مجهول

68 13 17
                                    

حياة مجهولة وماضي مجهول، أمشي نحو مكان مجهول بخطوات مجهولة.
هدفي الوحيد إيجاد هذا المجهول.
لكن ماهو؟
وكيف سأذكره؟
إن فكّرت بالأمر سأقول"ماذا تعني كلمة مجهول؟"
هل هي مجهولة أيضاً؟
تفسيرها النحوي يقول" الشيئ الغير معروف"
لكن ماذا سنفعل إن كان هذا المجهول مجهولاً، حتى الغير معروف، معروف بطريقة غير معروفة.
يمكن أن يقول أحدهم أنّه كلام بلا معنى، لكن إن دقّقت به كثيراً ستراه  "مجهولاً"
أما حياتي وشخصيتي، فاسمي جبران، سوريّ الأصل.
حياتي الآن ببلاد غير بلادي تماماً، أقصد الاختلاف الكبير بينها.
الحرب، إنّها من فعل كل هذا، وما سببها؟
لا أعلم، متى ستنتهي؟
لا أعلم، ما هدفها؟
أيضاً لا أعلم.
لكن مشكلتي تقبع خلف شباك الحرب، وبعد هروبي منها.
كلُّ ما أذكره صوتٌ يدوي بأذني، ثم انفجار عظيم يغطّيني بحجارة طائرة.

عندما استيقظت أزحت الحجارة عن جسدي المنهك والممزق.
ووقفت.
لم أعد أذكر شيئاً سوى الألم الذي لا يزول من جسدي.
خرجت من بين الحطام ورأيت رجلين يقولان لي أنهما سيطلبان الإسعاف.
لكن،ماذا كانت الإسعاف؟
لا ذكريات عن الماضي.
أساساً، هل يوجد ماضي؟
إنه مجهول، والإسعاف أيضاً.
الذي تذكرته من كلمة إسعاف، سيارة تصل بعد مدة طويلة من طلبنا لها.
لم أهتم لهما وأكملت سيري، كان شيئاً يوخزني عند فخذي، وضعت يدي بجيبي وأخرجت ماكان فيه، لأرى شيئاً صغيراً مكسرّاً، أظنّ أنّه كان يهمني جداً، لكن ماذا تراه يكون؟
اقترب منّي رجلاً أسمر جداً وشارباه يغطيان فمه بالكامل وقال لي: حمداً لله على سلامتك، هل أنت بخير؟

لم أجبه وأكملت طريقي وأنا أنظر لهذا الشيء المكسور الذي بيدي، فقال لي ذاك الرجل: هل كُسِرَ جهازك الخلوي؟
لا بأس، الأهم لم يصبك مكروه.

ولم أهتم، الذي تذكرته أن اسمه جهاز خلوي، لكن لا فائدة منه الآن، فرميته وأكملت طريقي.
لكن إلى أين؟
إلى المجهول أيضاً.

عبرت بجانب مبنى كبير محاط بسور يتكافت منه الشباب للخارج كانوا ينظرون نحوي وكأنّني وحش.
لكنني أذكر أنّني كنتُ هنا سابقاً، لكن آلامي لم تساعدني.
اقتربت مني فتاة شابة مصدومة وصاحت باسمي وهي تكاد أن تبكي.
لكنها انصدمت أكثر عندما قلت لها: مَن أنتِ؟
حاولت إقناعي بأنني مريض ويجب علي أن أذهب للمشفى.
لكنّني رفضت هذا لأنها 'مجهولة'.
تركتها تبكي عند ذاك الشارع وعيناها تمطر بشدّة.
لم أهتم.
إنّها مجهولة.
لكن، ياليتني اهتممت.
وأكملت طريقي، ومن طريق مجهول إلى آخر مجهول.
أسمع أصوات انفجارات بكلِّ مكان.
سمعت أحدهم يتكلم عن الهرب من هذه البلاد.
أوقفته لأكسب معلومات، لكن الذي صدمني أنني أحتاج لمبلغ كبير للهرب من الموت.
إنّ المجهول يناديني.
حلّ الليل.
أكرم علي أحدهم باصطحابي بحافلته التي ستأخذني لبلد آخر.
قال لي بأن أجمع أغراضي، لكن أية أغراض؟
ليس لدي شيء.
كل ما أذكره طعم الشاي الذي احتسيته مع ذاك الرجل الفضيل.
ثم صعدت لتلك الحافلة.
كان الليل يقول لي، أنت في المجهول الذي لا محال من هربك منه.
قاد السائق الحافلة بشكل طبيعي.
نظر لي أحدهم ثم قال: أتريد البقاء بتركيّا أم ستكمل لبلد أوروبي؟
بلد أوروبي؟
كنت أذكر أن البلاد الأوربية بلاد متطورة لا تسمح لنا بالذهاب إليها.
فأجبته: كيف سنذهب لبلاد أوروبية؟

-التهريب، من بلد لآخر، تركيا، اليونان وهكذا حتى نصل لالمانيا او السويد.
استدرت نحو النافذة بتجاهلي إيّاه ثم بدأا جفناي ينغلقان وحدهما.
غططتُ بنوم عميق.
بذاك اليوم حاولت أن أذكر ماكنت أفعله سابقاً، لكن لا فائدة.
لدي الآن هدف آخر، سأرى طبيباً يفحص عقلي ليعيد لي ذكرياتي.

كانت شرطة توقفنا بين الحينة والأخرى.
لا أظن أنها شرطة، فقد رأيت أن لهم أشكالاً غريبة، منهم من يملكون لحى طويلة ويرتدون سواد بسواد.
عندما صعدوا إلى الحافلة، أخذوا امرأتان وقالوا أنهن عاهرات ويجب قتلهن.
لكن كيف عرفوا؟
لم أهتم، فهذا مجهول أيضاً بالنسبة لي.
وصلنا لمكان غريب بعد عدّة ساعات، كان كمنطقة نائية تقريباً.

فصاح بنا مساعد السائق: الدرك التركي، اخرجوا واختبئوا.
هرع الجميع نحو الخارج وحاولوا الاختباء.
منهم من غمر نفسه بالتراب، لكنني رأيت غرفة صغيرة تبدو مهجورة، وركضتُ نحوها، فتحت بابها ودخلت، لكني صدمت برجل لا يعرف التكلم بلغتي.
يبدو أنّه من الدرك التركي أيضاً.
لكنه ولسبب ما جعلني أختبئ نحو خمسة ساعات تحت السرير، ثم قال "تشك"
لم أفهم ما قاله إللا بعد أن عبرت إلى بر الأمان وسألت بعض الأشخاص القدماء بتركيا.
كانت تعني اخرج.
بقيت بضعة أشهر وزادت المجاهيل بعقلي، فقد صرت ببلد آخر ولغة أخرى، إن كنت أريد أن أشتري طعاماً، سأحتاج لغةً.
التقيت بيوم من الأيام بذاك الشخص الذي سألني فيما إذا كنت أريد الذهاب لبلد أوروبي وقلت له أنني فكرت بالأمر وأريد أن أذهب.
أعطاني موعد حتى أراه عند شاطئ ما.
بعد أشهر أخرى وبعد أن جمعت القليل من النقود من العمل، ذهبت بالموعد المحدد.
ورأيته هو وبضعة أشخاص وأمامنا سفينة مطاطية صغيرة.
قلت له: أسنصعد بها جميعا؟
لم أتوقع أن سفري نحو المانيا كان بهذه الصعوبة.
كانت الأمواج هائلة، فكما يقولون"إن البحر غدّار"
بعد أن وصلت لليونان بدأت باستغلال قطارات أنفاق أو حافلات حتى وصلت ل المانيا.

لم أقابل ذاك الشخص الذي قابلته بالحافلة أول مرة، فقد سقط بالبحر واختفى.
أظن أن لا وجود له الآن.
ما إن وصلت ل المانيا بدأت حياتي بالتغير، وزادت بحياتي الأشياء المجهولة.
وياليتني لم أتحرك من الركام ذاك منذ البداية.
بعد سنين طويلة، ذهبت لطبيب يختص بالدماغ وما إلى ذلك،،وحكيت له قصتي.
وصُدِمتُ بسبب كلامه.
فقد قال لي" أنا لستُ ساحراً، لايوجد علاج يجعلك تستعيد ذكرياتك.
عد لوطنك وتذكر من عائلتك أو أحد تعرفه.
لكن لا أستطيع العودة، فخدمة الجيش ستأخذني ولن تعيدني إللا ميتاً.
بعد كل الذي فعلته، لم أصل لشيء معلوم، بل ردّني جدار الجهل، وها قد أوقفني الجهل بالمجهول الأبدي.
جلست كثيراً أفكّر لو أخذوني للمشفى لكانوا قد عرفوا عائلتي بطريقة ما واتصلوا بهم، وتذكرت كل شيء.
لكن هذا كان نصيبي، لابد أنّ حياتي هنا.
ومستقبلي هنا.
أظن أن والدتي تبكي علي كل يوم.
فأنا ابنها بعد كل شيء.

هذه هي قصتي التي لم أجد لها حل.
هذه هي قصتي المجهولة

قِصَصٌ قَصِيْرَةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن