خيانة ذاكرة

6.7K 126 0
                                    

كان الصمت المخيف الثقيل هو الذي أيقظ إدنا تلك الليلة..بقيت مستلقية جامدة في فراشها، تفسر سبب توترهابالصمت الخانق الذي يسبق عادة هبوب العاصفة. لكن العواصف العاتية الخطيرة لا تثور في مثل هذا الوقت من السنة.. هكذا، مثلها في ذلك مثل أبويها، وكل المحليين الذين يسكنون سانت باتريك، صرفت النظر عن جرس التحذير الذي أطلقت أحاسيسها. وقررت أن الأمر لا يعدو أن يكون عاصفة عادية.. وكانت على وشك العودة الى النوم، حين وصلت إليها أصوات آهات أمها المثيرة للشفقة عبر الجدار الذي يفصل غرفتيهما.
حين وصلت إدنا إلى جانب أمها، كان باتريك جايمسون يتصل عبر الهاتف ليستدعي طائرة هليكوبتر لنقله و زوجته إلى"ماهي"لإجراء جراحة طارئة.. كانت غريس جايمسون تعاني من ألم مبرح، ولا حاجة لطبيب ليشخص لها غثيانها الشديد، والوخزات المؤلمة الحادة في جانبها الأيمن على أنها نوبة التهاب الزائدة الدودية.. فالعيش في جزيرة منعزلة كان يوجب على أسرة جايمسون أن تكن على معرفة وحذر تامين بأي إشارة مرض.
في أقل من عشرين دقيقة، حطت طوافة المستشفى الصغيرة على المهبط البدائي المرصوف في حديقة المنزل وحمل مايلز غريس بين ذراعيه، ونزل بها السلم ، ليمددها برفق على المحفة..وقال باتريك جايمسون لإبنته:
ـ سأتصل بك حالما يكون لدي ما أخبرك به..في هذه الأثناء من الأفضل إغلاق كل مصاريع النوافذ الخشبية المقاومة للعاصفة. يبدو أن عاصفة قوية على وشك الهبوب.
انتظرت إدنا الى أن أقلعت الطوافة، ثم أخذت للإستعداد للعاصفة.
استغنت عن مساعدة الخدم، الذين لكل منهم منزله ليهتم به، ثم أعدت هي ومايلز المنزل لأي شئ يخبئه الجو الذي لايمكن التكهن به.
اتصل والدها بعد ساعة، ليقول لها أنهم وصلوا المستشفى بأمان، وإن أمها الآن تخضع للجراحة.. ولقد وصلا في الوقت المناسب، قبل أن تنفجر الزائدة.
كانت الساعة قد بلغت الثانية، قبل أن تنسحب هي ومايلز كل إلى غرفة نومه..وكانت إدنا مرهقة جدا بما قامت به من جهد في منتصف الليل، ومشغولة الفكر بحالة أمها.
استيقظت بعد ساعتين من النوم المتقطع، كل أحاسيسها متوترة لوقع المطر الشديد على المصاريع الخشبية الواقية من العاصفة، وعلى صوت الريح الشديد المخيف..على الفور، تذكرت مخطوطة قصة مايلز، ومخطوطة السيناريو الذي تعمل على وضعه، والموضوعين ،دون اكتراث،في خزانة خشبية في السقيفة.
وأسرعت إلى الخارج، لتقف لحظة عند باب غرفة مايلز، تفكر في أن توقظه، كي لا تذهب إلى الشاطئ وحدها..لكنها عرفت أنه سيمنعها من الخروج، وهكذا قررت أن تتابع ما بدأته لوحدها.
كانت مضطرة لتتصارع مع باب المطبخ الخلفي الضيق في وجه الريح الشرسة العاتية، وعلى الفور أصيبت بالبلل من جراء المطر البارد، الذي أخذ يلسع وجهها، وكأنه أطراف خناجر مدببة. كانت الريح تهب في اتجاهها، تعوي كحيوان جريح، تقاومها في كل إنش تتقدمه وهي تنزل السلم إلى الشاطئ. كان يجب أن ترتدي أحد المعاطف الواقية من المطر، الموجودة في خزانة في الردهة الرئيسية.. لكنها كانت مبللة حتى العظام، ترتجف بردا بشكل مثير للشفقة.
في منتصف الطريق توقفت، وقد غمرها الرعب من الجو المجنون الذي رمت نفسها فيه.. هذه ليست عاصفة عادية.. ولم يعد لديها أي شك في أن هذه عاصفة هوجاء، ربما تكون مقدمة لإعصار.
فجأة برز جسم ضخم ضبابي من قلب ذلك الجحيم، جعلها تكاد يغمى عليها من الرعب..وفقدت قدماها ثباتهما على الدرجات الحجرية المنزلقة، وبدأت تترنح دون شئ يحول دون إنقلابها رأسا على عقب، إلى الأسفل حيث الرياح العاصفة.
وما لبثت أن شعرت بالأمان وهي تميز في ذلك الجسم مايلز في معطفه الواقي من المطر.
ـ أيتها الحمقاء..ماذا تفعلين هنا؟
صاحت ليسمعها:"المخطوطات ! إنها في السقيفة ! ".
