جزيرة الدمى المسكونة

122 9 0
                                    



هناك الكثير من الجزر العجيبة والغامضة والمخيفة حول العالم، البعض منها حقيقي، والبعض الآخر من وحي الخيال .. هناك مثلا جزر آكلي لحوم البشر وقاطعي الرؤوس البشرية في المحيط الهادي، وهناك جزر الفصح حيث تصطف الأصنام العملاقة وهي ترمق السماء بلا كلل كأنها تنتظر عودة أحدهم .. ربما من كوكب آخر! .. وهناك جزيرة الجماجم الأسطورية حيث يتصارع الغوريلا العملاق كنغ كونغ مع الديناصورات المفترسة من أجل عيون حبيبته البشرية الشقراء، ولا ننسى أيضا جزيرة الكنز حيث يحاول القرصان المرح جاك سبارو أن يتملص من قبضة زملاءه القراصنة الأشباح! .. هناك الكثير من هذه الجزر الغامضة التي يحتمل أن تكونوا قد سمعتم أو قرأتم عنها، أو ربما شاهدتموها من على شاشات التلفاز والسينما. لكني أكاد أجزم بأن العديد منكم لم يسمع قبلا عن جزيرة الدمى (La Isla De Las Muñecas ) .. حيث للأشجار عيون، وللأغصان آذان، وللجذوع أفواه!. جزيرة من صنع البشر في المكسيك، إلى الجنوب من العاصمة مكسيكو سيتي، تنتشر مجموعة من البحيرات التي لعبت عبر التاريخ دورا حيويا وكبيرا في نشوء بعض أعظم الحضارات التي قامت على أرض وادي المكسيك، كحضارة التولتيك والأزتيك. إحدى هذه البحيرات تدعى سوتيميلكو (Xochimilco ) وتمتاز بعذوبة مياهها وبمئات الجزر الصناعية الصغيرة التي تغطي صفحتها. ففي العهود القديمة، قبل وصول الغزاة الأسبان بزمن طويل، أخترع مزارعو الأزتيك طريقة جديدة لتنمية المحاصيل، فكانوا يصنعون طوفا كبيرا يملئونه بالتراب ثم يسحبونه إلى مياه البحيرة الضحلة ويثبتوه بجذوع الأشجار، وكانوا يستخدمون هذه الأطواف للزراعة حتى يبلى قاعها فتغرق في مياه البحيرة من تلقاء نفسها فيصنعون طوفا آخر محلها، وبمرور الزمن، وبتكدس هذه الأطواف بعضها فوق البعض الآخر، ظهرت مئات الجزر الصناعية في البحيرة، وتشكلت بينها آلاف الأنهر والقنوات الضيقة والمتقاطعة التي حولت الجزيرة إلى ما يشبه مدينة البندقية الايطالية. ولقرون طويلة اعتبرت تلك الجزر العائمة بمثابة سلة غذاء إمبراطورية الأزتيك العظيمة، لكنها فقدت أهميتها، وطوى الإهمال والنسيان العديد منها مع وصول المستعمرين الأسبان الذين جلبوا معهم أساليب زراعية مختلفة عن تلك التي عرفها الأزتيك. وهكذا تحولت تلك الجزر بالتدريج إلى أماكن للسكن وللسياحة والترفيه، فبنيت فوقها المنازل والعمائر وملاعب الكرة ومدن الألعاب والملاهي. والقليل منها فقط هي التي احتفظت بطابعها الزراعي. جزيرة الدمى قبل عقد من الزمان شرعت الحكومة المكسيكية بحملة كبيرة للقضاء على نبات زنبق الماء الذي أصبح وجوده يشكل عائقا كبيرا للملاحة في أنهار وقنوات البحيرة، وخلال تلك الحملة أكتشف العمال الحكوميين عن طريق الصدفة جزيرة صغيرة معزولة وسط البحيرة، وقد أثارت هذه الجزيرة رعبا لا يوصف في نفوسهم بسبب المنظر الرهيب لمئات الدمى والعرائس المصلوبة على جذوع وأغصان الأشجار التي تغطي أرض تلك الجزيرة الرهيبة. كان منظرا مروعا بحق .. منظر قد لا يتخيل المرء رؤيته إلا في الكوابيس وأفلام الرعب السينمائية. وخلال أسابيع قليلة انتشرت أخبار تلك