شكرا أيها الملك

76 7 1
                                    



السيد (ألان هاريس) أحد رجال حاشية الملك (جورج الثاني) ملك (إنجلترا) (1683-1760) كان كعادة النبلاء في ذلك الزمان يمتلك قصرا ريفيا محاطا بمزرعة مترامية الأطراف..فضلا عن قصره في (لندن) بجوار الملك.. وأثناء اجتماع الملك مع حاشيته صبيحة أحد أيام عام 1729دخل كبير الياوران وسلم السيد (هاريس) رسالة عاجلة من المشرف على منزله الريفي.. كانت الرسالة تقول: (احضر بسرعة يا سيدي التحف الذهبية التي تركها الغالي العزيز والدكم قد سرقت والتحف الفضية التي تركها الغالي العزيز علينا جميعا جدكم الكبير قد سرقت أيضا.. ونحن نأسف لما حدث.. ولكن حضوركم سوف يكون شمسا تشرق على الحقيقة لنعرف الجاني الأثيم) وأسقط في يد السيد (هاريس)..ولم يكن هناك بد من استئذان الملك في الذهاب إلى الضيعة..وأذن له الملك.. فذهب من فوره مصطحبا زوجته..وهناك استقبله المشرف على ضيعته..وكان في حالة يرثى لها.. وابتدره المشرف قائلا: إن هذا عار قد لحقني بصفة شخصية.. لأنني أغلق الأبواب والنوافذ كل ليلة وبإحكام شديد.. ولا أدري كيف حدث كل ذلك.. كان في القصر الريفي طاه وثلاثة من الخدم وخادمتان.. وسأله السيد (هاريس): كيف حدث ذلك؟ قال المشرف: في إحدى الليالي وبعد أن أويت إلى فراشي.. انتبهت إلى أصوات خافتة وجلبة مكتومة في غرفة التحف التي تقع تحت غرفتي مباشرة.. واندهشت..وتساءلت في نفسي عن مصدر هذه الأصوات.. وتوجست خيفة لأنه لا أحد من الخدم قد يكون السبب في تلك الجلبة لأني كنت على يقين من نوم الجميع.. فأنا آخر من ينام في القصر بعد الاطمئنان إلى نوم الجميع وإغلاق كل الأبواب والنوافذ بإحكام وبنفسي.. فارتديت ملابسي وامتشقت سيفي وهبطت الدرج بحذر واقتربت من الغرفة.. وضعت أذني على الباب لعلي أستمع إلى شيء ما.. كان الصوت الآن واضح تماما..إنه صوت الآنية الفضية وهي تعبأ في صناديق.. وحاولت أن أقترب من الباب أكثر لعلي أسمع صوت الخدم الذين أفلحوا في التسلل في الليل إلى هذه الغرفة.. قال له السيد: لماذا لم توقظ الخادمتين، وتذهب أنت إلى رجال الشرطة؟ قال المشرف: خطرت لي هذه الفكرة لولا أنني خشيت أن يخرج اللصوص ويعتدوا على الفتاتين ويهربوا. قال السيد: إذن لماذا لم توقظ الخادم والطاهي ليعاونوك في القبض على اللصوص؟ قال المشرف: بل كنت أظن أن الخادم والطاهي هما اللذان تسللا إلى الغرفة.. قال السيد:إذن ماذا فعلت؟ قال المشرف:استجمعت شجاعتي..وأمسكت سيفي بقوة..واندفعت أفتح الباب عنوة سأله السيد: ومن وجدت؟ قال: الشاب النحيف (هنري) واثنين آخرين..كانوا ملثمين..ولكني تعرفت على (هنري) من طريقة مشيته.. سأله السيد: ومن هو (هنري) هذا؟ فأجاب: إنه شاب استأجرنه في الأيام الأخيرة..وهو من أسرة فقيرة..ولكن أباه رجل طيب. وقد أحسن تربيته. ثم أكمل قائلا: لم أكد أفتح الغرفة حتى هجموا علي وأوثقوني إلى أحد المقاعد بالحبال وسدوا فمي وهربوا.. اتجه السيد إلى بقية الخدم يسألهم عما حدث.. فأجاب أحدهم بحرقة: بأنه من الضروري أن يقدم استقالته وكذلك سوف يفعل زملاءه..لأنهم يعملون في خدمة السيد منذ عشر سنوات ولم توجه إليهم هذه التهمة الشنيعة.. أصر الخدم على أن يقدموا استقالتهم بعد هذه الإهانة البليغة..وحاول السيد أن يسترضيهم..وأفلح أخيرا في تهدئتهم بعد أن أضاف إلى مرتب كل منهم جنيهين فوافقوا على مضض. واعتذر لهم السيد عما حدث..وقال: إن التهمة غير مقصودة..ومشرف القصر كان في حيرة ولم يعرف بالضبط ما الذي يفعله..ثم إنه رجل كبير وهو في مقام الوالد للجميع..والآن هل لكم أن تقصوا علي ما حدث؟ قال الخدم أنهم اعتادوا أن يصحوا في السادسة صباحا..وأن يعدوا طعاما لإفطار في السابعة إلا ربعا..وأن ينزل المشرف لتناول الإفطار في السابعة إلا خمس دقائق.. ولكنه في ذلك اليوم لم يحضر في موعده..وأخذ الجميع ينتظرونه وهم يتعجبون لذلك .. فهذه أول مرة يخلف موعده منذ عشر سنوات.. ثم أخذوا يتندرون فيما بينهم ويقولون: لابد أن الغطاء كان ثقيلا..أو أن الشراب كان غزيرا..أو أن المشرف مريض.. ومع مرور الوقت شكوا أن شيئا غير عادي قد حدث له.. وتشاوروا فيما بينهم.. أيهم يذهب لإيقاظه بطريقة لبقة لا تسبب له أو لهم الخجل..واقترحوا أن تذهب إحدى الخادمتين وتدق بابه وتسأله كم الساعة الآن.. وذهبت الخادمة..ودقت الباب مرة..مرتين..ثلاثا..ولكن المشرف لم يرد.. فعادت بسرعة تروي لهم ذلك.. فقاموا جميعا إلى غرفة المشرف وفتحوا الباب قسرا..ولم يجدوا المشرف.. وإن كانوا وجدوا مكانه خاليا على السرير.. واستنتجوا أنه نام في فراشه..ثم استيقظ مبكرا وخرج لسبب ما.. وقرروا أن يسألوا (هنري) لعله يعرف مكان المشرف..اتجهوا إلى غرفته..ولكنهم لم يجدوا الشاب في فراشه.. واستنتجوا أن الاثنين قد خرجا إلى النزهة أو في أمر ما في ساعة مبكرة.. أو إنهما ذهبا إلى حظيرة الأبقار.. وأسرعوا إلى الحظيرة فلم يجدوا أحدا.. ثم قرروا أن يفتشوا بقية غرف القصر..وعندما وصلوا إلى غرفة التحف وجدوا المشرف مقيدا بالحبال إلى أحد المقاعد..ووجدوه مكمم الفم وقد وضع القماش في فمه لمنعه من الصراخ..ففكوا الحبال وحرروا المشرف.. وراحوا يدلكون جسمه ليستفيق..ولكن الشاب (هنري) كان قد اختفى تماما..ولم يعثروا له على أثر.. واستدعى السيد (هاريس) رجال الشرطة..وعاينوا كل شيء..وأحصوا المسروقات فكانت كثيرة..ومن بينها شمعدانات من الذهب الخالص أهديت إلى أسرة السيد (هاريس) من الملوك والأمراء. ومن بينها هدايا من كبير الأساقفة وكذلك لوحات فنية قيمة..والعديد من التحف الأخرى.. وتم عمل محضر بذلك..وانصرف رجال الشرطة مع وعد بالبحث الجدي عن الجاني وتقديمه للعدالة.. واتجهت كل الشكوك إلى الشاب (هنري) الذي اختفى تماما ولم يعثر له على أثر.. وقيل إنه فر بالمسروقات لبيعها في مدينة أخرى في (إنجلترا) ثم الاستقرار هناك أو الهرب خارج (إنجلترا) إلى أي مكان آخر.. ومضت شهور ولكن الشرطة لم تهتد إلى شيء.. ولم يكن من الصعب على السيد (هاريس) أن يعرف أنه لا أمل في شيء..وأن الذي راح قد ذهب إلى غير عودة.. كما أن الشرطة لم تفلح في العثور على الشاب (هنري) برغم البحث المضني المكثف في طول (إنجلترا) وعرضها.. ولم يصدق أحد هذه الدهشة والحزن الحقيقي والعار الذي أحس به والد (هنري).. فلم يتصور أن ابنه الذي رباه على الأخلاق الحميدة يستطيع أن يسرق..أو يشترك مع آخرين في السرقة.. كان يحاول أن يدافع عن ولده ويدفع عنه العار..فلا يجد الجميع سوى مط شفاههم مشفقين عليه.. ليس في إثبات السرقة فالكل على يقين من أن (هنري) هو السارق..ولكن تعاطفا معه في صدمته في ابنه.. ومرت سنة.. وفي إحدى اجتماعات الملك (جورج الثاني) مع حاشيته.. قال الملك للسيد (هاريس): عندي شعور غريب بأنك سوف تعثر على مفقوداتك. وسكت برهة ثم استطرد يقول: لم تسألني كيف عرفت ذلك؟ قال السيد (هاريس) بدهشة ممزوجة بالاحترام: إنها فطنة مولاي وبعد نظره بالتأكيد.. فابتسم الملك وقال: رأيت في نومي ليلة أمس أن طائرا كبيرا قد هبط على قصرك الريفي ومعه الشمعدان الذهبي المسروق منك والذي أهديته لك.. وعندما ألقى بالشمعدان فوق القصر انكسر الشمعدان.. ثم اختفى الطائر والشمعدان كلاهما فجأة..وحاول كل أفراد أسرتك والخدم أن يعثروا على الشمعدان فلم يجدوه..إنها مرات قليلة التي حلمت فيها بأشياء أشعر أنها ستتحقق ثم تتحقق.. كانت الحاشية كلها على علم بتلك القدرات العجيبة التي يتمتع بها الملك..لذلك أخذ السيد (هاريس) الكلام على محمل الجد.. ومرت أيام..ثم سافر السيد (هاريس) مع أسرته في إجازته السنوية إلى قصره الريفي.. وعندما وصل اجتمع بالمشرف على القصر..وطلب منه أن يعرض عليه كيف يحرس القصر وكيف يغلق أبوابه ونوافذه.. وفوجئ السيد (هاريس) بأن المشرف يغلق كل شيء..الأبواب والنوافذ الخارجية وكذلك أبواب ونوافذ غرفة التحف والغرف الغير مستخدمة من القصر..وهو يفعل ذلك بنفسه..وبذلك لا يستطيع أحد أن يتحرك في أية غرفة غير غرفته أو غرف بقية الخدم أو المطبخ ودورة المياه بالطابق الأرضي.. فكل الغرف قد أقفلت ومفاتيحها في جيب المشرف.. وهو كذلك يوصد على نفسه غرفته قبل أن ينام.. وذهب السيد (هاريس) إلى غرفته وقال لزوجته بدهشة: ما هذا الذي يفعله المشرف على قصرنا؟ قالت الزوجة: وما الذي يفعله؟ قال الزوج: إنه يغلق الأبواب والنوافذ..ولم يبق إلا أن يغلق أفواهنا أيضا. ضحكت الزوجة وهي تقول: ولكنه يا عزيزي يفعل ذلك منذ عشرة أعوام قال الزوج: لم أكن أعرف ذلك. قالت الزوجة: وما الذي تعرفه أنت في هذا البيت؟أنت تمضي طيلة الوقت مع الملك حفظه الله.. وأوى السيد (هاريس) إلى فراشه وهو يفكر في هذا القصر الذي تغلق أبوابه ونوافذه بمثل هذا الإحكام منذ عشرة أعوام ومع ذلك استطاع اللصوص أن يتسللوا إليه.. ولم يصل إلى شيء..وأحس بصداع شديد يكتنفه جراء حيرته..ونظر إلى زوجته فوجدها تغط في نوم عميق فقرر أن ينام..وغدا يوم آخر.. وفي اللحظة التي امتدت يده فيها لكي تطفئ الشمعة رأى شابا نحيفا واقفا أمامه..وارتعد السيد (هاريس).. ولكن الشاب النحيف انحنى أمامه ليحييه في هدوء باحترام بالغ... فسأله السيد (هاريس) وهو في حالة فزع شديد: كيف دخلت إلى هنا؟ وماذا تريد مني؟ أشار الشاب إلى فمه بما يدل على إنه لا يستطيع الكلام..وأشار إلى السيد (هاريس) أن يتبعه فقط..ونزل السيد (هاريس) من سريره وبسرعة سحب سيفه..ولكنه فوجئ بالشاب يفتح باب الغرفة الذي كان مغلقا بالمفتاح.. وخرج.. ولم يجد السيد (هاريس) بدا من أن يتبعه برغم دهشته وخوفه..وقد طمأنه وجود السيف في قبضته وضعف الشاب الظاهر في مشيته الغريبة.. وانطلق يتبعه..ولاحظ رغم خوفه الشديد أن هذا الشاب يمشي بلا صوت.. ولم يتبين قدميه في الظلام..وازدادت دهشته..ولكنه قرر المضي مع الشاب فإن شعر بأي بادرة غدر أغمد السيف في قلبه مباشرة.. وقبضت يده على السيف بتوتر شديد..ولكنه اطمأن لأن الشاب كان يمشي أمامه..كما أن شيئا ما في مظهر الشاب أشعره بالهدوء..فالشاب بدا رقيقا ومهذبا للغاية.. خرج الشاب من القصر واتجه إلى الحديقة.. ووراءه السيد (هاريس).. ثم اتجه إلى شجرة بلوط ضخمة في الحديقة..والسيد يتبعه..فتوقف عندها وأشار إليها بيده.. وتقدم السيد (هاريس) إلى شجرة البلوط.. ونظر إلى الأرض..