نظر سالم الى الاعلى، كانت الشمس مشعة تمتد خيوطها لتنعكس على البحر الذي ظل يحملهم ببطء، نظر الى الارامل والاطفال في جهة خائفين وتتملكهم الحيرة، وكم أن الحيرة والجهل ترهق التنسان دائما، وتنهي حياته، لا يحب ا لانسان أن يكون جاهلا بما ينتظره فهذا يصيبه بالنقص والنقص يربكه ويجعله يفكر بالموت لا أحد كامل بالتأكيد ولكن فكرة الموت بالنسبة للانسان تبدأ عندما يتذكر نقصه
نظر الى الاطفال بحسرة وتمتم: يا الهي ساعدهم! انقبض قلبه وآ لمه واحس كما لو ان قلبه سيخرج من مكانه والعالم اصبح بطيئا فجأة ودوامة من الذكريات تسللت بسرعة، كلص محترف يدخل دماغه ويصب ا لالم والذكريات بعنف
قال لصديقه الغريب: كيف وصلت الى هذا القارب أيها الشاب؟
نظر صديقه عمار للاعلى ثم قال: كنت انا واختي و والدي، امي ماتت قبل الحرب بسبب الحمى ،كان بيتنا مجرد شقة صغيرة، مطبخ ابيض قديم، يطل على غرفة المعيشة الفقيرة من الاثاث الجيد، وغرفة نوم واحدة متهالكة، في كل مرة انظر لسقفها اشعر انه سيبتلعني! استمر بالتحديق وقبل ان تغفو عيناي يسقط السقف ولا انام بعدها الا فوق الاريكة، حتى نمنا في يوم ما بعدما تناولنا عشاء غنيا، وقصصنا أحلامنا وذكرياتنا، عندها وفي تلك المرة فقط أصبحت خيالاتي حقيقة وسقط السقف علينا كانت ومضات رمادية قبل ان ُيغشى علي واصبح ضائعا في الحطام، وبعد مدة من الوقت استيقظت مخنوقا وخائفا، ألم قوي ينبض في دماغي، كأن قلبي أصبح في رأسي، وشعرت بسائل لزج على عنقي، وفجأة ظهر نور حقيقي وسحبني المسعفين لاصبح بلا منزل او عائلة محاط بالدمار واعمل في انقاذ الضحايا من وحدة الحطام
رد سالم: تشبه قصص الكثير منا، نسمع هذه الحوادث كثيرا حتى نتجمد فلا نعلم هل نبكي او نبقى واجمين؟
صمتا للحظات ثم سأله عمار عن قصته فتنهد وقال: اكره ان اعترف ان قصتي مختلفة جدا و لا هي مملوءة الا بالموت، ولا شيء غير الموت
كنت انا واختاي و والداي اختي سلمى وشقيقتي فاطمة نعيش في منزل صغير بعيدا عن الحرب ننعم بالقليل من الدفء، كنا بعيدين عن الدمار لدرجة اننا لم نكن نسمع الصواريخ والحطام الا من المذياع وحسب، حتى امتدت الحرب ولم تترك بيتا في قريتنا الا واقتحمته، دخل الجنود مشهرين اسلحتهم، يصرخون بالقضاء على كل قروي في منزلنا، هرعت الى القبو انا واختي فاطمة تاركين وراءنا عائلتنا لمواجهة مصيرهم الحتوم، فدخل الجنود عليهم وأطلقوا النار عليهم لتخترق الرصاصات أجسادهم
اختبأنا انا وفاطمة جاثين على الارض في ذلك القبو الضيق، وضعت يدي على فم فاطمة و وضعت يدي الاخرى على وجهي لامنع خروج صوت النفس حتى!
