الفصل العاشر

761 15 0
                                    

شعرت فينيتيا بقسوة كارلو هذه كطعنة نجلاء في الصميم أحدثت فيها ألماً مريعاً سلب الدم من وجهها . ملايين لأسئلة كانت تدور في رأسها ولكن الصدمة كانت أكبر من أن تنطق بتلك الأسئلة .
وتحركت شفتاها دون صوت بينما كانت عينا كارلو الغائمتان تنتقلان ببطء من وجهها الشاحب إلى أخمص قدميها قبل أن يقول بلهجة لاذعة : " صدقيني أن منظرك هكذا لن يغويني أبداً لقد انتهيت منك . "
جعلها هذا الإذلال تشعر باعتلال ، وتمنت لو تجمد في مكانها هذا حيث تقف . كما أن ذهنها كان من التشوش بحيث لم يمكنها أن تفعل أي شيء ورفعت عينيها المذعورتين لتراه وقد ألقى بنفسه على كرسي كبير .
قالت بلهجة متوترة : " ولماذا؟ لماذا هذا الانتقام؟ " . رفع كتفيه العريضتين يهزهما بما يغني عن الكلام وهو يسند رأسه إلى مسند المقعد وكل خطوط وجهه تنضح بالنفور و البرود . وما أن شعرت حواسها المدمرة في الكفاح لكي تستوعب ما يعنيه بموقفه المتعالي هذا ، حتى ابتدأ الغضب يفور في عروقها .. وتنفست عميقاً .
أرادت أن تمزق ذلك القناع الكريه بأظفارها وتلقي به بعيداً لكي ترى الرجل الذي أحبت ولكنها سيطرت على مشاعرها ثم قالت : " ماذا جرى للسانك؟ " تجاهل سخريتها ومضى ينظر إليها وهو يعبث بشفته السفلى بأطراف أنامله وأخيراً قال بلهجة مهينة : " ربما لا تكون كلمة الانتقام هذه تعبيراً مناسباً تماماً وان تكن تدخل بنفس الغرض ، لقد كان الاهتمام بنصيبي من أموال شركة روس الإنكليزية جزءاً من تصميمي على الزواج بكِ ولولا هذا لكنت أذعنت لإصرار كيرو على أن تبيعي نصيبك من الشركة وتخرجي منها لتلتحقي به فيما بعد . وقد سبق وتحدثتما عن بيع منزل العائلة ولعلمي بمغامراتكما المستمرة معاً أدركت أنه ليس في حاجة إلى كثير من الضغط عليكِ لكي توافقي على ترك الشركة لتذهبي معه . وقد سبق وعرف هو أن أيامه التي كان يستغل فيها منصبه قد انتهت وولت . ولم أشأ أن أسمح لهذا بأن يحدث . أليس كذلك؟ " وأغمض عينيه وكأنما أدركه الضجر ، ثم عاد يقول : " لا أظن أن ثمة شيئاً اكثر من هذا ليقال في هذا الموضوع . "
واستنفد تركه والخروج من الغرفة كل شجاعتها . إذ أنه لم يعد في استطاعتها أن تستمع إلى كلمة أخرى . ذلك أن كل كلمة قالها وكل نظرة ألقاها عليها وكل حركة كل ذلك كان يمزق قلبها تمزيقاً حتى خشيت من الانهيار كلياً .
هذا ما لم تكن تريده .. لم تكن تريد أن يحدث أمامه ، ثم أمكنها بصعوبة أن تجد طريقها إلى غرفتها شاكرة أنها لم تصادف في طريقها أياً من روزا أو لويجي، فيكون في هذا منتهى الذل والعار .
كان كل ما تريده هو أن تنام . أن تغيب في طيات النسيان أن تتخلص من الألم لما حدث . ولكن ما أن مسحت زينة وجهها حتى علمت أن الأمر ليس بهذه السهولة لقد كان من المفروض أن يكون هذا اليوم أروع أيام حياتها . لقد تكلم عن الانتقام يا لهذه الكلمة الصغيرة كم تثير اشمئزازها وشعرت دون رغبة منها أنها مهما كان الأمر يجب أن تسمع منه بالضبط لماذا يظن أن له الحق في ذلك .
إن عليها أن تعرف الحقيقة قبل أن تتركه مطالبة بفسخ هذا الزواج . واندفعت قبل أن تخونها شجاعتها فشدت حزام الروب ثم تخطت الحمام إلى غرفته ولم يكن هو هناك ولكن هل توقعته حقاً أن يكون؟ ولكنها تستطيع الانتظار . في استطاعتها الانتظار طوال الليل ... بقية حياتها إذا اقتضى الأمر ، لأنها لن تعرف السلام ولا الراحة إذا هي لم تعرف مبرراته , ولم تشهد لمحة من أعماق نفسه المظلمة .
وعندما تتأكد من ذلك فهي لن تضيع عليه أياً من مشاعرها مرة أخرى وستقتلعه من قلبها ومن حياتها فقد قتل حبها وقضى على كل آمالها بقسوته التي ما زالت تقطع أنفاسها وعليه أن يشرح الأسباب .
كان الفجر قد ابتدأ يمد خيوطه عندما دخل ، في النهاية الغرفة وكانت أجفان فينيتيا قد تقرحتا من السهر ، وتوترت أعصابها إلى درجة كادت معها تصرخ فيه قائلة أين تراك كنت حتى الآن ولكنها ابتلعت كلماتها هذه التي كانت تظهرها لو نطقت بها بمظهر الزوجة المتشككة .
وبدا العنف في عينيه اللتين توجهتا إليها من خلال ملامحه المنهكة وهي مستندة إلى كومة الوسائد على سريره . وقال بلهجة تهكمية : " آسف لضياع ليلتك هذه سدى أظنني كنت واضحاً حين قلت إنني لا أريدك في غرفتي أبداً . "
ردت وهي تتصنع التثاؤب : " هذا صحيح . " إن في إمكانها أن تتحدث بمثل لهجته وهو يبدو وكأنه أمضى ليلته في مكان بائس فقد اختفت ربطة عنقه السوداء وقميصه مفتوح عند العنق وقد امتقع وجهه لشيء غير الإنهاك ولسبب غير مفهوم جعلها مظهر الإرهاق والتعب من الحياة كلها الذي ظهر في عينيه تشعر بجذل عميق لم تستطع تفسيره .
وأجابته : " إنني قادرة تماماً على التغلب على الخسارة و البدء من جديد . " لقد سبق وأذلها تماماً ولكنها لا تريده أن يدرك أنه استطاع ذلك . وهكذا أخذت تمعن النظر في ذلك الوجه العنيف المرهق ثم ابتسمت وهي تقول دون اهتمام : " أنك ربحت شيئاً وخسرت أشياء . فأنت لست الحصاة الوحيدة على شاطئي يا عزيزي كارلو ولكن قبل أن أحزم أمتعتي أحب أن أعرف بالضبط ما الذي جعلك تعتقد أن لك الحق في أن تنتقم . أنك مدين لي بهذا التفسير بعد أن جعلتني احتمل عناء القيام بمسرحية الزفاف الهزلية هذه . "
واستمراراً في قيامها بهذا الدور الطائش ، ابتسمت ساخرة وهي تهز كتفيها بعدم اكتراث وفجأة عادت إلى الواقع الصارخ وهي ترى النظرة الفظيعة في تلك العينين السوداوين . وقال بمرارة لم يحاول إخفاءها : " أنتِ لم تتغيري أليس كذلك؟ فالمرأة القذرة مرة هي قذرة على الدوام . "
وتجمدت فينيتيا من شدة الانفعال فقد انتهى تمثيلها القصير المدى ذاك ... ورفعت يدها تصفع بها وجهه وشعرت بألم الصفعة في راحتها بعد أن اصطدم جلدها الرقيق بلحيته النابتة وسمعته يشتمها وقد امتدت يده تقبض على معصمها في رد وحشي على فعلتها ثم تركها بسرعة وكأن لمسه لها قد أثار اشمئزازه .
ارتجفت فينيتيا من الانفعال وهي واقعة على الأرض وقد انتشرت حولها أذيال الروب الأزرق الذي ترتديه . وسمعته يقول بصوت كالجليد : " لم يكن زفافنا مسرحية هزلية وأنتِ تعرفين هذا . انكِ زوجتي الشرعية وستبقين كذلك فإياك أن تتحدثي عن حزم أمتعتك إلا بعد أن أعطيك أمراً بأن تقومي بذلك . ولا تفكري بأن تستعيدي حريتك بالطلاق إلا إذا شئت أن تشاهدي العمل الذي سبق وأنشأه أبوك وأبوه من قبل ليكون على ما هو عليه الآن ، أن تشاهدي ذلك يباع في المزاد حطاماً وما يتبع ذلك من ضياع الكثير من الوظائف وأرجو أن يكون كلامي هذا واضحاً . " وكان يجول في أنحاء الغرفة . تجمعت الدموع في عينيها بشكل مؤلم ولكنها أبداً لن تبكي أمامه . وقال : " لقد انتهينا الآن من هذا الموضوع وسأوجه إليك سؤالاً وجوابك الصادق عليه ، تعلمين منه السبب في رغبتي بمعاقبتك . "
لم تكن تريد أن تجيب بأي شيء بعد إذ لم يعد أسبابه تهمها بشيء وهل ثمة ما يهمها الآن ؟ . قالت : " حسناً ما الذي تريد أن تعرفه؟ " إنها ستقف على قدميها لتنسحب بكل رزانة إلى غرفتها بعد أن تشعر ساقاها بالقوة ويذهب عنهما هذا الارتخاء .
قال : " عندما كنتِ في الثامنة عشر من عمرك ، هل توسلت ألي أن أتقرب منك قائلة انك تحبينني؟ . "
كان هذا آخر سؤال توقعت أن تسمعه منه وتجمد كل شيء حتى لم تعد تسمع صوت تنفسها وأثناء الانتظار الصامت أحست بمراقبته لها وعلمت أنه إذا كان له هدف من وراء هذا السؤال فهو ليس بالهدف السار . أجابت ببلادة ودون أي اهتمام : " أنك تعلم أنني فعلت . " ثم وقفت على قدميها وهي ما زالت تترنح . إن فهمها له لم يزدد عن قبل . و لكن كان ثمة حدود لاحتمالها وهي في حاجة إلى أن تختلي بنفسها عليها أن تفكر . ولكنه تقدم ليقف أمامها معترضاً طريقها . وارتجفت كان قريباً جداً منها ولكنه أيضاً بعيد جداً ... جداً .
قال بصوت تقطر منه المرارة : " حتى في ذلك الحين كان لكِ سلوك الهرة القذر فالرجل المحترم المكتمل الرجولة كان بالنسبة إليك مثله مثل أي رجل آخر ... " وهز كتفيه بخفة وهو يتابع : " إنني لن أنس قط ذلك المشهد وان كنت سامحتك فقد كنتِ في الثامنة عشر وجعلت لك عذراً وهو انك ربما لم تكوني تعرفين ما تفعلين .. " ردت بحدة وقد اختنق صوتها تقززاً وألماً : " انك تهينني . " فأجاب : " عجباً هل فعلت ذلك؟ "
وأرادت أن تخرج مارة به ولكنه جمدها في مكانها بنظرة منه وهو يكرر هامساً : " عجباً يا زوجتي إذا أنا لمستك فانك سرعان ما تتجاوبين حتى مع الرجل الذي أذلك واحتقرك . "
.http://www.liilas.com/vb3

وشهقت و هي تبتعد عنه بعنف ليأتيها صوته مدمراً أعصابها بقوله : " إن أي رجل يمكنه أن يفعل ذلك معك أيتها الفاسقة الصغيرة وأنا على كل حال ليس في نيتي أن أكون مطية لأية امرأة مهما كانت مرغوبة . "
وباشمئزاز بالغ دفعت بيده جانباً وكتمت شهقة في صدرها وهي تسمعه يتابع بخشونة : " ولم تكن لدي فكرة عن سلوكك عندما كانت ذكرى جمالك وعواطفك تعذبني طيلة السنوات الماضية فقد كنت صدقتك حين تحدثت عن الحب وكذلك ظننت نفسي أنني أحبك! انكِ أغويتني بما عرضته علي ... كم كان مقدار إغوائك لي .. " ونضح صوته مرارة وعنفاً ورمقته هي بنظرة من عينين فارغتين بان فيهما عدم الفهم وهي تحاول الرجوع إلى الماضي . ولكنها أخفقت في ذلك لأن الحاضر كان يدمرها ويمزقها تمزيقاً .
