كان هايدن جاكوبس نافذ الصبر..انه ليس بالرجل الصبور عادة..لكن كان يعتقدأن هذا أكثر بكثير من قدرة أكثر الرجال رصانة على تحمله.. كان قد أمضى اليومين المنصرمين سجينا في منزله اللندني،كحكم بين عدة مرشحين تواقين للحصول على وظيفة كان يعتبرها ازعاجالا ضرورة له..جميعهم جاؤوه بتوصيات رفيعة من شخصيات رفيعة القدر.لكن فكرة لبقاء ملتصقا بأي واحد منهم لأسابيع أو أشهر من التعاون الوثيق،جعلته يلتوي سخطا.
منتديات ليلاس
تمتم ملتفتا الى وكيله المسن الذي كان يجري عنه المقابلات:
_يا لها من مضيعة للوقت..ما عدد الذين مازال علي مقابلتهم؟
رد دويل فرانسيس باختصار:"الأمر عائد لك هايدن"
كان هو كذلك قد أضاع يومين كاملين هدرا،ويكاد أن يصل الى نهاية قدرته على التحمل..وأكمل:
_أي من كتاب النصوص هؤلاء يمكن أن يكون مناسبا..ما الذي تفتش عنه بحق الله؟عن كمبيوتر بشري؟
رد زبونه ساخطا:
_كلما كان أقل انسانية كان ذلك أفضل..لماذا لا ننسى الأمر يادويل؟
تأوه الوكيل المسن:
_فلنتوقف قليلا هايدن..لقد مررنا بهذا مرات ومرات..قد تكون نابغة كمبيوتر ومؤلف قصص ممتازة،لكن لا يمكنك الشروع في كتابة سيناريو فيلم سينمائي دون تدريب أو خبرة سابقة.ويجب أن تتعاون مع أحد..الا اذا تركت أمر تحويل القصة الى كاتب سيناريو محترف..وهذا ما يفعله أي كاتب متعقل..
_أنا لست كاتبا..والله وحده يعرف ما الذيدفعني الى تأليف ذلك الكتاب أصلا..على أية حال لا ريد أن أرى مؤلفي المثير للشفقة كما هو،يسلب محتواه..اما أن أعمل على هذا السيناريو بنفسي أو أن نلغي الفيلم.
_أوه..حسن جدا..ليكن ما تريد هايدن..لست أدري لماذا أزعج نفسي حقا.
كلاهما كان يعرف جيدا السبب،فلقد كان مؤلف"الجزيرة الضائعه"أثمن ممتلكات"وكالة دوبل فرانسيس الأدبية"في السنوات الأخيرة.ولقد تهافت على اختطافهادون الاطلاع عليها عدد من الناشرين على طرفي المحيط،ومنذ ذلك الوقت يحاول منتجو الأفلام الحصول على حقوق التصوير،برفع أسعار عروضهم،وبتقديم النس المئوية المذهلة،التي لم يسب تقديمها لمؤلف وجه عام،منذ سنوات لم يسبق أن م دويل فرانسيس كوكيل أدبي في مثل هذا التسابق خلف مؤلف مبتدئ غير مجرب..مع أن الوكيل وزبونه الساخر، كانا يدركان جيدا أن سبب اثارةهذه العاصفة من الاهتمام،لم تكن جدارة الكتاب الأدبية التي لا مجال للتساؤل عنها،بل كان اسم المؤلف.
لقد كان هايدن جاكوبس نوعا من الأسطورة في عالم الكومبيوتر منذ برز كعبقري لا يقدر بثمن وهو في السابعة عشرة،ليصبح فيما بعد على رأس امبراطورية كومبيوتر عالمية،وهو في الثلاثين..مع كل هذا، وبالنسبة للرأي العام،بقي مجهولا ا وجه له،مثه مثل بناة الامبراطوريات،الى أن تحطمت نفاثته الخاصة في المحيط الهندي،وقيل أنه مات.
هلة الرومانسية والغموض التي اكتنفت الموت المبكر للمليونير الغامر الشاب,راقت للصحافة وسرعان ما تعلق الناس بذكراه..وأصبح المرحوم المزعوم هايدن جاكوبس مشهورا عالميا،وموضوع عدد لا حصر له من المقالات وكتاب عن حياته الشخصية.
ثم وبعد ستة أشهر من تحطم الطائرة،عاد هايدن جاكوبس الى الظهور من أرض الأموات دون أي تفسير ليثير بهجة الجمهور وفضوله برفضه العوده الى ترؤس امبراطورية جاكوبس،مديرا ظهره لنمط حياته القديم والانكفاء للعيش في فردوس سري استوائي..وبالطبع،مخيلة الجمهر الرومانسية انطلقت في تصوراتها أكثر مما سبق،أمام التحول الغريب من الرجل العابث الى الناسك الغامض..ولا عجب اذن،انه حين خرج بأول كتاب له،وهو خيال علمي،تهاتف الناشرون ومنتجو الأفلام متلهفين الى الحصول عليه..
أعلن الكاتب بصراحة لوكيله:
_سأرى مرشحا واحدا بعد..وهذا كل شئ.
_واذا لم يرق المرشح هذا لتوقعاتك الغامضة..فماذا بعد؟
_اذن ستخبر رجلك..ما اسمه؟
_نيل هاردينغ.زومعظم الكتاب يتلهفون على أشهر مخرج سينمائي في البلاد.
لكن هايدن لم يتأثر.
_بامكانك القول له اما أن يقبل بالسيناريو"الفج"الذي كتبته أو ينسى أمر الفيلم.
هز دويل فرانسيس جسده الضخم،وارتدى معطفه الكشميري الأسود:
_استسلم..اذ لا جدوى من النقاش معك..ويجب أن أذهب الان..عليك اجراء المقابلة التالية بنفسك.
_تبا لي ان فعلت..أتتوقع مني طرح كل الأسئلة السخيفة بنفسي؟
_آسف..لكنني مضطر.انني أساعدك من يومين،ولا أستطيع الغياب عن مكتبي أكثر من هذا..فلست الكاتب الوحيد المتعاقد مع وكالتي،وتعرف هذا..اتصل بي فيما بعد لتقول لي كيف كات مقابلتك معها!
_أوه..اذن هي امرأه؟
أجفل دويل فرانسيس وهو يلحظ لهجة الكاتب المزدرية.
_وماذا في هذا؟انها جوهرة مكتملة..والأكثر من هذا،ليس لديها طموح لأن تكون كاتبة سيناريو..في الواقع هي سكرتية انتاج متخصصه في العمل مع كتاب السيناريوهات..لذا،في تعرف كل المداخل والمخارج التقنية،ن تزعجك بطموحها المبدع..أليس هذا ما تريد؟
بقي الوجه القاسي الوسيم دون تأثر:"شابة!".
فتحرك الوكيل بضيق:
_أجل..في الواحدة والعشرين،أو ما يقارب.
متزوجة؟
_لا..لكنني أظن أن لديها شابا ينتظرها في مكان ما..و..هي محترفة تماما..وأستطيع أن أعطيها ثقتي يا هايدن..لن تزعجك أبدا..
قاطعه هايدن:
_انس الأمر دويل..بامكانك الغاء المقابلة..ظننت أنني كنت أوضحت تماما بعد تلك الحادثة مع آخر"طابعة"أرسلتها لي أنني لن أقبل فتاة جميلة هستيرية أخرى ،تستخدم أوراق الطباعة لتتسلل الى حياتي.
بدا الوكيل غاضبا حقا الآن:
_انها ليست من ذلك الصنف يا هايدن! لقد عملت مع العديد من كتابي،والشكوى الوحيدة كانت أنها غير متعاونة أبدا خارج ساعات العمل..ولا أسمح لك أن تتكلم عنها هكذا!
تفرس هايدن جاكوبس بجه وكيله الغاضب،والتوى فمه الجميل بابتسامة خبيثة أبرزت فتنته الطبيعية:
وهل أستشف من هذا تصدعا في قلبك الصخري؟
لم يبادله دويل فرانسيس ابتسامته..بل رد بهدوء:
_أجد تصرفك مقلقا جدا في بعض الأحيان يا هايدن..فليس كل فتاة تلقاها لديها خطط سرية لايقاعك في فخ الزواج،أو في علاقة غرامية..وتعرف هذا.
ابتسامة هايدن ألانت أسارير وجه الرجل المسن:
_ليس كل فتاة..
_على أي حال،فان الوقت متأخر جدا لالغاء هذا اللقاء..فقد تصل في أية لحظة الآن..وأنت مضطر لرؤيتها.
_حسن جدا دويل..سأراها..لكن كما قلت،ستكون المقابلة الأخيرة،وكي أكون متأكدا أنك لن تجبرني على مقابلات أخرى،سأسافر الأسبوع المقبل وأمضي الأشهر القليلة القادمة على يختي..وحدي ودون اتصال!
تنهد الوكيل باستسلام:
_أظنني أضيع وقتي في الطلب منك أن تعطي الفتاة فرصة.حسن جدا..ادنا جايمسون فتاة مرنة جدا.
ارتفع صوت الكاتب مهددا:
_ادنا جايمسون؟ أليست هي من تحاول دسها لي من جئت اليك مع كتابي؟
توقف دويل فرانسيس عند الباب،وأدار جها بريئا متسائلا:
_أكنت أفعل هذا حقا؟ربما..لست أذكر.
لم ينتظر رد فعل الرجل المتفجر،وغادر لغرفة بسرعة صافقا الباب وراءه.
تأخرت ادنا جايمسون عن الوصول،كعادتها..حتى في اليوم الذي ستواجه فيه أهم مقابلة لها في حياتها..فهي لسبب ما،لا تستطيع الوصول في الوقت المحدد..كان دويل فرانسيس يستند الى سيارته الجاكوار السوداء،وقد بدا ساطا نافذ الصبر،ينتظرها:
_يا الهي يا ادنا..أنت أكر اثارة للسخط من هايدن جاكوبس نفسه.أتدرين أنني أنتظرك هنا منذ أكثر من نصف ساعة؟
_آسفة يادويل.لم أستطع فعل شئ..حاولت جاهدة صدقا.
كبح الوكيل ابتسامة..هناك شئ في ادنا بدو طبيعيا ،ساحرا،ومرحا،مما يجعلها جذابة لا تقاوم حتى لمسن مثله..وقال بخشونة:
_لا بأس الآن..دعيني أنظر اليك.
أي شخص يعرفها حين جاءت أول مرة الى لندن منذ ثلاث سنوات،كان سيجد صعوبة في ايجاد علاقة بين تلك المجهولة المتسكعة على شواطئ"جزر سيشل" وبين هذه الصورة المعقولة التي لا عيب فيها اليوم.
وقل دويل بجفاء:
_ستنفعين..قد يخطئ ويظنك سكرترة ادارية..ولكن تذكري أن تتصرفي مثلها..انه يتوقع خبيرة تقنية ذات كفاءة..ومهما فعلت لا تدعيه يعلم بأنك ماتبة سيناريو.
_أجل..أعرف..لقد راجعنا هذا معا عشرات المرات يا دويل..يمكنك الثقة بي.
هز الوكيل رأسه..اذا كان لأحد أن ينفذ خداعا دقيقا فهي ادنا جايمسون..فمخيلتها الغنية دائما على استعداد لأن تخرج بتفاصيل مذهلة،تجعل القصص التي لا تصدق،قريبة من التصديق..وقال لها:
_يجب أن تستخدمي كل شئ لديك للحصول على الوظيفة.
_سأحصل عليها دويل.
_لن أكون واثقا تماما لو كنت مكانك يا حبيبتي..انه رجل صعب.
لكن،لمعرفته بعدم اكتراث الفتاة بالرجال كان متأكدا من أنها ستكون قضية سهلة.
_لست أدري لماذا تريدين القيام بهذا العمل يا ادنا..انها خطوةجبارة لكن الى الخلف بالنسبة لك..وهي قد تعني الغاء عقدك مع التلفزيون وقد تخسرين على الأرجح عدة سيناريوهات أخرى..أتمنى لو أنك تقولين لي لماذا أنت مصممة على العمل مع هايدن جاكوبس.
فتحولت عنه:
_سأفعل يادويل في يوم ما.
وسارت الى البوابة لترن جرس الهات الداخلي قبل أن يتمكن من متابعة النقاش،ونادته،والبوابة تنفتح:
_سأتصل بك يا دويل..وشكرا لترتيبك هذه المقابلة لي.
كانت ادنا دائما تسعد بالحديث عن نفسها،وعن طموحها في العمل..مع ذلك فهي لا تذكر أبدا حياتها قبل استقرارها في انكلترا.كل ما تمكن دويل فرانسيس م معرفته عنها أنها أتت من جزيرة صغيرة نائية من"جزر السيشل"حيث استقرت عائلتها منذ أجيال عديدة..وتتحدث بحب ومرح عن تربيتها الصارمة، وعن عائلتها المتعمرة،والتي تمثل امتدادا بعيدا لأيام الأمبراطورية الواسعة..لكنها ترفض بحزم أن تشرح سبب تركها لما تشير اليه دائما بحنان"جزيرتها".
السبب الوحيد الذي أعطته لدويل حين سألها:
_أردت كتابة السيناريوهات،اضافة الى هذا فان ليون يحتاج الى من يدير له منزله.
ليون هو أخوها الأكبر،طبيب نفسي ناجح،قرر مثلها أن يكون مستقبله العملي في انكلترا..وتشاركه منزله القديم الطراز، الواسع،في دولويتش..وما عداه كانت تبدو وحيدة في انكلترا،ولم كن دويل يستطيع الا أن يشعر أنها كالسمكة خارج المياه وهي بعيدة عن شواطئ جزيرتها الرملية المستحمة بأشعة الشمس..كانت تبدو أشبه بعصفور في قفص.فرط حبها للحياة يكبحه لجام ما،بدت معه وكأنها تعيش على هامش الحياة..تنتظر،أو تفتش عن شئ ما،أو شخص ما.تنهد دويل بصوت منخفض وهو يدخل سيارته:"يبدو أن ما تفتش عنه وجدته في هايدن جاكوبس".
كانت ادنا تسرع الخطى عبر الممر وهي غافلة عما كان يفكر وكيلها به،وقلبها يخفق بألم في صدرها وهي تقترب من المنزل.
كان المنزل غير عادي مثل صاحبه:فيلا بيضاء أنيقه متناسقة،حديثة الطراز.رغم حالة الذعر التي كانت تتملكا لم تستطع ادنا الا ان تعجب لانسجامه الرائع مع المناظر الطبيعية الخضراء حوله.
الباب الأمامي الواسع،كان يؤدي الى ردهة واسعة قليلة الأثاث،حيث استقبلتها فتاة شابة،شعرها الأحمر المتألق يحيط بوجه أنمش.
ابتسمت حمراء الشعر لادنا:"آنسه جايمسون..أليس كذلك؟".
دون انتظار الرد،تابعت اغراق ادنا بسيل من المعلومات الودية،غير المتوقعة أبدا.
_انني أقوم بدور الاستقبال بالنيابة عن هايدن،فليس لديه من يقوم بهذا ماعدا باميلا العجوز،وهي الآن في الخارج لتتسوق،انها مدبرة المنزل،وهي في خدمة العائلة منذ أجيال.
كانت عيناها الزرقاوان تجيلان النظر في أنحاء جسم ادنا بفضول ودي:
_يعجبني ثوبك،انه من تصميم أرماني أليس كذلك؟أيمكنك تحمل ثمنه بمرتب سكرتيرة؟آسفة..أترينني ضايقتك؟
ضحكت ادنا،وأكدت لها ذلك،فضحكت الفتاة:
_أعرف..أنا لا يمكن تشجيعي..اسمي جويس،وأنا من أقارب هايدن..حسنا..لست قريبة حقيقية،كل ما في الأمر هو أن أمي متزوجة من ابن عمه مالكولم..وأنا أدعوه خالي لأزعجه على سبيل المزاح..تعالي..انه ينتظرك،أنت الرقم أربعة اليوم..أتحبين أن تكوني سكرتيرة؟
فأجابت ادناكاذبة ببرودة:
_أعتقد هذا..والا لما قمت بهذا العمل.
شعرت بالارتياح وهي ترى الغرفة التي أدخلتها اليها فارغة،كان هذر جويس مهدئا لادنا مما جعلها تستجمع شجاعتها وتهدئ من أعصابها..وكانت الفتاة مازالت تتابع ذات الموضوع.
_لا يمكني أن أكون سكرتيرة..أظنني كنت سأكره هذا العمل.أعني البقاء محجوزة في مكتب طوال اليوم،أتلقى الأوامر..كنت سأصبح سيئة جدا في مثل هذا العمل،أليس كذلك هايدن؟
استدارت ادنا،بذعر مفاجئ..حسبما رأت لم يكن هناك غيرهما في الغرفة الواسعة..ورفعت جويس صوتها:
_خالي هايدن ! لا تجلس غاضبا هناك..تعال للقائها.انها تبدو مثفة جدا،وأظنها حلوة كذلك..ستعجبك.
حبست ادنا انفاسها مع تصاعد صوت هايدن الجذاب يملأ الغرفة من مكان غير مرئي:
_هذا يكفي جويس ..ارجي الآن من هنا،ولا تعودي الا لاحضار القهوة.
بعد لحظات ارتباك وقعت نظرات ادنا على مكان الصوت الكسول،القادم من باحة مرصوفة خلف الجدار الزجاجي.
كان يرتدي جنزا باهت اللون،وكنزة واسعة،لونها الأسود الداكن يتعارض مع الخطوط القوية القاسية لوجهه،ومع ذلك يزيدها فتنة،وكذلك الشعر الكثيف المحمر الذي لوحته الشمس،والبشرة التي تلاعبت تقلبات الجو بها،لشخص يفضل الحرية والتحدي.
سمعته يقول:
_ستتناولين فنجان قهوة معي أليس كذلك؟
التحية الاعتيادية التي كانت أعدتها جمدت في حلقها..وكل ما استطاعت أن تقابله به،كان ابتسامة متوترة ضعيفة.
قال بعد صمت قصير، كان خلاله يدخل الغرفة بخطوات رشيقة:
_هل أفسر صمتك كدليل كراهية للقهوة؟أ أنك ربما تفضلين الشاي؟
تدخلت جويس لتساعدها:
_هيا الآن هايدن..ألا ترى أنك ترهب الفتاة؟
واستدارت الى ادنا مبتسمة:
_لا تدعيه يرهبك..انه يحاول اخافتك لتهربي..الواقع أنه يفضل أن لا يعمل معه أحد..انك تحبين القهوة آنسة جايمسون أليس كذلك؟
ردت بهدوء:"أحبها..شكرا لك".
استدارت ادنا مرة أخرى الى الرجل تنتظره ليقوم بالمبادرة.لكن هايدن جاكوبس على ما يبدو،كان مثلها يفضل الانتظار..فوقف هناك مسترخيا،عيناه الزرقاوان القاتمتان تجولاندون اكتراث،فوق جسمها.
قالت بشئ من الفظاظة،بعد أن لم تستطع تحمل نظراته الباردة المقيمة:
_هل لي أن أجلس؟
_أوه..أجل..بكل تأكيد..لقد توفر لي الوقت الكافي للاعجاب بثوبك الرائع..أنت لم تظني حقا أنني قد أتعرف عليك في هذا الزي الجديد..أليس ذلك؟
لحسن الحظ كانت قد جلست،والا لانهارت..والتقت عيناها المجفلتان بعينيه وهي تتمتم:
_تت..تتعرف علي؟
قال ساخرا:
_ان نسيت اذكرك أننا كنا تقابلنا من قبل،منذ أسبوعين تقريبا..في مطعم"ماي فير"..ما عدا أنك في تلك المناسبة لم تكوني وكأنك الاعلان المكتمل الأناقة بل كنت كقنفذ شارع مشعث..ألهذا رفضت دعوة دويل فرانسيس للانضمام الينا على الغداء؟
ترنح جسدها المتوتر قليلا بارتباك وخيبة أمل..كانت في الواقع،قد رأته عدة رات في الأشهر الأخيرة،لأنها كانت مصممة على الظهور أينما تتوقع أن يكون..وكانت دائما كما هي الآن تواجه نفس النظرة الجوفاء..انها بالنبة له لا شئ سوى وجه جميل آخر.
قالت بخفة:
_أنا آسفة سيد جاكوبس..ما كنت أظن أنك ستذكرني.ولمعلوماتك فقط،أنا لم أحاوال المجئ الى هنا متنكرة..كت فقط أحاول أن أعطي الانطباع الجيد..
أصغى اليها بوجه جامد وعينين خاليتين من أي تعبير..ورأت يائسة أن عليها أن تكمل:
_ما أعنيه هو أنني فكرت في أن من الأفضل ان أرتدي ما يناسب هذا الدور..فمن المفترض انني أتقدم الى وظيفة سكرتيرة.
_حقا؟
_بالطبع ألم يشرح لك دويل فرانسيس الأمر؟
_أوه.. بلى..بكل تأكيد فعل هذا..وحسب قول العجوز أنه يعهد الي بأثمن ما لديه سكرتيرة انتاج خبيرةبكل أسرار كابة السيناريو،ذكية جداوخبيرة،ألست هكذا؟
_أجل.
_سن جدا.زأنت بكل تأكيد لا تنقصك الثقة بالنفس؟
_هذا لأنني أعرف ما أنا بارعة فيه.
ما ان خرجت الكلمات منها حتى أدركت انه قد يقرأ فيهامعنى مزدوجا..لسانها المتهور دائما يوقعها بأكثر الفخاخ احراجا.لكن،لدهشتها لميرد على تحديها،بل سأل بعفوية:
_اسمك،كما فهمت،ادنا؟
أخذت نفسا عميقا:"ادنا جايمسون".
_اسم غير مألوف،ادنا..لكنني سأرضى به..حسنا جدا،صباح الخير يا ادنا.
وابتسم دون توقع.
خفق قلبها بعنف،وقد غيرت البسمة الوجه المتجهم الجامد،لتنير العينين المراقبتين،وتلطف القسمات الوسيمة،الخشنة.قال:
_انا لا أتقيد بأوقات عمل محددة..سأتوقع منك أن تعمي في أغرب الأوقات،وق يعني هذا التنقل معي،وحتى الابتعاد عن لندن.ويمكن ان تمكثي بعيدة عن الناس لثلاثة أشهر على الاقل..ايمكنك التحمل؟
لم تكد تصدق ما تسمع،فاجابت:
_استطيع التحمل،اذا استطعته انت.اخبرني فقط أين،متى،وماذا.
_وماذا عن"لماذا"؟
_اوه أعرف"لماذا"فلاسباب خاصة،تريد ان تحور قصتك بنفسك.
_وهل هذا أمر غير عادي؟
_حسنا..أجل..معظم المؤلفين يفضلون الانطلاق بكتابة قصة جديدة بدل التلهي بالقديمة.الا اذا كانوا بحاجة الى المال..ومن الوالواضح ان هذا ما لا تحتاجه انت..لذا فأنت غريب نادر..واعجب لماذا؟
_اذن هناك" لماذا "على كل حال.
_حسن جدا..هناك لماذا..لكنني ل أفترض للحظة انك ستثق بي لتقول لي" لماذا"
_كم أنت دقيقة الملاحظة..اذن انت لا تمانعين في الالتزام بي لعدة اشهر،ولكن احذرك..سنبقى نحن الاثنين فقط الى أن ننتهي..أنا أعمل وأعيش في عزلة تامة.
ردت ببرودة:
_طبعا..أين تجد مثل هذه العزلة عادة؟
_هنا..بين أماكن أخرى..حين لا تغزوني عائلتي..وسيكون من ضمن عملك ابعادهم عني
_أوه..لكن..أعني،بالطبع..
_ماذا كنت سنقولين يا ادنا؟
_فكرت..ان دويل فرانسيس قال أنك قد ترغب في العمل على متن يختك.
سألها ساخرا ،وكانه يصفها أنها تتأثربمثل هذا الرمز للثراء:"وهل يعجبك هذا؟".
أبقت صوتها حلوا بريئا:
_أوه..كثيرا..فأنا أحب البحر،وانا أبحر بيختنا منذ أن وعت ذاكرتي هذا،لكن لم تتح لي الفرصة لهذا منذ ثلاث سنوات..لذا من الطبيعي أن تروق الفكرة لي.
ابتسم معترفا لها بطيقتها الجريئه في القول له أنها مثله،معتادة جدا على مثل هذه الفخامة:
_هكذا اذن..اذا كان الأمر هكذا،ألا تظنين أن الأجدر بك ترك هذه الوظيفةالى من يحتاج الى المال أكثر منك؟
ردت متصلبة:"لا..لا أرى هذا".
كان هذا نفس المنطق القديم مع الفتاة الصغيرة الثرية الذي كانت تقابله طوال حياتها..
_أنا لن اتركه الا لمن يستطيع القيام بها أفضل مني..مى تريدني أن أبدأ؟
لم يكمل الموضوع:
_كم يلزمك من الوقت لتحرير نفسك من التزاماتك الأخرى؟
ودون تفكير ،اجابت:
_لقد فعلت هذا..وانا حرة في البدء ساعة تشاء.
صمت لحظة،ينظر اليها مقيما ببرودة:
_اكنت واثقة الى هذا الحدمن أنك ستحصلين على الوظيفة؟
_حسن..كنت محقة،ألس كذلك؟
شئ ما في صوته مسح الابتسامة عن شفتيها:"أكنت حقا محقة؟".
وبخت نفسها بعنف:أيتها الحمقاء..الرجل يتلاعب بها طوال الوقت،يمازحها،يتظاهر بأنه ماخوذ بسحرها.
_اتتعني بانك لا تريدني؟
_اعتقد ان هذا ما اعنيه تماما.
حاولت السيطرة على رجفة تملكتهاللخيبة العميقة التي انتابتها:
_انت لم تزعج نفسك حتى في السؤال عن مؤهلاتي أو خبرتي..
_أوه..لا أشك فيها أبدا..فأنت جيدة..لكن المشكلة هي انني لا اثق بك.
_هل لي ..ان اعرف السبب؟
بكل تاكيد..لأنك متآمرة،ولست بارعة جدا في هذا انك مستعدة أن تتقدمي لي لأية وظفة كانت،حتى ولو لخادمة خاصة،ولست أدري ولا أهتم لما تأملين تحقيقه من وراء هذا.لكنني أعرف شيئا واحدا وهو..أنك لا تسعين وراء الوظيفة ..بل ورائي أنا.
تردد صدى هذه الكلمات احافلة بالازدراء في أرجاء الغرفة.
خرجت ادنا من جمودها المؤقت ،لتجد نفسها وقد هبت واقفة..الاذلال والغضب أخمدا فيها كل مشاعر أخرى..مهما كان قد عنى لها في الماضي،هي الآن لا تشعر سوى بالكراهية لهذا الغريب اامغرور.
قالت بصوت مفعم بالكراهية:
_حتى ولو كنت محقا،يا سيد جاكوبس..فهذه المقابلة غيرت رأيي..آسفة لأخذي الكثير من وقتك..وداعا.
انفتح الباب فجأة،ودخلت جويس تحمل صينية القهوة لتعلن بحبور،وهي لا تدري طبيعة اجو المتوتر في الغرفة:
_أرجو أن لا يكون هنالك بأس في دخولي..لقد استخدمت سخانة القهوة الجديدة لذا جئت بماء ساخن لتخفيفها اذا كانت قوية.
دفعت ادنا بلطف تعيدها الى الأريكة،ودست فنجان قهوة في يدها، تصر على أن تتذوقها.ثم ارتشفت من فنجان خالها لتتأكد من النتيجة بنفسها وجلست بسعادة على الأريكة قرب ادنا،وكان واضحا أنها تنوي الانضمم الى المقابلة.
هاجمت خالها:"حسنا..هل هي مقبولة؟".
استدارت الى ادنا متجاهلة صمتها:
_هل ناقشتما أمر المرتب؟لا يجب أن تكوني متواضعة..ان هايدن كريم بشكل مقزز،ويستحق أن يستغل.لا تقلقي،سيجعلك تجهدين في اكتساب كل قرش من المرتب..صدقيني.
كانت الفتاة اما غير حساسة بشكل لا يصدق،أو أنها مناورة ذكية،لكنها تمكنت على أي حال من اختراق غضب ادنا وحركت احساسها بالمرح وأكملت جويس هذرها:
_ولسوف تدعينني أجرب هذا الثوب الذي ترتدينه،أليس كذلك؟..أظننا من نفس القياس.أمي تستمر في شراء أسخف الملابس المزعجة لي لكنني واثقة من أنني سأكون مذهلة في هذا الثوب.
قاطعها هايدن جاكوبس صائحا:"توقفي عن هذا جويس!".
_ألم تنتهيا بعد؟أنت تزعج الفتاة المسكينة منذ ربع ساعة.
رد بجفاء:
_هذا ليس من شأنك..لا تحاولي أن تتذاكي الآن جويس!
_أوه..دعك من هذا يا خالي هايدن..
_اخرجي من هنا
باعجاب عميق،راقبت ادنا العينين الضاحكتين تبللهما الدموع..والوجه الجميل ينكمش كوجه مهرج،ووقفت حمراء الشعر تتوجه ببطء نحو الباب..كان للفتاة موهبة كوميدية بارعة..ولم تستطع ادنا اخفاء مرحها،مع انها حاولت جاهدة على وجه وقور.وانفجرت ضحكتها الفضية الرنين في الغرفة الساكنة، تجذب أربع عيون نحوها.
استدارت جويس ملتفتة اليها..ووقفت لحظات تحدق مشدوهة الى المرأة الباردة الأنيقة،التي تحولت بهذه الضحكة الرائعة المتهورة الى شخصية شابة مذهلة..ثم شاركتها ضحكتها..واستغرقت الفتاتان حوالي الدقيقة قبل ان تدركا أن لهما ذات الضحكة الساحرة جدا.
توقفتا عن الضحك،ونظرتا الى بعضهما بذهول..ثم وقد تملكهما الذهول لتشابه ضحكتيهما،أفسحتا الطريق الى موجة أخرى من الضحك المنخفض.
نسيتا هايدن..ولم تلاحظ أي منهما التعبير المتجهم الذي أظلم الوجه النحيل فجأة،وكأنما يتحمل عذابا فوف طاقته،أمام الأصوات الفضية..توقف وسار عبر الأبواب الزجاجية الى الباحة الكبيرة في الخارج.تلاشى الضحك،وحل على وجه جويس نظرة اضطراب عميق وألم..أطلقت نظرة تحذير الى ادنا،وتسللت من الغرفة.
اتظرت ادنا بضع دقائق ثم صبت فنجان قهوة جديد،وذهبت اليه في الخارج،ووضعته على منضدة صغيرة.
_قهوتك..ستبرد..
بدا وكانه لم يسمعها،كانت الريح الباردة تتلاعب بشعرها القصير وهي تنظر حولها تتفرج على بوادر الربيع المبكرة في المروج،لكي تتجنب النظر الى القلق الذي يعتم الوجه الوسيم..
لكن صوته كان هادئا ومنخفضا حين تكلم:"أتعيشين في لندن".
_أعيش الآن.جئت اليها منذ ثلاث سنوات.
_من أين؟
_من جزر سيشل..سانت باتريك.
_أعرف سيشل جيدا،لكنني لا أظن أنني زرت جزيرتك بالذات.
_انها جزيرة صغيرة جدا،غير مسكونة تقريبا.
لكن عينيه الزرقاوين المرتكزتين على وجهها الشاحب سلبتاها القدرة على الكلام.
نظرا الى بعضهما،كانا متباعدين،ومع ذلك،كانت عيونهما متشابكة.ولأول مرة،م تجد في عينيه البرودة المهذبة،ولا الدفاع الساخر والكراهية..أخيرا تمتم،وكأنما يكلم نفسه:
_ادنا..ادنا جايمسون..أليس كذلك؟
هزت رأسها،تحبس أنفاسها..وللحظات لا نهاية لها بدا لها وكأنه يتصارع مع ذاكرته..يحاول ايجاد صلة ما..لكنه هز رأسه أخرا..وعرفت أنه يغلي باحباط غاضب.
قالت برقة:"أنا..الأفضل أن أذهب الآن".
ارتفع صوته بشئ من الغلظة:
_انتظري..لدي سؤال آخر أطرحه عليك.
توفت ادنا.وفال آمرا:"استديري".
ثم وبصوت منخفض،خفف من حدة لهجته بقوله"أرجوك"وأطاعته،لكنها أبقت نظرها منخفضا.
بقي ساكتا عدة لحظات ثم قال:
_كنا نعرف بعضنا من قبل.
ولم يكن سؤالا..بل كان يقرر أمرا واقعا،وأكمل:
_ولست أعني تلك المناسبات الخاطفه التي كنت تفعلينها،فا تحاولي أن تمزحي معي..أنا واثق من أنني سمعت ضحكتك هذه من قبل.
اختارت كلماتها بحذر،ك لا تكون كاذبة بشكل مفضوح:
_بالطبع سمعتها.انها تشبه ضحكة جويس..وكلانا أذهله التشابه.
_أجل..هذا صحيح..لكنه ليس ما أقصد..فقد تملكني نفس الاحساس حين سمعت ضحكة جويس،لهذالدي نقطة ضعف نحوها..كما أعتقد.
هز رأسه،وكأنما فقد الصبر مع نفسه لهذا الاعتراف غير الحذر:
_قول لي فقط..هل تقابلنا من قبل؟
أخذت ترتجف،لكن صوتها خرج مضطربا غير محدد امعالم:
_أنا ..لا أظن هذا..لا بد أنك تخلط بيني وبين شخص آخر.
تحملت نظرته الطويلة المتأنية دون وجل..ثم تنفست الصعداء مجددا مع ميل فمه القاسي الى ابتسامة.
ـ ا نها غلطتي اذن..والوظيفة لك..اذا كنت مازلت تريدينها.
لم يتملك نفسها أي بهجة لنصر،ولا ارتياح..أدركت بأن متاعبها قد بدأت لتوها.
قالت،حينحين وثقت من أن صوتها لن يخونها:"أريدها..شكرا لك".
تمتم بخشونة:
ـ لا تشكريني أنا فقط مستعد لأن أجرب..لكن لا تفهميني بشكل خاطئ..فأنا ما زلت لا أثق بك.
أحست بأن مشاعرها قد جرحت وأنها ضعيفة،كادت أن تصاب بدوارتحت القسوة المميتة لقوله هذا،ثم ردت بحدة:
ـ أفهم هذا..متى..تريدني أن أبدأ؟
رد باختصار:
ـ صباح الغد..ننطلق في تجربة قبل أن نقرر نهائيا..في هذه الأثناء،أقترح أن تنتقلي للسكن هنا..كما قلت لك،أنا لا ألتزم بأوقات عمل عادية،وأفضل أن لا تعودي الى منزلك في ساعة متأخرة من الليل.
استدار فجأة ونظر اليها ببرود:
ـ باميلا،مدبرة منزلي،تعيش هنا بشكل دائم،في حال تساءلت..أيناسبك هذا؟
مرة أخرى هزت رأسها موافقة:
ـ أتمانع لو جئت معي بطابعتي الاليكترونية؟أنا أكتب..أعني أطبع عليها بسرعة أكثر.
ابتسم آليا:
ـ لا تزعجي نفسك..استخدمي طابعتي..انها في مكتبتي.اطلبي من جويس أو باميلا أن ترياك المنزل..هل هناك شئ آخر ترغبين في معرفته؟
هزت رأسها نافية..وه ترى نفاذ صبره الواضح لانهاء المقابلة..كان يقف قرب الباب السندياني الموصل الى الردهة،يسد عليها طريق الخروج..تمتمت،تتساءل كيف ستتمكن من شر نفسها لتمر من أمامه:
ـ أنا..سأمر بك غدا.
انحنت تلتقط حقيبة كتفها.
ـ ادنا..
توقفت متسمرة في مكانها:"نعم؟".
أكمل بنفس الصوت الدافئ المنخفض:
ـ هناك شئ واحد من الأفضل أن أذكره قبل أن نبدأ..بما أننا سنعيش سويا،أعتقد أنني يجب أن أطلعك على سر..ولا شك في أنك ستسمعين به من جويس أو أي عضو آخر من عائلتي المحبة..لذا،من الأفضل أن تسمعيه مني..ولن أهينك بالطلب منك ابقاءه لنفسك.
كان قلبها يخفق عاليا حتى أنها ظنته سيسمعه.
ـ لقد سمعت عن اختفائي منذ ثلاث سنوات؟
هزت رأسها:"أنا..قرأت عنه".
ـ أجل..فكرت بهذا..حسنا،ألا تودين أن تعرفي ما حدث لي خلال الستة أشهر التي لا أحسب لها حسابا،في حياتي؟
ـ بلى.
ـ الأمر بسيط جدا..الحقيقة ،أنا لا أعرف..أترين..لقد فقدت ذاكرتي.
بدا صوته عفوياوكأنه يتحدث عن صداع خفيف ومع ذلك كانت ادنا تعي عذابا داخليا في أعماقه وكذلك الجهد الذي يبذله ليقول هذه الكلمات بصوت مرتفع.
لم تحاول اختراق الصمت الطويل..وأخيرا رفعت عينيها لتلتق بعينيه مباشرة..فابتسم:
ـ لا تبدو عليك الدهشة،أو الصدمة..ربما لم تفهميني جيدا..هناك ثغرة سوداء في حياتي..ستة أشهر سوداء..ستة أشهر عشت فيها كشخص آخر ،وليس لدي فكرة، ولو ضبابية،أين، كيف أو من كنت،والأكثر من هذا،لا أعرف ما كنت أفعله خلال تلك الأشهر..وكان يمكن أن أقتل،أسلب،أو...
قاطعته تنهي له كلامه:
ـ أو تجول تائها،ضائعا،مشوشا..لكن على الأرجح وأنت عاقل كما أنت الآن.
ولكن مقاطعتا المفروضة علي أجفلته..فابتسمت معتذرة:
ـ أخي عالم نفسي.لذا سمعت بمثل هذه الحالة من قبل،وأذره يقول:"ان الرجل الذي يعاني فقدان ذاكرة مؤقت هو كالمنوم مغناطيسيا،نادرا ما يتصرف عكس طبيعته الأساسية".
فقال ساخرا منها بلطف:
ـ نادرا فقط؟اذن هناك استثناءات للقاعدة..على كل حال.
ـ أظن هذا،لكنني لا أظنك واحدا منها..ولا تصدق هذا يا سيد جاكوبس.
تألق الوجه الوسيم بابتسامة واسعة،ولأول مرة معته يضحك عاليا:
ـ حسن جدا اذن..واسمي هايدن على فكرة.
مد يد لها،في اشارة رسمية ساخرة،فترددت لكنها أخيرا تركته يصافحها بقبضته القوية الدافئة.قال مبتسما لها:
ـ سنقتنع بأني لست قاتلا أو سارقا،لكنك ستجدينني متقلب المزاج لا يمكن التكهن بتصرفاتي..من الأفضل أن لا تسأليني شيئا في مثل تلك الأوقات أو تحاولي ابداء الشفقة.. فقد أفقد أعصابي لو أن شيئا لامس وترا حساسا..كما حدث..
ـ كما حدث حين سمعتني أضحك.
خرجت منها الكلمات دون أن تعي ما تقول.
الصمت الذي تلا أرعبها..استرقت نظرة من تحت أهدابها متوقعة أن تسمع تأنيبا ساخطا لمقاطعتها التي لا داعي لها،لكنه نظر اليها بابتسامة دافئة غريبة لكنها كانت تعرف أنه لا يراها،بل يرى شخص آخر..شخصا لا وجه له أو جسد..انه يرى شبحا.
قال بصوت خفيض ،وكأنما يتحدث الى نفسه:
ـ أجل،كما حدث حين سمعت ضحكتك..فأنا واثق من أنني سمعتها من قبل..ولكن في مكان آخر..مكان دافئ رطب..حيث البحر بطئ كسول،والأفق دائما ضبابي..وحدها الأصوات،الأريج،الصفات المميزة،وتلك الضحكة الرائعة..و..
انخفضت نظرته الضائعه لتتركز على راحتي يده و كأنما يسأل:
ـ ويداي مدفونتان في شعر منسدل طويل تدفأه الشمس...
اتجهت عيناه الى شعرها القصير،ثم الى عينيها الكبيرتين الواسعتين،الملتمعتين بدموع لم تحاول اخفاءها..
ـ أوه..بحق الله!لا تنظر الى هكذا بهاتين العينين الكبيرتين الحزينتين!
لهجته كانت جافة،نافدة الصبر،لكن على الفور تقريبا،عادت فلطفت مرة أخرى:
ـ آسف..انها فقط ذاكرتي الضعيفة تتلاعب بي مجددا..فلا تدعي هذا يكدرك.
هزت رأها بصمت ..فأكمل:
ـ هيا ادنا..أريد سماعك تضحكين ثانية.
ابتلعت ريقها بصعوبة،دون أن تستجيب بابتسامة:"لا أستطيع..أنا آسفة".
نظر اليها للحظات..ثم وكأنه فقد اهتمامه،أو صبره،استدار عنها،وبخطواته الرشيقة،المسترخية،ترك الغرفة.
***
أنت تقرأ
سقط سهوآ _ناتالي سبارك _
Romanceشئ ما فيعينيه قال لها :حبيبك القديم قد مات...من ترينه أمامك ليس فيه من الحبيب الا الصورة دون الروح..فبعدما ظنت ادن انها اقتربت من حلمها جدت قلبها تحت قدمي هايدن جاكوبس يدوسه بدون رحمة..ولكن هل صاعت سنوات الألم والحنين والشوق هباء..هل يمكن أن يخطئ قل...