وبعدما خرجوا بدأ الدم الاحمر التوهج بالسيلان من أجسادهم الهامدة على الارض، استطعت رؤيته بسهولة من شق صغير في باب البهو، وبان جسد امي قليلا وفستانها الازرق مبلل بالدماء مشوه وكئيب، بينما كان في الصباح متوهجا تكسوه رائحة عطر الياسمين
لم استطع فعل أي ش يء وظللت ساكنا أتأمل الموت مستلقيا فوق أجساد عائلتي، لم استطع الخروج كبطل او الخروج كمدني اختبأت كحشرة تخاف من ان تسحق، ماهي الا دقائق بدت كسنوات لي، حتى استمعت الى الجنود وهم يخرجون منتصرين منتشين لم تكن في قلوبهم أي ذرة ندم لم ينظروا خلفهم بل استمروا رافعين أسلحتهم بشهامة يطلقون تعليقاتهم السخيفة عن إصابة العدو وكنت أتساءل أي نوع من الاعداء كنا ليتصرفوا بجبروت هكذا!
حالما خرجوا لم تتمالك فاطمة نفسها وعادت الى الخلف بسرعة حتى اصطدم ظهرها بقوة بالجدار ،وبدأت تبكي بحرقة وكأنها أصيبت، هرعت اليها احضنها وامسح على رأسها وأنا أريد ان ابكي في حضنها وحسب، لم تكف عن ترديد "دخلوا علينا اصابونا انا خائفة! خائفة" لم استطع ان اتحمل وبكيت معها واخبرتها بأنني خائف اكثر منها، كانت الصدمة كفيلة بأن جعلتنا نقبع في ذلك المكان النتن ليوم كامل نصمت للحظات ثم نعود للبكاء عاجزين عن فعل أي شيء، وتزداد رائحة الجثث فظاعة، لم يبقى احد في تلك القرية الصغيرة غيرنا كنا محظوظين لبقائنا على قيد الحياة، في لحظة عابرة تذكرت صوت فاطمة المرتجف وهي تقول "خائفة، خائفة!" فسحبتها من خوفها في ذلك المكان الضيق لنخرج للأعلى وبدأت أركز على الاجساد الخاوية من الحياة، الدم منتشر في كل مكان، قطرات من الدم شكلت لوحة من المعاناة على الجدار، المنضدة مقلوبة يرتاح جسد سلمى خلفها بينما كان دمها يبلل السجاد حتى أعطاه لونا جديدا، وأبي ترتاح في يده بندقية الفلاح البسيط الذي حاول بها الدفاع عن بيته ولكن ما فائدة بندقية بدائية امام اسلحة لم اسمع باسمها يوما؟
وامي هناك، بجانب الاريكة التي لم اعد اميزها، تنظر لي وعيناها تحكي اخر لحظاتها من رعب وخوف! اغمضت عيني امي، واحتضنت أجسادهم غير مبال للدم او لهيئاتهم، فمهما يفعل بهم اولائك المجرمون
لا أزال أبينهم واعرفهم واتذكر ايامي معهم
اصطفت أجسادهم، تتوهج باللون الاحمر، ترقد في حفر متفرقة، فلقد حفرت قبورا لهم وصليت عليهم ودعوت لهم ودعتهم بهدوء وحب وبكثير من الدموع والالم، نظرت إلييهم قبل أن أدفنهم وفاطمة بجانبي تبكي بهدوء، جرفت الرمال فوقهم وهي تغطيهم ببطء، وبعد أن انتهيت ودثرهم التراب، واختفى وهج الثوب الازرق، وجفت الدماء، مشيت الى البيت بهدوء، يداي منعقدتان خلف ظهري وجسدي منحن كأنه كان يحمل أوجاع العالم كله، وصلت عند عتبة الباب، نظرت ورائي، ولم يكن هنالك أحد!
انسل خيط رفيع من عينيه وتوقف عند هذا الحد واحمرت عين عمار، بلل سالم شفتيه ونظر للأعلى يسد مخارج الدموع ثم اكمل: مشينا انا وفاطمة من خلف المدينة لمدة، وفي الطريق التقيت بشخص يدعى عمار كانت عائلته قد ذهبت أيضا فخففت صحبته بؤسنا
استمررنا بالتحرك باتجاه البحر فقد قيل لنا أننا سنجد بعض القوارب هذا الاسبوع الذي تحمل بعض الاشخاص الهاربين من هذا الوضع، سرنا بقليل من الغذاء، وفي نهاية الطريق رآنا جنديان فبدأ بالصراخ علينا طلبا منا ان نركع او انهم سيقتلوننا، وكنا نعلم اننا ان ركعنا سنموت وان هربنا سنموت ايضا ولكن حفنة من الامل حاوطتنا فهربنا الى قرية كانت قريبة منا، فدخلنا احدى البيوت الشعبية الصغيرة، تفرق الجنديان فذهب أحدهما وراء عمار وا خر كان ورائي انا وفاطمة كنت اشعر انني سأموت من الذعر لا من الرصاصة، وشعرت ان النهاية تقترب مني
دخلنا غرفة صغيرة بنافذة واحدة كبيرة شفافة وكنا نأمل أننا اضعناه ولكن الجندي الاخر كان في البيت المقاابل لنا، رآنا من النافذة، فاطلق على فاطمة واخترقت الرصاصة جسدها وامتلأت شظايا الزجاج بدمائها وتحولت النافذة الشفافة الكبيرة، الى اخرى ذات حواف حادة كئيبة حمراء، وأصبحت فجأة صغيرة ترسل الظلام
سقطت فاطمة على الارض فورا وسقطت معها، كأنني انا الذي ُأصيب ارتجفت يداي وانا احملها كانت تحاول التنفس دون فائدة وهي تنظر لي بذعر شديد، وعيناي أصبحت تحرقني وقلبي يؤلمني على حالها، لم تستطع ان تودعني لم تستطع قول شيء، ولكنها استسلمت في النهاية ومسحت وجهي وهي تنظر لي بعينان بنيتان تلتمعان، وشفتان صغيرتان ترتعشان،حاولت ان تقول شيئا، أن اعتذر لها ولكنها وضعت اصبعه االنحيل على شفتي الجافتان، وابتسمت بلطف، حتى استرخت عضلاتها وسقطت يدها على الارض فوق شظايا الزجاج الحمراء، وبكيت بحرارة عليها وانا امسك بيده واعيدها الى خدي، وبدأت أفكر: انها فاطمة ذات السبعة عشر ربيعا التي لم تتخلص من حب الشباب الذي لطالما آلم قلبها انها التي لم تعمل تسريحة عرسها انها التي لم تعد موجودة لتوزع الحلوى في العيد انها فاطمة التي لم تعد موجودة لتصنع لي عيدا حتى، انها فاطمة ذات السبعة عشر ربيعا الشابة الجميلة، البيضاء كالقطن انها فاطمة التي تريد ان تصبح عالمة مشهورة وتخرج في برنامج الصباح الذي أحبته طوال حياتها، انها التي خرجت روحها للسماء وبقي جسدها هامدا في الارض
سمعت طلقتين ناريتين فنهضت بسرعة وخرجت من تلك الحجرة وانا اشعر ان روحي ُتركت بجانب جسدها وانني أصبحت فارغا دون هوية او عائلة او روح، لقد كانت روحا باهتة ومسكينة تركتني للفراغ العميق، وبقيت بقرب الهاوية اتشبث بها لئلا تتركني وحيدا للحزن والالم
خرج من ذلك المنزل الشعبي وكان عمار واقفا أمامي وأخبرني أنه قد وجد مسدسا وأطلق على الجنديين، لم يكد ينهي حديثه حتى سحبته من معصمه أركض من مصير شقيقتي أهرب بعيدا عن هذا العالم الموحش
صمت وهو يفكر ثم قال ببطء: كيف توقفت عن البكاء في ذلك اليوم؟ لا أعلم ولكنني شعرت بأنني وحيد جدا في هذه الدنيا وتمنيت ان أموت، وازداد فراغ روحي وأصبحت دون أمل أو مشاعر، تسحبني الحياة دون رغبة مني
ثم وصلت مع عمار الى هنا ملطخين بالدماء كالاموات الاحياء على أمل ان نجد شيئا من الرضى او الامان
انتهى سالم من رواية قصته وصمت الاثنان ثم ربت سالم على ظهر عمار وتمتم قائلا : لا يمكن ان نكون غرباء يا صديقي