وبدت عيناه غير متسامحتين وهو يتابع قائلاً : " ولكنني قمت بعمل مشرف . فقد تكلمت مع أبيك وأخبرته برغبتي في الزواج منك وقد كان مسروراً لهذا كما ظهر لي لأنه لم يكن يعرف كيف كان سلوكك وقد وافق معي على أن تدوم خطبتنا سنة على الأقل كفترة اختبار . ذلك أنني كنت ناضجاً بما فيه الكفاية لكي أثق بمشاعري ولكنني شعرت بأنك في سن الثامنة عشر ذاك أصغر من أن تتحققي من مشاعرك ."
وتابع ساخراً من نفسه كسيف قاطع : " كم كنت أحمق فقد أسرعت إليك لأجدك تستمتعين مع كيرو . " وكان صوته الآن قد ازداد برودة وانخفاضاً وهو يستطرد : " على كل حال كما سبق و أوضحت لك بعد أن شفيت من تلك الصدمة لكبريائي سامحتك ولكن عندما عدت لحضور جنازة أبيك الذي كنت أحترمه رأيتكما ما زلتما معاً . هل كان بينكما ميثاق غير مكتوب بأن تستمرا معاً بغير قيود؟ حتى أنكما تابعتما تلك العلاقة القذرة حتى بعد زواجه؟ هذا لا يهم ... المهم هو المستقبل فقط فالفاسقة ستصبح طاهرة الآن . وإياك أن تفكري في اتخاذ حبيب لأنني سأقتله دون ندم كما أسحق حشرة بقدمي هذه وهذا يا زوجتي هو عقابك الذي تستحقينه لتفكيرك في محاولة استغفالي وهذا هو انتقامي يا عزيزتي . "
نظرت فينيتيا في عينيه بعجز وقالت بصوت أبح : " لم يكن الأمر كما ظننت .. " ولكنه قاطعها ثائراً بشكل بذيء وهو يقول بصوت خشن : " أعفيني من أكاذيبك القذرة ربما أصدق أنك تغيرت لو لم أفاجئكما في تلك الغرفة و أنتِ معه لأسمعه يحاول أن يقنعك بالا تتزوجيني . ولو لم أرجع مبكراً عما كنتِ تتوقعين لما علمت بخطتكما القذرة تلك . هل تراك دعوته إلى منزلك لكي تطمئنيه إلى أن علاقتكما ستبقى على ما هي عليه رغم زواجك بي؟ أن تشرحي له أن زواجك بي ما هو إلا لتوفير الاستقرار المادي الذي تحتاجينه؟ كنت إذن سأتزوجك مطمئناً إلى مستقبلي معك ولكن عندما رأيتكما معاً كل شيء تغير طبعاً كان ينبغي أن يتم الزواج بالطبع فقد تم إعلان ذلك وابتدأت التدابير في شأنه ولكن الأهم من ذلك أنه يناسب خططي العملية وهي رغبتي في إعادة دمج الشركتين معاً وليس أقل من ذلك إيجاد فرصة لمعاقبتك وجعلك تدفعين ثمن عبثك وألاعيبك ذلك أنه ليس ثمة شخص يمكن أن يحاول استغلالي وإسقاطي في الشرك ثم ينجح في ذلك . " وتراجع إلى الخلف وهو يشتم مرة أخرى وهو يتابع : " أخرجي من هنا فهذا يكفيني عودي إلى غرفتك و ابدئي في إعداد نفسك لتحمل العيش مهجورة بقية حياتك الملوثة . "

سجينة الذكريات حيث تعيش القصص. اكتشف الآن