الجزيرة في عموم المكسيك فتسابق الصحفيون ومراسلو الصحافة والتلفزيون للوصول إليها، وفي خضم هذا الهوس راح الجميع يسأل بفضول عن القصة التي تقف وراء دمى الجزيرة، وبسؤال السكان والمزارعين المجاورين للجزيرة بدأت تتكشف رويدا رويدا وقائع قصة لا تصدق. سر الفتاة الغارقة في عشرينيات القرن الماضي، تحديدا في صباح يوم ربيعي مشمس وجميل، كان هناك زورق صغير ينساب بهدوء على صفحة المياه الراكدة بالقرب من ضفاف جزيرة الدمى، كان الزورق يقل عائلة صغيرة، رجل وزوجته مع أبنتهم الصغيرة، كانوا في نزهة وقد بدت السعادة على وجوههم، خصوصا البنت الصغيرة التي كانت ترتدي ثوبا أبيض جميل مزين بشرائط مزركشة طويلة وكانت تجلس بهدوء بالقرب من مؤخرة الزورق وهي تلعب وتضحك مع دميتها الشقراء الجميلة التي كان والدها قد أهداها لها في عيد ميلادها الأخير. وفيما كان والدا الفتاة مشغولان بالحديث والتمتع بالمناظر الطبيعية الجميلة والخلابة المنتشرة على طول القناة، كانت أبنتهما قد تركت دميتها جانبا وانحنت فوق طرف القارب في محاولة منها للامساك بزنبقة جميلة كانت تطفو فوق سطح الماء، وفجأة أختل توازن البنت فسقطت في المياه، ولم يشعر والديها بسقوطها إلى بعد أن سمعا صوت ارتطام جسدها بالماء، فقفز والدها سريعا إلى المياه في محاولة لإنقاذها فيما راحت الأم تصرخ وتولول .. الأب غاص في المياه مرارا وتكرارا حتى تقطعت أنفاسه وكاد هو نفسه أن يغرق .. لكن من دون جدوى .. كانت الفتاة قد اختفت تماما ولم يعثروا لها على أثر، حتى الغواصين المحترفين لم يستطيعوا العثور على جثة الفتاة .. اختفت إلى الأبد .. تاركة خلفها دميتها الجميلة ووالدين مكلومي الفؤاد. ومنذ ذلك الحين شاعت أسطورة مخيفة بين السكان المحليين عن فتاة صغيرة تتجول ليلا بين الجزر بحثا عن دميتها الجميلة التي تركتها في الزورق مع والديها. العجوز غريب الأطوار لعقود طويلة لم يكن في الجزيرة سوى كوخ واحد، ولم يسكن فيها سوى رجل واحد، كان يدعى جوليان سانتانا باريرا، وقد عرفه الناس في المنطقة بأسم دون جوليان. كان غريب الأطوار، لديه زوجة وأطفال في المدينة لكنه هجرهم منذ زمن بعيد وجاء ليعيش وحيدا في هذه الجزيرة المنعزلة، وقد قيل الكثير حول سبب بقاء دون جوليان وحيدا في الجزيرة .. لكن السبب الحقيقي قد يبقى سرا لا يعلمه سوى الله .. يقال بأن القصة كلها بدأت قبل أكثر من نصف قرن، تحديدا في عام 1950، حينها كان دون جوليان شابا أنيقا لديه عائلة و وظيفة محترمة في المدينة، وكان يزور الجزيرة من حين لآخر لصلة قرابة تجمعه بأصحابها الأصليين. وفي أحد الأيام، بينما كان واقفا لوحده على ضفاف الجزيرة يتأمل المياه، تماما في البقعة التي غرقت فيها الفتاة قبل سنين طويلة، تعلقت عيناه فجأة بطيف باهت لفتاة صغيرة يتهادى جسدها بهدوء تحت الماء، كان ثوبها الأبيض ذو الشرائط المزركشة الطويلة يتموج بوضوح تحت الماء، لكنها لم تكن تطفو، بدت وكأنها عالقة بشيء ما يمسك بجسدها ويبقيه تحت سطح الماء. دون جوليان ظن لوهلة بأن الفتاة ميتة، لكنه بدل رأيه حين أقترب وجه الفتاة من السطح إلى درجة كافية لرؤية ملامحها، فقد بدت كأنها حية، كانت عيناها مفتوحتان على وسعها، وكانت تنظر إلى دون جوليان بغرابة، فقفز الرجل إلى الماء على الفور ظنا بأنها ما زالت على قيد الحياة .. لكن ما سحبه دون جوليان من تحت الماء، بعد جهد جهيد، لم يكن سوى دمية أطفال! .. عروسة جميلة ذات عيون زرقاء وشعر أشقر طويل. دون جوليان كاد أن يفقد صوابه، كان متأكدا بأنه شاهد فتاة حقيقية من لحم ودم تعوم بالقرب من سطح الماء، لكن يداه لم تقع سوى على دمية من المطاط! .. وقد زادت حيرة الرجل بعدما أخبره أحد المزارعين لاحقا بقصة الفتاة التي غرقت في تلك البقعة في عشرينيات القرن المنصرم والتي لم يعثروا على جسدها أبدا. فأيقن دون جوليان بأن ما رآه في الماء لم يكن سوى شبح تلك الفتاة الغارقة وبأن الدمية هي علامة ودليل على صدق ما رآه. دون جوليان عاد إلى منزله في المدينة في مساء ذلك اليوم، لكنه لم يكن نفس ذلك الشخص الذي غادره صباحا، لم يعد يضحك ويلعب مع أطفاله كما كان يفعل سابقا، أصبح واجما وقليل الكلام، أخذت صورة الفتاة الغريقة تقض مضجعه، كلما أغمض جفنه طالعته عيونها وهي تحدق أليه من تحت سطح الماء، كأنها تحدثه وتصرخ فيه متوسلة بأن يعود إلى الجزيرة. وفي صباح أحد الأيام غادر دون جوليان منزله في المدينة ولم يعد أليه ثانية أبدا، ترك كل شيء خلفه، عائلته ووظيفته، وذهب ليعيش وحيدا في تلك الجزيرة الموحشة. في كل يوم، كان دون جوليان يلتقط دمية جديدة في نفس تلك البقعة التي شاهد فيها جثة الفتاة الغارقة، كان يأخذ الدمى ليعلقها على أغصان وجذوع الأشجار .. وبلغ هوسه بالدمى حدا جعله يذهب إلى المدينة يوميا ليبحث في سلال القمامة والنفايات عن بقايا الدمى القديمة، وأحيانا كان يقايض بعض الثمار والخضروات التي يزرعها في جزيرته بالدمى القديمة، ولم يكن يهتم كثيرا لحال الدمى التي يحصل عليها، كان يأخذها حتى لو كانت مقطعة الأوصال وممزقة، حتى لو كانت عبارة عن رأس أو يد أو بطن فقط .. كان يأخذها معه ليطرز بها أشجار جزيرته العجيبة. وبمرور الأيام والسنين، تحولت الجزيرة إلى معرض كبير للدمى، ففي كل ركن من أركانها، وعلى كل شجرة، كانت هناك دمى وعرائس تحدق بالغادين والرائحين من ركاب الزوارق المارة بالقنوات والأنهر المحيطة بالجزيرة، كانت تحدق كأنها تبحث وتفتش في الوجوه، علها تعثر على أصحابها، على أولئك الأطفال الصغار الذين كانوا يدللونها في يوم من الأيام .. فكل واحد منا عزيزي القارئ .. كان له في طفولته دمية وعروس .. كانت رفيقة ليله ونهاره .. يلاعبها .. يحادثها .. يقبلها .. تغفو دموعه وضحكاته على صدرها .. كانت الأنيس والونيس .. أفضل رفيق وأجمل الصديق .. لكن الإنسان قليل الوفاء بطبعه، ميال للنسيان والجفاء بطبيعته .. فقليلون هم أولئك الذين يحتفظون بدماهم بعد أن يجاوزوا سن الطفولة والصبى، قليلون هم أولئك الذين يبقونها في غرفهم بالقرب من أسرتهم الدافئة .. قليلون هم أولئك الذين ينفضون عنها غبار الأيام والسنين .. نعم قليلون .. ونادرون .. ربما بندرة أولئك الذين يحفظون العهود ويصونون الوعود .. فهل فكرت يوما عزيزي القارئ عن مصير دميتك .. رفيقة طفولتك .. هل فكرت ماذا حصل لها بعد أن نبذتها ؟ .. إلى أين انتهى بها المصير بعد أن تركتها ؟ .. أنظر إلى الصور المرفقة مع هذا المقال جيدا .. فمن يدري .. ربما تكون مصلوبة على أحد أغصان شجيرات دون جوليان! .. العجوز يرحل أخيرا في عام 2001، تم العثور على جثة دون جوليان طافية على سطح الماء في نفس البقعة التي شاهد فيها طيف الفتاة الغارقة قبل نصف قرن من الزمان. لا احد يعلم على وجه الدقة كيف ولماذا مات دون جوليان، لكنه رحل تاركا وراءه واحدة من أغرب الجزر في العالم وأكثرها كآبة. بعض المزارعين والسكان القريبين من جزيرة دون جوليان راحوا ينشرون قصصا غريبة عن دمى الجزيرة، قالوا بأنها تحدق بهم بغرابة أثناء مرورهم بالزوارق بمحاذاة الجزيرة، وأقسم بعضهم على أن الدمى كانت تتهامس فيما بينها، وأن البعض منها كانت تومئ إليهم وتدعوهم للقدوم إلى الجزيرة!. دون جوليان نفسه أخبر الناس خلال حياته بأنه يجمع الدمى ويعلقها على الأشجار ليبعد الأرواح الشريرة وليهدئ من روع تلك الفتاة الصغيرة التي غرقت بالقرب من الجزيرة قبل سنوات طويلة، قال بأن تلك الدمى حية وليست مجرد جماد كما يظن معظم الناس، وبأنها تشعر بغضب شديد بسبب نبذها وهجرها من قبل أصحابها، ولهذا السبب فهي تنزل عن الأشجار ليلا لتطارد وتقتل أي شيء يتحرك فوق سطح الجزيرة، لا بل أن الكثير من الناس قالوا بأن الدمى هي التي قامت بإغراق وقتل دون جوليان في النهاية بعد أن أقعدته الشيخوخة ولم يعد قادرا على جلب المزيد من الدمى!. هناك آخرون يقولون بأن عفريت الفتاة الغارقة تلبس بدون جوليان أثناء إحدى زياراته للجزيرة، وأن عفريت الفتاة هو الذي دفعه للعيش وحيدا هناك طوال خمسين عاما. وهناك من يزعم بأن الفتاة لم تغرق أصلا في مياه القناة، وأن القصة الحقيقية مغايرة تماما لما يتداوله الناس عنها، وأن دون جوليان هو الذي قام في الحقيقة باغتصابها وقتلها بعد أن شاهدها تلعب لوحدها على أحدى الجزر المجاورة، وبأنه شعر بالندم لاحقا لقتلها، ودفعه تأنيب الضمير إلى هجر عائلته، وراح يجمع الدمى ويعلقها في أرجاء الجزيرة كنوع من الاحترام لروح ضحيته وتكفيرا عن ذنبه. وبعيدا عن كل هذا القيل والقال .. الذي تمتزج فيه الحقيقة بالخيال .. فأن هناك من يرى ببساطة أن دون جوليان لم يكن سوى رجل مجنون دفعته هلاوسه وتخيلاته المريضة إلى جمع كل تلك الدمى وتعليقها على الأشجار. قبلة للسياح جزيرة دون جوليان ظلت منسية لسنوات طويلة، لكنها فجأة، ما بين ليلة وضحاها، تحولت إلى قبلة للسياح وتقاطر الناس إليها زرافات زرافات لرؤية الدمى والتعرف عن كثب على قصة دون جوليان العجيبة. وقد شعر أغلب زائري الجزيرة بنوع من الكآبة وعدم الراحة ما أن خطت أقدامهم أرضها، فمئات العيون الصغيرة كانت تراقبهم وتتفحصهم بدقة، أينما أداروا وجوههم كانت هناك رؤوس بشعة تحدق إليهم، فبعد سنوات من التعرض لأشعة الشمس والرياح والأمطار تحولت العديد من دمى الجزيرة إلى مسوخ مرعبة يمكن أن تدخل الخوف إلى قلب أشجع الرجال. هذا حال الجزيرة في النهار، أما في الليل، فلا يجرأ احد على دخولها، ولا يسمع فوقها سوى دبيب أرجل صغيرة تتقافز وتركض هنا وهناك بحثا عن فريسة جديدة .. عن أولئك الذين نبذوا دماهم وعرائسهم وتركوها وحيدة ..

موسوعة الاساطير- حكايات مرعبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن