"

- "مسمعتكيش خالص يا بنتي انتي"

-"طب يلا ندخل قبل ما سمير يعملنا خناقة عشان أتأخرنا دقيقتين"

مني و ريهام أصدقاء عمل منذ حوالي سنتين ، الإثنتان يعملا كموظفتا خدمة عملاء لدي شركة لبيع الأجهزة الإلكترونية يرأسها الأستاذ سمير ذو الإسلوب الصارم ، ريهام تصغر مني بثلاث سنوات ، تعاملها مني كأختها الصغيرة لان ريهام ليس لديها أخوات .

أنتهت مني من يوم عملها الشاق ثم ودعت ريهام و الزملاء و غادرت ، إستقلت مني الحافلة و جلست علي كرسيها المُفضل بجوار النافذة ، و إذ فجأة ترتعد مني و تتسع عيناها و يخفق قلبها بدخول شخصٍ ما الي الحافلة ، هو نفسه ، نفس لون بشرته الخمري ، نفس طوله ، نفس عيناه التي تُلقي أشعة تفتك بقلبها كلما نظرت إليه ، كاد أن يقوم زلزال بالحافلة إثر خفقان قلبها ..
توترت مني و هي تُثرثر داخلها :
- "ماذا أفعل الآن ، يا ربي .. كيف أُسكت ذلك القلب الأحمق ، أنه يقترب ، لا، لا أريد أن أبكي .. تماسكي يا فتاة"

لن تستطع بالفعل أن تمنع هطول مدامعها ، لم يكن لديها مهرب من حماقة قلبها سوي أن توجه وجهها نحو النافذة حتي لا يراها و لا يري دموعها التي ستفضح أمرها .

وجهت وجهها نحو النافذة و خبأت ما استطاعت منه ، و لكنه تعرف عليها رغم كل محاولاتها التي باءت بالفشل ، هو يعرفها جيدا ، يعرف لون بشرتها ، يعرف طريقة إرتداءها لملابسها الغير مُنسقة و طريقة إستخدامها السيئة لطلاء الأظافر ، هو يعلم انها ربما لا ترغب برؤيته .. وقف يحلل رؤيته لها و يتذكر تفاصيلها الصغيرة تلك ، كان يوجه نظره اليها فقط و كأن ليس أحدا سواهما علي مُتن الحافلة ، أفاق من شروده موجها نظره نحو قدميه و هو يتسائل بشأنها و كم تسبب لها من ألم ، تعمد أن يجلس بكرسي بعيداً عنها حتي يتثني له النظر إليها دون أن يقع عليه حرج ، يتسائل :
- "لماذا تقحم وجهها بتلك النافذة اللعينة ، أرغب برؤية وجهها، أريد أن تلتقي أعيننا حتي أطمئن عليها ، أتمني أن أري السعادة بعينيها ، أتمني أن تكون قد تخطت ذلك الجرح الذي تسببت لها به بحماقتي .. أصمت أيها الغبي ، من أنت كي تطمئن عليها ! "

ثم عاد ليقحم وجهه هو الآخر بالنافذة و يخبأ عيناه قدر الإمكان حتي لا تراه ، و لكنه كان يخطتف القليل من النظرات اليها في ريبة حتي توقفت الحافلة قُرب منزل مني و أصبح عليها النزول ، و لكنها لم تفعل ، تعجب هو أنها لم تنزل و لكنه لم يكن يعلم أنها تنتظر نزوله أولا حتي لا يلحظها ، تخطت الحافلة المكان الذي كان سينزل به هو أيضا ، كان عليه النزول و لكنه فضل أن يجلس و يتابع النظر إليها و كان لديه فضول أيضا نحو عدم نزولها عند منزلها .

ظل كلاهما منتظراً نزول الآخر أولا و لم يكن يعلم كلاً منها أنهما لديهما نفس الهدف ، ظل كلاهما في مكانه و أخد عدد الرُكاب في التناقص حتي لم يبقي سواهما في الحافلة بالإضافة إلي رجل مُسن نائم سينزل آخر الخط ، كان كلما يقل عدد الرُكاب تزداد مني توتراً و يزداد قلبها خفقاناً و يزداد هو تعجباً .

ظلا علي هذا الوضع حتي وصول الحافلة لآخر محطة ، و هنا أصبح علي كلاهما الآن النزول ...

يُتبع .

درب الحياةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن