المقدمة

33.3K 653 30
                                    

خالد..

من البديهي أن تحلم أي امرأة بأن تكون في يوم من الأيام أمًا، أن تحظى بتجربة لذلك الشعور الكامن في تكوينها وهو الأمومة، وأن تحمل بين أحشائها قطعة من روحها. وإن حصل واكتشفت أنّ بها شيئًا يحول دون ذلك، فقد تجدها هي خاصة دونًا عن الزوج من تبحث هنا وهناك عن دواء أو علاج.

ولكن في حالتي وأنا رجل شرقيٌ تجاوز عمره الثلاثين، كنت أنا من يسعى ويفعل أي شيءٍ للحصول على طفل بأي طريقة كانت!

قبل أن يظن بي البعض منكم السوء دعوني أخبركم قصتي، أستهلها بمقدمة بسيطة عني وعن منى، حبيبة قلبي وملكته، زوجتي.

تعرفت عليها منذ أيام الصبا، في ذلك اليوم المشمس من أيام الصيف الطويلة والحارة، رأيتها لأول مرة وقد كانت تلج إحدى الشقق بعمارتنا. كانت فتاةً يبدو عليها الهدوء ولمسة خفيفة من الحزن. نحيلة القوام، سمراء البشرة، واسعة العيون، وقصيرة الشعر.

كانت بنظري وقتها كهيكل عظمي خرج لتوه من إحدى حصص التشريح بكلية الطب القريبة من حينا، ولم أكن أتصور البتة أن يأتي ذلك اليوم الذي أصبح فيه صديقًا لتلك الفتاة .

التقيتها لمرات قليلة مذ تحولت للسكن بجوارنا هي و والدها السيد عماد وزوجته السيدة هناء. توطدت علاقة أبي بوالدها كثيرًا وبشكل سريع، وكانت منى ترافقه في كل مرة يأتي فيها هو لبيتنا فتمضي وقتها في اللعب مع أختي الصغيرة روان، ولكن علاقتي بها استمرت بنفس الجفاء طوال العطلة.

وبعد انقضاء العطلة عادت الأيام الرتيبة المملة مع الدراسة لتفتك بي، كنت كسولًا كارهًا المدرسة وكل ما يتعلق بها، وقد كانت تلك ثاني سنة لي بالسلك الإعدادي.

لفَت دخولها رفقة أستاذ اللغة العربية أنظار جميع التلاميذ من في القسم، كانت تبدو خجولة توزع نظراتها المضطربة على الجميع. وكأن ذلك الأستاذ الأعمى لم يجد لها مقعدًا فارغًا غير المقعد بجانبي أنا.

كانت تجلس بجانبي على الكرسي هادئة كعادتها، لا أسمع لها حسيسًا، وفي الكثير من المرات كنت أسترق نظراتي لها لأتفقدها ظنًا مني أن يكون النعاس قد غلبها، ولكنها كانت فقط تلتزم الصمت وتتابع حديث الأستاذ باهتمام تام.

اكتشفت تلك السنة، أن منى فتاة ذكية وشغوفة بالعلم، تهتم بكل صغيرةٍ وكبيرةٍ في دراستها، كثيرة القراءة والإطلاع، عكسي تمامًا. أستطيع أن أجزم لكم أنني وبعد سنة من ذلك اليوم انتقلت العدوى منها إلي وصرت إنسانًا آخر، كنا نقرأ سويًا ونراجع دروسنا معًا، كانت تساعدني بدون كللٍ أو مللٍ، كما كانت تعاتبني إن هي رأت مني تقصيرًا نحو دراستي أو ما شابه.

مرت السنين حيث كبرتُ وأصبحت شابًا يافعًا، بينما منى تحولت من هيكلٍ عظمي كما كانت نظرتي الأولى لها إلى فتاة جميلة رشيقة القوام، وأصبحت صداقتي بها أكثر متانة. بالإضافة إلى حبنا الخجول والذي كان ينتظر اللحظة المناسبة للبزوغ عبر اعترافنا.

وقد اعترفت لها بالفعل يوم تخرجنا من الثانوية العامة، كان اعترافًا ثنائيًا خجولًا، فجميلتي ورغم أنها قد تخلصت من بعض خجلها الزائد؛ إلا أنها كانت تخجل الإعتراف لي.

مرت سنوات الجامعة ونحن مخطوبين، نتخاصم ونتصالح في نهاية المطاف. كنت أعشقها بالرغم من كل سلبياتها المزعجة، فهي كانت شديدة التحسس من أبسط الأشياء التي قد أراها بسيطةً لا تستدعي كل تلك الحساسية والعصبية في التعامل معها.

والأن، وبعد مرور ست سنوات على زواجنا، مازلنا شخصين وحيدين في بيتنا، لم يزر مهدنا طفل صغير يزين حياتنا الهادئة والروتينية لحد ما. وهذا كان إرادة من زوجتي مُنى ومني...لا، لم تعد تلك رغبتي أيضًا؛ فأنا قد أصبحت أدعو الله أن يحصل حمل غير متوقع رغم حرصها الشديد بأخذ الإحتياطات اللازمة لعدم حدوثه.

كان لمنى تصور مخلتف عن الإنجاب والأطفال، كانت تعتبر إنجاب طفل هو بمتابة جريمة أو جنحة نرتكبها نحن البالغين بحق أولئك الذين لم يولدوا بعد أو بحق أنفسنا أيضًا.

كانت تشير لي نحو الصور المعروضة على شاشة التلفاز لأطفال يتمتهم الحرب وأنهك الجوع أمعاءهم، كانت تقول لي أنها لن تدع طفلها يولد في عالم سيء كهذا الذي نعيش فيه يومنا هذا "وكأننا نحن قد ولدنا في الجنة على سبيل المثال".

ولأصارحكم القول فتلك الأقاويل كانت كذريعة منها لإخفاء السبب الحقيقي من تخوفها غير المعقول ذاك، فهي قد فقدت والدتها فور ولادتها قبل ثلاثين سنة، كبرَت وهي تلوم نفسها على أنها السبب وراء موت والدتها، بل وذهبت إلى أنّ الأخيرة هي نفسها جنت على نفسها بمحاولة الإنجاب وهي من كانت تصارع للحياة بسبب مرضها الذي كان يهدد حياتها في حال حملت بطفل، كما لامت والدها، لامت الجميع، ولامت نفسها.

ولأنني كنت ومازلت أعشقها فقد وافقتها في اعتقادها ذلك الذي سبق وأخبرتني به قبل زواجنا، وافقتها معتقدًا أن حبي لها وعيشنا معًا تحت سقف واحد سيملأ ذلك الفراغ، وأن غريزة الأبوة ستلتزم الصمت بأعناقي مالم يولد الطفل حقًا -كما يشاع عن غريزة الأبوة- بيد أن ذلك لم يكن بيدي.

فاليوم، هناك صوت ما بداخلي يصرخ بـي :

"أريد طفلًا"!

أريد طفلًا ! (نوفيلا)حيث تعيش القصص. اكتشف الآن