ولما حاول أن يستوضح كان الشاب قد اختفى.. وارتجف جسد السيد..وفرك عينيه جيدا ثم عاد يفتحهما مرارا..وبحث عن الشاب في الحديقة كلها..ولكنه لم يعثر له على أثر.. من ثم عاد من فوره إلى القصر وأيقظ الخدم.. وطلب منهم ألا يحدثوا أي ضوضاء حتى لا تصحو زوجته وأولاده..ثم طلب منهم أن يحملوا المعاول..واتجهوا إلى شجرة البلوط..وأمرهم أن يحفروا الأرض.. وحفروا الأرض..وعثروا على سترة..ثم على جثة متحللة.. وصرخ الخدم: إنه (هنري).. وأعادت الشرطة فتح التحقيقات..واعترف المشرف على القصر بالحقيقة..وقال: لقد اتفقت مع اثنين من اللصوص على سرقة التحف ثم بيعها واقتسام ثمنها فيما بعد.. وكانت الخطة أن أنتظرهم بعد نوم الجميع..فيدخلا القصر ويجمعا كل التحف ثم يوثقاني إلى أحد المقاعد لإبعاد الشبهات عني.. كنت أعلم أن الخدم سيستغربون تأخري وسيبحثون عني إلى أن يجدوني موثقا فيكونوا خير شهود يعضدون روايتي.. وكان كل شيء يسير على ما يرام..ولكن فجأة خرج (هنري) من غرفته ورآنا..وأسقط في أيدينا.. وحاولنا استرضاءه..ووعدناه بأن يقتسم ثمن المسروقات معنا..ولكنه أبى إلا أن يخبر الجميع ويفضحنا.. فجن جنوننا..ولم يكن هناك بد من قتله..فقطعت لسانه تنكيلا به ثم قتلته ووارينا جثته تحت شجرة البلوط في الحديقة.. وقررت إجراء تعديل طفيف بالخطة بإشراك (هنري) في الجريمة في أقوالي..فتتجه كل الشبهات نحوه..وبالطبع لن يعثروا له على أثر..من ثم تحفظ التحقيقات بعد فترة.. وكان مما سيعضد أقوالي أن (هنري) شاب فقير ولم يمض على تعيينه في القصر سوى أسابيع قليلة..فلا ريب أن التحف قد زغللت عينيه فقرر سرقتها..وقلت لنفسي هكذا سيفكر الجميع..وبالفعل هذا ما حدث بعدها.. وأصدرت محكمة (لندن) حكمها على المشرف على القصر واللصين بالإعدام شنقا.. وأعدموا.. وبعد إعدام المشرف على القصر بيومين استدعى الملك (جورج الثاني) السيد (هاريس) في ساعة مبكرة من الصباح..ولما وصل السيد (هاريس) إلى قصر الملك وجد تعليمات بضرورة أن يدخل إليه في مخدعه مباشرة..ودخل على الملك في مخدعه.. ولم يكد الملك يراه حتى قال له: هل تعرف شابا في بداية العشرينات من عمره..طويلا ونحيفا..وعينه اليمنى أصغر قليلا من عينه اليسرى..وإذا سار وضع إحدى يديه على معدته كأنه يشكو مغصا وانحنى قليلا للأمام؟؟ قال السيد (هاريس) بدهشة: أعرفه يا مولاي..إنه الشاب (هنري) الذي قتلوه في قصري الريفي أثناء السرقة.. هنا اعتدل الملك في جلسته وقال: لقد صحوت من نومي على صوت باب المخدع وهو ينفتح..وعندما أخرجت رأسي من تحت الغطاء رأيت ذلك الشاب.. اندهشت بشدة وسألته:من أنت؟ وكيف دخلت إلى هنا دون أن يعترضك الحراس؟ ولكنه لم ينطق بكلمة واحدة..فقط أشار إلى فمه بأنه لا يستطيع الكلام..واقترب ببطء من السرير.. أردت أن أصرخ مستدعيا الحراس..ولكن شيئا ما منعني..ربما هدوء الشاب ورقته.. وكل ما حدث بعد ذلك أن الشاب اقترب من غطائي وانحنى عليه يقبله في امتنان..ثم اختفى بالواقع لست أدري لم فكرت في أنك أنت بالذات تعرف ذلك الشاب؟.. فقررت استدعاءك..وصدق حدسي نعم أيها الملك.. لقد صدق حدسك.. إنه (هنري)..جاء يشكرك لأنك انتقمت له..وقتلت قاتليه.. وبعدها اختفى ولم يعد أحد يراه أو يسمع عنه بعد ذلك.. لقد أنجز مهمته..ولم تعد له حاجة في دنيانا...

موسوعة الاساطير- حكايات مرعبةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن