العزيز/ أبي...
ربما لن تقرأ هذه الرسالة ابداً يا أبي ، ربما ايضاً لو -قرأتها- أن تستنكر احتلالك للرسالة الاولى من ضمن سلسلة رسائل "أمراضي النفسية و مسبباتها
"..إلا أن الامر كُله في الحقيقة يبدو لي منطقي جداً ، كل شئ من هنُاك ، من نُقطة الصفر التي ترافقك كظلك ، من نقطة الصفر التي هي أنت!. بعد كل شئ -و قبله- انت السبب في وجودي اولاً. لمُدة قاربت الثلاثين عاماً كُنت هناك في زاوية صغيرة جزءاً مِنك ، أُشاركك كل شئ في صمت إجباري سخيف .. لم يختلف الأمر كثيراً بعدها على كل حال؛ فقد ظللت -تحت سَقفك- قطعة الجماد التي جعلتها فأنجعلت..في البداية ، كُنت التزم امامك الصمت خوفاً ، ثم احتراماً و انبهاراً ، ثم تأدباً و تديناً ، ثم رفِقاً بِك و خوفاً عليك... لا أُنكر هنا انك رجل عظيم و اُجحِفُك حَقَك.. لا لا يا أبي ، لم أكن لاراك عظيماً لمجرد أنك ابي و (هكذا يرى الابناء آبائهم) ..انت عظيم -بمنتهى العملية التي أورثتنيها- لأنك عظيم فعلاً...
كان من الممكن أن تكون أكثر .. كان يمكنك أن تكون أباً مثالياً يا أبي ، فقط لو طرقت بابي مرة واحدة ليلاً فقط لتقول أي شئ ، أي شئ ولو حتى (مساء الخير) ، أي شئ مهما بدا لك سخيفاً او مُكرراً .. لو كُنت تبادلت معي حديثاً حول وظيفة لا تُحبها ، او قصة حُب فاشلة قديمة قبل أمي ، او تبادلني أي حديث في طريق طويل -أقوده انا رحمًة بظهرك- نقضيه دون تبادل اي كلمات!. لو كنت قُلت لي أنك تُحبني مرة واحدة ، بدلاً من إرهاق نفسك في محاولة قولها بغيابك عشر ساعات يومياً في عملك. كان من الممكن ان تكون مثالياً لو كنت أكثر ثقة بي و بفَنّي ، لو لم تزرع جذوري في أرض الهندسة البور الجدباء ،و تركتني أُزهر في الارض التي أختار ... لو فقط رَفَعت كفّك الساكنة لتُربِت على ظهر فتى يبكي الاصدقاء الراحلين! ، لو كنت أقل بروداً ، و اكثر كلاماً.اورثتني يا أبي ذكاءاً شهد لَك به الجميع ، قبل ان يشهدوا لي به من بعدك ، اورثتني ذوقك الاوروبي في انتقاء الثياب و العطور ، اورثتني نظراً معتدلاً آرى به الحياة دون ميول ، اورثتني سعة من العيش ، و قَبَساً من الدين ، أورثتني مكانةً إجتماعية و سُمعةً طيبةً!.. لكنك ايضاً اورثتني صمتاً ثقيلاً لا يكسره إلا كل غليظ ، اورثتني زُهداً في الكلمات التي تُقال فقط كي تُقال.. اورثتني بروداً ، احاطني تحت اطنان الثلج ، في رُكن بارد بعيد ، رُكن طالما جلست انت فيه بعيداً عني..
احترمك كثيراً يا أبي ، و اقدر لك كل جميل نحتته الوراثة او يداك في روحي ، و اسامحك على كل قبيح خارج عن يديك لأنك في النهاية بشر .... لكني ابداً و طول العمر ، لن اسامحك على أكبر ما لحقتني به من أذى : " هذه الصلعة الصادرة بحكم نهائي من محكمة الوراثة ، و التي حلت منذ سنة بالخريف على أوراق شعري المسكين "
بإخلاص / .............
أنت تقرأ
بَريد
Romanceلكل من تسبب في تلك اللوحة السريالية ، التي تُزين روحي ، و نظراتي .. هذه الخطابات هي ما لم اقُله ابدًا ...