فرد صائحا:"إنها معي !".
دس ربطة كبيرة ملفوفة بعطف واقي من المطر بين ذراعيها، وفجأة كانت قدماها متدليتين في الهواء، وهو يرفعها تحت ذراعه وكأنها دمية متراخية.
كان وصول إدنا قد استغرق أكثر من عشرين دقيقة وهي تنزل مواجهة للعاصفة..إنما الآن، ومايلز يتسلق السلم مع اتجاه الريح، فقد أصبح خارج باب المطبخ في أقل من خمس دقائق، اذ كانت الريح تكادتدفع قدميه عن الأرض دفعا.
ما إن أصبحا أمام المنزل ، حتى أعادها إلى الأرض بعد أن تأكد من أنها أمسكت بحاجز الشرفة الحديدي، ثم جرها معه إلى الداخل مغلقا الباب في وجه العاصفة المجنونة.
أخيرا أصبحت صفحات الكتابين آمنة فوق منضدة المطبخ، رغم بلل طفيف لحق بها.
قال وهو يخلع لمعطف:
ـ في المرة القادمة التي تقررين فيها دفع ضحية مسكينة لعمل إبداعي عبقري، تأكدي من أن يصنع نسخة ثانية من عمله.. أنت مبللة جدا أيتها الحمقاء..وأنا كذلك. أين مفتاح النور؟
تركته وشقت طريقها في الظلام إلى مفتاح النور..لكن لم يحدث شئ، فقالت باستسلام:
ـ انس الأمر، من الصعب أن يعمل المولد في عاصفة كهذه. ستجد مصباح"الكاز"خلفك، عى الرف الأعلى..لا بد أنه ممتلئ. وعلبة الكبريت إلى جواره.
بعد دقائق من الشتائم المتدفقة، أضاء المطبخ نور باهت كليل.
ـ أين المدفأة؟.. لا أذكر أنني رأيت مدفأة في المنزل.
ـ نحن لسنا في انكلترا..إننا لا نحتاج أبدا إلى تدفأة هنا.
كا منشغلة بالموقد القديم الطراز، الذي يحتفظ به لمثل هذه المناسبات، التي يفشل فيها مولد الكهرباء بإعطاء الطاقة للفرن الحديث..حرارة الموقد اللطيفة جعلتها تحس بعدم ارتياح في ملابسها المبللة. وقالت له:
ـ هناك بعض البطانيات في الخزانة التي في الردهة الرئيسية..من الأفضل أن تخلع ملابسك، بينما أحضرها إليك.
أحست أنها أفضل حالا الآن وهي سيدة الموقف، فهي معتادة على العواصف بعكسه هو.
كان قد خلع قميصه ووقف قرب الموقد، يدعك جسده البارد بشدة بمنشفة المطبخ.. كان الضوء الباهت للمصباح يقع على ظهره النحيل القوي. ولم تستطع تحويل عينيها عنه. بدا وكأن له عينين في مؤخرة رأسه..فقد أجفلها بقوله:
ـ توقفي عن التحديق بي يا إدنا.. وبدلي ملابسك !
رمت إليه ببطانية وهي ترتجف، ثم ذهبت إلى غرفة مجاورة وبدلت ثيابها المبللة.
عندما عادت حاولت أن تحمي نفسها من نظراته، وهي تشعر بالذنب، فقالت:
ـ أوه..يا مايلز..أنا آسفة..لم أكن أقصد أن..
ارتفعت عيناه لتنظر في عمق عينيها:
ـ اصمتي، قطتي الصغيرة..نحن الآن بين يدي الأقدار، كما أعتقد..ولا جدوى من محاربتها.
سألته مستغربة:
ـ أنت لست غاضبا.. إذن؟
تجاهل سؤالها ،واستدار عنها:
ـ هيا يا إدنا فلنصعد إلى فوق، فنحن بحاجة للراحة بعد هذا العناء.
دفعها أمامه:
ـ هيا..من الأفضل أن تسيري أمامي، فأنت تعرفين المنزل أكثر مني.
والتقط المصباح.
سارت أمامه مباشرة إلى غرفة نومه، وتملكها شئ من الدهشة وهي ترى أن صوت العاصفة والمطر والريح في الخارج أصبح خفيفا جدا ، إلى درجة همهمة بعيدة مخنوقة، بالمقارنة مع ضربات قلبها العنيفة..ثم قال:
ـ أنت جميلة، أتعرفين هذا؟ أحاسيس تدلني على أنني لا شك رأيت بضع نساء في أيامي، مع أنني، لا أستطيع أن أتذكر واحدة منهن..لكن ماأعرفه أنك تخطفين أنفاسي بجمالك..
أدارت رأسها لتواجهه، فإذا به يركز عينيه على وجهها عينيها اللتين تسمرتا عليه. لم يستطيعا إخفاء المشاعر المكشوفة في نظراتهما، فقد كانت نوعا من المشاعر تملكت الروح والجسد معا. أخيرا أخفضت نظرها، لم تعد تستطيع تحمل المزيد من العذاب لكشفها عما في نفسها..
ثم قال:
ـ أوه..كم أحبك يا إدنا !
وعرفت من شدة وقوة الكلمات أنه أعطاها بذلك عهدا .فابتسمت والدموع تترقرق في عينيها:
ـ و أنا أحبك يا مايلز.
فجأة شعرت بالخوف، والرعب من المجهول، فهي لا تعرف إلى أين يقودها هذا المجهول الغريب الحبيب.
ابتعدت عنه وقلبها يعصف في مسار مغاير
تمتم قائلا:
ـ نامي الآن يا إدنا.. وإن لم تسمعيني قبل الآن:أحبك.
في الصباح نزلت إلى تحت فالتقت به،قالا دفعة واحدة عن العاصفة التي كات تزمجر بالأمس:
ـ لقد انتهت.
وضحكا معا ،وسألها مايلز.
ـ أترغبين في تفقد الأضرار في الخارج؟
واتجهت إدنا فورا إلى الهاتف، لتتصل بالمشفى لتسأل عن أخبار أمها. لكنها رفعت صوتها بحيث يصل إلى المطبخ حيث كان مايلز يحضر الفطور.
ـ الهاتف مقطوع.
رد عليها:
ـ وكذلك المولد..لا كهرباء..
سألها بعفوية، بعد أن رمت ملابسهما المبللة إلى سلة الغسيل:
ـ هل أنت معتادة على الخدم؟
ـ أستطيع العناية بنفسي جيدا دونهم، إذا كان هذا ما تقصد..إذا كنت تظن أن نقص المال قد يبعدني عنك فأنت تضيع وقتك سدى..هذا إلى أنك ستجني الملايين من كتابك.
لكنها ندمت على كلماتها قبل أن تنهي جملتها..فقد خبت ابتسامته، ونظر إليها بمزيج غريب من السخط وشئ يشبه الندم. ثم قال بهدوء:
ـ كلي فطورك يا إدنا..واصمتي.
لكن الضرر حصل..وذكرى ذلك الزجر الغاضب أصبح الآن يغشى أفقها الأزرق.
كانت الشمس تشرق متألقة فوق الفوضى الموحلة التي تركتها العاصفة ورائها.زلكن الضرر، بوجه عام، كان قليلا. وكان أهل الجزر معتادين على تقلب جو المحيط الهندي الذي لا يمكن التنبؤ به.
سقيفة الشاطئ ذهبت..عمدانها كانت مدفونة تحت السقف النخلي..لكن الطابعتين المحميتين بغلافيهما لم تتضررا.. حتى الخزانة الخشبية المتداعية كانت ما تزال هناك، وقد تناثرت حطاما ،بوقوع أحد الأعمدة عليها، ولحسن الحظ كانت فارغة،ليس فيها سوى بعض أدوات الكتابة و ورق الطباعة الفارغ..
تنفست بارتياح لوصولهما إلى الخليج، ووجدا أن"غريس" يخت العائلة، يتأرجح بهدوء فوق المياه الساكنة، وهو ما زال مربوطا بمرساة بأمان..وقالت إدنا متنهدة:
ـ سبق و انجرف اليخت إلى البحر مرتين في الماضي. تعال، لنعد ونتصل بالمستشفى عبر الراديو في المركب.
جاء صوت باتريك جايمسون الرنان بعد قليل، يخفي قلقه خلف توبيخ متوتر:
ـ حان الوقت لتتصلي..كنت أحاول الإتصال بالمنزل منذ السادسة صباحا.
ـ الهاتف مقطوع يا أبي..ولقد تأخرنا في النوم..كيف حال أمي؟
كانت غريس بخير كما أكد لها والدها، لكن كانت فرصة عودتهما إلى المنزل قبل نهاية الأسبوع ضئيلة جدا..فلا وسائل نقل.."ماهي" على عكس سانت باتريك، ضربتها العاصفة بشدة، وقد سادت الفوضى كل شئ..وسألها بحذر:
ـ ما هي الأضرار.. عدا خطوط الهاتف؟
عرفت ما يريد فعلا أن يسمعه:
ـ أنا بخير يا أبي، وكذلك مايلز..المنزل لم يمس،مولد الكهرباء توقف، لكننا سنتدبر أمرنا يا أبي..لا تقلق، بلغ أمي حبي.
ـ سأفعل ..وقولي لمايلز إنني أشكر له مساعدته..أحس بالإرتياح لوجوده هناك ليرعاك..وداعا الآن.
الصمت في قمرة اليخت، لم يكن يقطعه سوى همهمة المحيط..وكان مايلز يقف خلفها، صمته ينطق بأكثر من الكلمات.
استدارت بغضب تواجهه:
ـ لا تنظر إلي هكذا يا مايلز..فهذا أمر سخيف..فقد كنت ترعاني..ليلة أمس، كان يمكن أن تطيح بي العاصفة و أنت..
قاطعها بهدوء: "اصمتي يا إدنا".
و ابتعد عنها متجها إلى سطح المركب.
لحقت به ، فقال:"كدت أفقد سيطرتي على نفسي بالأمس وهذا ما لا أريد أن أتعرض له ثانية فربما لم أستطع في المرة الثانية تمالك زمام نفسي وفقدت السيطرة".
ـ إنك ..إنك لا تفكر بما قلته منذ أيام عن تركك الجزيرة فيما لو فقدت القدرة على ضبط نفسك..أليس كذلك؟
كان يقف قرب سياج المركب، ينظر إلى الجزر البعيدة السابحة في الضباب في الأفق الأزرق.
ـ لا يمكنك يا مايلز..لا يمكن أن تذهب ! ليس الآن !
استدار ليواجهها، فتنفست الصعداء وهي ترى وجهه منفرج الأسارير:
ـ لا تفكري بهذا يا إدنا..والآن، ما هي الإجراءات العادية في الجزيرة بعد العاصفة؟
لم يكن لديها خيار سوى طاعة أوامره حرفيا..وفيما بعد،أبعدت أية فكرة عن المستقبل، وأية لهفة أو كآبة من رأسها.
ذلك الصباح حين عادا إلى المنزل، وجدا سوزي و بلاك منكبين على العمل بنشاط، ينظفان المكان عائدين إلى عملهما المعتاد في منزل أسرة جايمسون. وانتظرا عودة سوزي و بلاك إلى عائلتيهما، ليسبحا،ويغطا، ويجولا في أنحاء الجزيرة، يتجنبان بحذر أية مواجهة قد تؤدي بهما إلى تصاعد مشاعر لا يمكنهما السيطرة عليها.
لكنهما كانا أكثر استرخاء في الأيام التالية..
وكانت هذه أجمل أيام حياتها..وبسببها بالضبط، لم تعد قادرة على التكيف مع أي نوع جديد من الحياة فيما بعد.
كان كريما في حبه،مع ذلك لم يكن جياش العاطفة و لا رومانسي بشكل مطلق..و لم تعد إدنا بالنسبة له روحا خالية،كما لم يعد هو أمير الأحلام..كانا مجرد رجل و امرأة، تربط بيهما علاقة حب.
الليلة التي سبقت عودة ريس وباتريك جايمسون إلى المنزل، لم تعد إدنا تستطيع كبح التوتر. سألت:
ـ مايلز..ماذا غدا؟
ـ تعنين اليوم ..أليس كذلك؟
ـ تعرف ما أعني..ماذا سيحدث حين يعودان؟
ـ ماذا لو عدنا إلى العمل؟
ـ أرجوك يا مايلز ..أجبني..
ـ لست أدري..دعينا نقرر و نحن نواجه الواقع..أيمكن هذا؟
لدهشتها تكيفا فورا مع التغيير الحتمي لحياتهما في وجود والديها..و عادا فعلا إلى العمل، و إلى رياضتهما المتنوعة. و أبقيا حبهما تحت رباط محكم..
لكن الإحساس باقتراب المصير المحتم، أصبح دائما الآن في نفس إدنا..كانت تشعر وهي تراه كل يوم في وقت الفطور بارتياح شديد وكأنما كانت تتوقع أن يختفي أثناء الليل..لم يقل لها أي شئ عن خططه، ولا أظهر لها أي دلائل عن وصوله إلى قرار..لكنها عرفت أن المجهول قادم، وهي عاجزة عن فعل أي شئ يمنع ذلك.
كان الوقت بعد عشرة أيام من عودة أبويها..وكانا يعملان في سقيفة الشاطئ، ظهرا إلى ظهر كالعادة..طابعتاهما تتنافسان معا في طقطقة شرسة.
فجأة صمتت طابعته، وقال دون أن يلتفت:"كيف حالك يا إدنا؟".
ردت بأدب ساخر:"بخير..شكر لك".
استدار إليه مبتسما:
ـ هذا على الأقل جسر تمكنا من إجتيازه.
ـ هل ستخبرني قبل أن ترحل؟
رد برقة:
ـ لا ..أنا آسف يا حبيبتي..لا أظنني قادرا على مواجهتك.
ـ سأقول لك وداعا الآن إذن.
ـ وداعا يا إدنا.
التفت إليه تواجهه..وبقيا ينظران إلى بعضهما للحظات يأس لا زمن لها، وبصمت كمل. ثم جعلها ترفع رأسها لتلتقي عيناها بعينيه الزرقاوين العميقتين، وكأنما يحاول طبع صورتها في ذهنه.
الألم الصرف الذي رأته في عينيه خرق قلبها. فابتسمت تحاول إراحته، ناسية بؤسها للحظات. أخيرا، رد عليها بابتسامة متكسرة، وتركها.
أدارا ظهريهما لبعضهما ليعاودا الطباعة.
في اليوم التالي كانت تسبح باكرا في الصباح كعادتها، و على مسافة بعيدة من الشاطئ، حين شاهدت طائرة صغيرة ذات مقعدين تحط على المدرج الصغير تحت المنزل.. وذابت كل قراراتها المتصلبة ،وهي تسبح بجهد إلى الشاطئ.. حين وصلت أخيرا إلى الشاطئ، كانت الطائرة الصغيرة تتحرك استعدادا للإقلاع..عبر النافذة رأت طيف مايلز وجانب وجهه المتكبر. وما كان عليه سوى أن يدير رأسه ليراها تقف، على عمق الركبتين في الماء، جامدة دون حراك.. لكنه استمر ينظر إلى الأمام بثبات..ثم اختفى.
اكتشفت فيما بعد ذلك النهار، أن مايلز تحدث مع والديها يوم عودتهما بالضبط من المستشفى في"ماهي".. وكان عنيفا في إصراره على أن يكون صريحا معهما.
بالطبع، لم دهشا لسماع حبه لابنتهما.. لكن صدمتهما جاءت حين فهما أخيرا أن لا مجال للزواج.
قالت غريس وصوتها يقطر ألما و إشفاقا:
ـ لم يخف عنا شيئا يا إدنا..أخبرنا حقيقة مجيئه إلى سانت باتريك ،وعن فقدانه لذاكرته.. إنه رجل دون ماض، دون هوية، وليس من حقه أن يربطه معك.
ـ أتعنين ،أنك و أبي شجعتماه على الرحيل؟
تدخل والدها:
ـ لا..لم نفعل..فأنا لم أحتج إلى مراجع لأشكل رأيا حوله..لأنني أعرف الرجل الطيب حين أراه.
قالت غريس بحزم:
ـ اقترح والدك أن يبقى هنا، ويبدأ حياة جديدة..لكنه رفض. قال إنه مضطر أن يعثر على هويته قبل أن يقبل بثقتنا به.. وهو محق يا إدنا، يجب أن تنتظري عودته، معافى تماما..أو..
أكملت إدنا الجملة:
ـ أو أن أتعلم العيش دونه..أعرف هذا، لقد سمعته يقول هذا مرات و مرات..حسنا جدا..لا يمكنني فعل شئ غير هذا، أليس كذلك؟ لم أسأل عن رأيي، و لا استشارني أحد..أنتم، و مايلز، والجميع، تدارستم مستقبلي بعناية وتعقل..لكن ما من واحد منكم أخذ مشاعري بعين الإعتبار..أنا شابة، والحياة كلها أمامي..وسأتجاوز المحنة..أليس كذلك؟
نظر والدها بصمت إلى هذه المرأة القاسية التي جاءا بها إلى الحياة. وأكملت:
ـ حسن جدا ..قد أكون شابة، وحياتي كما تقولون ما زالت أمامي. لكنني ،أبدا، أبدا، لن أتجاوز محنتي أو أنسى مايلز. ولن يكون لي رجل غيره..لذا من الأفضل أن تقولا له هذا في المرة القادمة عندما يتصل بكما.
لكن، لم يكن هناك"مرة قادمة"فبالرغم من وعده أن يعلم الوالدين بمكان وجوده، إلا أنه لم يتصل أو يكتب، أو هكذا قالا، على الأقل ربما لحمايتها.
لحسن حظها، تملكتها غريزة الحفاظ على الذات، للأيام التي تلت، الأسابيع،والأشهر..فهي لم تكن تعرف الألم من قبل..لم تكن قد واجهت من قبل أي عداء حقيقي أو قسوة، لذا لم يكن لها دفاعات، ولا وسائل حماية ضد الألم الثابت المستمر، دون كلل..كانت خسارتها تبدو لها حية في كل زاوية من الجزيرة، كل نشاط يومي،كل صوت ورائحة، في الواقع ، في كل شئ شاركته مع مايلز..وبرح بها الألم، وسلبها حتى الغضب، أو الكراهية، للرجل الذي كان سبب كل هذا.. كانت تعلم أن الشوق إليها يؤلمه هو أيضا، وهذه المعرفة زادتها معاناة.
مرت ستة شهور..وعاد اليوم مجددا، يسجل مرور سنة على إلقاء الأمواج بمايلز على شاطئ الجزيرة، مع ذلك، كان الألم ما يزال حادا، قاسيا ،يدمر روحها كما كان دوما. وفي ذلك اليوم جاء ليون في عطلته السنوية ليخبرها بأمر هايدن جاكوبس.
لم تكن قد لمست سيناريو قصة مايلز منذ رحيله..فما ان عرفت أنه أخذ معه النسخة الوحيدة، غير المنتهية من عمله حتى فقدت الإهتمام بعملها..لكنها قبل تركها لسانت باتريك إلى انكلترا، نزلت إلى السقيفة، وأخرجت الملف السميك، تنوي استخدامه كدليل على علاقتها السابقة..إنه دليلها الوحيد الملموس في الواقع..عند ذلك فقط، وجدت رسالته الوداعية على قمة الأوراق المطبوعة.
"لن أطلب منك مسامحتي يا إدنا، فكلانا يعرف أنك لن تسامحيني..ولكن، تذكري فقط ،كلما فكرت بي، بأن ذاكرتي مهما كانت خائنة في الماضي، فستبقى دائما مخلصة لك. قلبي يقول لي إنني لم أحب يوما مثلك، وكياني كله يصيح عاليا أنني لن أحب سواك..لذا، يا حبي، إلى اللقاء...مايلز "
  طعنة شوق كحد السكين ، أخرجت إدنا من ماضيها إلى فوضى الحاض اليائس.
بدا لها أن من الصعب أن تصدق أنها بالأمس فقط كانت مستعدة أن تتخلى عن ذراعها الأيمن لفرصة قضاء بضعة أيام في صحبة هايدن جاكوبس..أما الآن، فقد تمنت لو أنها لم تقنع نفسها بالدخول في هذا الموقف الصعب. كانت قد ظنت، أن الألم الذي خبرته بعد رحيل مايلز، قد أعطاها مناعة ضد أي شئ.. لكنها لم تفكر بالجهد الذي يفوق مقدرة البشر، والذي ستضطر إلى ممارسته على عقلها وأحاسيسها..فهذا أبعد بكثير من مقدرتها.
وقررت أمرا.
كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل، والوقت متأخر جدا للإتصال بدويل فرانسيس. لكنها ستتصل به في الصباح، وتطلب منه أن يبحث عن غيرها،ويبعدها عن هذا العذاب.
بدا لها هذا أمرا ممكنا، وسهلا..بإمكانها أن تسيطر على فوران الذكريات المؤلم، والشوق الذي يثيره مجرد النظر إليه، طالما الرجل نفسه يرفضها، بالعجرفة غير المكترثة. إنه يبدو مثل مايلز، وواضح أنه يتمتع بقدرة مايلز على السيطرة على أحاسيسها..ومثله مثل مايلز، كان يبهرها بذكائه الحاد، ومواهبه غير العادية..لكن حبها المستعصي، الذي لا يهتز، لمايلز،كان يرعاه ذلك المزيج الرائع من الدفء والمعرفة، والحنان، وكل هذ كان حصرا بمايلز وحده..قد يكسب هايدن إعجابها، لمواهبه وذكائه، لكنه لن يستطيع فرض سيطرته على قلبها.
لكنها خلال ذلك اليوم الأول، شاهدت عودته شيئا فشيئا إلى الرجل الذي عرفته يوما..كان في المصاحبة المتوالفة في عملهما، يخلع عنه تلك القوقعة القاسية الواقية،ليكشف طبيعته الأصلية، أكانت هذه طبيعته في حياته الحالية أم في تلك الضائعة المنسية.
وكأنها تقع في الحب مجددا..مع ذلك، فالفرصة في أن تجد السعادة في هذا الحب الجديد غير موجودة في الواقع.
لم تكن لتشك في أنها قادرة على أن تجعله يريدها..خلال السنوات الثلاث المنصرمة كان لديها الدليل القاطع على قوة تأثيرها على الرجال..لم تتطلبه يوما، ولا فهمته حقا، لكنها ليست عمياء لتتجاهل الواقع..ولم يزعجها هذا كثيرا وتمكنت دائما على أن تتوقع مسبقا تلك الدلائل التي لا مجال لنكرانها، فتحول من يحاول التأثير في مشاعرها إلى صديق مخلص طيب..ولم تشعر يوما بأي إغراء في أن تستجيب لأي منهم.
لكن مع هايدن،كانت تعرف أن لا قوة لها على المقاومة..وكيف تستطيع أن تقاوم، وهي عرفت حبه مسبقا؟
أمن الممكن، في بقائها قربه، وفي تحريكها ذاكرته بلطف، أن تستطيع استعادة مايلز إلى الحياة مجددا؟
مع ذلك هذا ليس ضمانا بأنه، وهو هايدن، سيحبها كما أحبها مايلز، وهو وحيد فاقد الذاكرة..أذناها كانتا تضجان بالكلمات المتألمة التي قالها تلك الليلة في السقيفة "إذا استطعت الثقة في مشاعر رجل لا ماضي له ولا مستقبل بل حاضر فقط مؤلف من قصة خيالية نصف منتهية، عن جزيرة مسحورة. إذن، نعم أنا أحبك".
كانت واثقة من أنه قد يسترجعها ما إن يعرف الحقيقة.. ولو لمجرد العرفان بالجميل، أو الإحساس بالواجب، فقد ضحى مايلز بحبه لها بسبب إحساس سخيف بالمسؤولية، الإنصاف، الفروسية، سمها ما شئت. وهايدن قادر كذلك على التضحية بنفسه، واستعادتها مجددا، ولنفس الأسباب تماما.. وهذا شئ لا يمكن أن تقبل به..فهي تريد حبه لا إحسانه.
بحلول الساعة الثانية، كانت ما تزال مستيقظة، رأسها يضج بذات الأفكار،تدور وتدور.. حتى أنها لم تكن قد خلعت ملابسها بعد.
قد يكون من الأفضل لها أن تستخدم ساعات اليقظة هذه، لتأخذ مشهدا من السيناريو القديم، وتجهزه لليوم التالي، حين يعودان للعمل معا.. يبدو أنه لا يمانع في أن تظهر شيئا من إبداعها، وهي واثقة من أنه سيوافق على معظم ما تقدمه له.
تمكنت من أن تصل المكتبة بسهولة..لا شك في أنها وهايدن تركا الأنوار مضاءة حين تركا الغرفة..فقد كان هناك شعاع ضئيل مترسب عبر غرفة الجلوس الواسعة إلى الباب. دخلت لترى أن الغرفة كان مضاءة فقط بمصباح يعطي نورا مباشرا إلى المقعد الجلدي.
لكن ما إن وصلت المنضدة، حتى بدأ قلبها يخفق بقلق.
عرفت أن شيئا ما قد حدث لحظة وجدت الدرج مفتوحا.لقد أبقته بنفسها مقفلا طوال اليوم، فآخر شئ كانت تريده، هو أن يلاحظ هايدن وجود المغلف الرقيق، الذي تحفظ فيه أول بضعة مشاهد من السيناريو الذي أنهته أيام سانت باتريك.
والمغلف اختفى.
لم تندهش كثيرا حين وصلها صوت من على المقعد الجلدي.
ـ إذا كنت تبحثين عن نسخة السيناريو، فهي معي هنا..وأنا متأثر بشكل بالغ.
كان جالسا مختبئا في المقعد. وحدهما ساقاه الطويلتان كانتا ظاهرتين، مرتاحتين على كرسي جلدي منخفض للأقدام. وأكمل:
ـ واضح أنك تشاركينني امتناعي عن النوم. لذا دعينا نتابع العمل..أتمانعين في أن تقتربي مني أكثر؟
حين لم ترد أدار المقعد الجلدي بسرعة ليواجهها.. الضوء المنخفض جعل عينيه الزرقاوين تلمعان بغضب بارد مفزع:
ـ قلت اقتربي !
مثلها مثل الروبوت المحول إلى البشر في قصته، وجدت نفسها تسير ببطء إلى أن وصلت إلى جانبه.
ـ اجلسي هنا ..على الكرسي المنخفض.
حين ترددت ، امتدت يده تشدها إلى الأسفل بقسوة ثم قال بصوت منخفض ناعم، جمده غضبه المكبوت:
ـ الآن ..دعينا أخذ الأمر قطعة قطعة.. لقد حصلت على الوظيفة منذ أكثر من أربع وعشرين ساعة..وعلى افتراض أنك كنت واثقة جدا من نفسك..فما زلت غير قادرة على معرفة شئ عن مشروع الفيلم، قبل اجتماعي بالمنتج الذي جرى قبل أسبوع..كيف تمكنت إذن من إنتاج ما يوازي ربع القصة، مقسمة إلى مشاهد منظمة، مشكلة بشكل مناسب بما فيها الحوار المكتمل؟
رفع صوته قليلا بعد أن بقيت صامتة، وهو يأمرها: "أجيبيني يا إدنا ".
كان عقلها يعمل بجنون..محاولا اختراع كذبة مقبولة.
ـ لدي قصتك منذ أكثر من شهر..أخذتها من.. دويل أعطاها لي..
ـ دعك من هذا يا حبيبتي..فهذه النسخة من القصة بقيت على كتمان شديد..فما هي القصة الحقيقية إذن؟
ـ أنا..أحد الموظفين الصغار هناك صديق مقرب مني حصل لي على نسخة.
ـ إذن استغليت بكل برود، نذلا مسكينا ليقوم بعمل إجرامي، يمكن أن يضع حدا لحياته المهنية، هذا إذا كان محظوظا..لماذا؟ لماذا تهتمين بالحصول على نسخة من قصتي؟
لم تعد مخيلتها قادرة على العمل، فنظرت إليه عاجزة، فأكمل يستجوبها بقسوة:
ـ أهي القصة نفسها؟ أم أن الأمر هو ما شككت به أول ما وقعت عيناي عليك؟.. أنت تسعين ورائي..فهل أنا مصيب؟
بدا لها هذا الرد الممكن الوحيد الآن..فأطرقت بضعف.
ـ هكذا إذن.. وصلنا إلى هذه النتيجة..حسن جدا، فلنسمع القصة. ما الذي تجدينه مهما بما يكفي لتذهبي إلى هذا المدى؟ مالي؟ اسمي؟أم مجرد افتتان بسحري؟
آخر كلماته اخترقت ضعفها، فصاحت به:
ـ أيها النذل..النذل البارد المتعجرف !
ـ نذل..أجل..كما أنني متعجرف، إذا كنت تصرين على ذلك..لكنني عل الأقل ذو كرامة..وهذا أكثر مما يمكنك أن تدعيه لنفسك.
كل بؤسها ومشاعرها المتؤلمة انفجرت دفعة واحدة، في ثورة غضب لم تصدق نفسها قادرة عليها. فاندفعت قبضتاها نحوه، تمطران صدره القاسي الذي لا يلين، بضربات متواصلة..تركها تنفس غضبها لحظات، م وبسهولة أمسك بقبضتيها بيد واحدة، ليوقف هجومها عليه.
صاحت:"أوه..لا ! ".
هذا ما كانت تخشاه طوال الوقت..المواجهة عن قرب مع وجهه النظيف الحليق، والذي يسلبها درعها الوحيد ضد ذكرى وجه مايلز الملتحي.
ـ أوه..أرجوك لا..دعني !
الألم الشديد الذي أحست به من قبضته الساحقة، كان خلاصها.
كان مختلفا تماما عن مايلز..وأحست برضى غاضب متوهج حين تركها، لتعود إلى الكرسي المنخفض.. وسألها بخشونة وهو يراقبها:
ـ حسنا، هل كان هذا يستحق الإزعاج؟
كانا الآن، هادئين تماما، وباردين كالثلج. وقالت:
ـ دعني أرى ما إذا كان بالإمكان الرد على سؤالك نقطة نقطة. بالنسبة لمالك ، يملك والدي ما يكفي ليبقيني وأخي في عيش رغيد، حى ولو لم نقم بأي مجهود لكسب معيشتنا. أما اسمك..حسنا، بصراحة، أفضل أن أكون مشهورة باسمي. أما بالنسبة لسحرك..فقد كنت حريصا جدا على أن تبقي هذا السحر مخبأ، كما يبدو، بقصد حماية نساء مثلي، من الإفتتان بك..لا يمكنك أن تصدق أبدا أنني قد أتحمل كل هذه المتاعب للحصول على مخطوطة قصتك، واستعبد نفسي في كتابة السيناريو لمجرد ما تصورته عنك ؟
توقفت مقطوعة الأنفاس،محاولة أن تملأ رئتيها بالهواء. لكنها أدركت الآن أنه كان يهتز بالضحك. وقل لها خلال ضحكاته:
ـ يا الله..أنت لم تتلعثمي مرة واحدة خلال كلامك! يجب أن تترشحي لمنصب رئيسة وزراء.
انتظرت متجهمة الوجه، إلى أن عاد إلى جديته فأكملت كلامها:
ـ سأقول لك لماذا كنت مصممة هكذا للحصول على كتابك..والعمل معك..أردت العمل في السيناريو، لأنه سيأثر كثيرا على مستقبلي المهني.
ـ كسكرتيرة ؟
اتجهت إلى شيء من الحقيقة بعد أن كذبت:
ـ أنا لست سكرتيرة..أنا كاتبة سيناريو.
ظنت أنها لمحت شيئا من خيبة الأمل، وكأنه فقد اهتمامه بها، من الواضح أنه يعتبر الطموح المتحجر أمرا مبتذلا.
ـ أتعنين أنك تحت وهم أن العمل معي سيدفعك إلى عالم كتاب السيناريو المغلق؟
ـ لا..فليس هذا ما أعنيه أبدا..لأنني كاتبة محترفة..مع تسعة سيناريوهات باسمي..ومنتجة كذلك لمسلسلات تلفزيونية، إضافة إلى روايات درامية..لكنني أردت أن  يكون لي سجل في سيناريو قصة رئيسية لها اعتبار و أهمية أكثر من الروايات القصيرة..وأردت أن يكون لدي شئ جاهز أبدأ العمل به قبل أن يسبقني أحد..ولم أكن أعرف أنك ستصر على أن تقوم بالسيناريو بنفسك.
كانت بالتدريج تعود إلى الوقوع في حبائل عادتها القديمة من الثرثرة:
ـ هكذا طلبت من دويل أن يحصل لي على العمل معك. وكنت مستعدة إلى النزول لمستوى مساعدة، لأحصل على خبرة أستخدمها فيما بعد، أعني في وضع سيناريو يحمل إسمي.
فجأة رأت تلك النظرة القديمة الكئيبة تجتاح وجهه..كما حدث له في اليوم السابق حين سمع ضحكتها، ثم بعد ظهر اليوم وهو يراقبها تأكل السندويش..وسألت باشفاق:"ما الأمر؟".
ـ إدنا..اسمك إدنا..وأنت لم تنتحليه كجزء من خطتك للوصول إلي..أليس كذلك؟
ـ لا..لم أفعل هذا. إن اسمي هو إدنا فعلا.
لم يكن يصغي إليها بل بقي يردد اسمها :
ـ إدنا! إدنا! إدنا...إنه قريب جدا..لماذا لا أستطيع الوصول إليه؟
ترقرقت الدموع في عينيها..لقد شهدت مرور مايلز بنفس العذاب عددا من المرات، وهي لا تستطيع سوى مراقبته عاجزة:
ـ أوه..أرجوك مايلز..توقف عن تعذيب نفسك.
انزلق الإسم من بين شفتيها دون تفكير، وبشكل طبيعي، حتى أن لحظات مرت قبل أن تعي ما فعلت..راقبته وهو يرفع رأسه ببطء، يركز بجهد عينيه القاتمتين العميقتين عليها.
ـ بماذا ناديتني؟
فات الوقت للتراجع، فقالت بوضوح:"مايلز..ناديتك مايلز".
أسرت عيناه عينيها للحظات طويلة معذبة..لكنهما لم تظهرا أي دليل على المعرفة، ولا حتى الشك..ثم، وبصوت عادي، سألها:"من هو مايلز؟".
عاد الدم يتدفق مجددا في عروقها ،وأحست بارتياح غريب.
ـ أوه..إنه صديق.
ـ هل هو الموظف الصغير؟
مرت لحظات قبل أن تتذكر أنه يعني من ساعدها.
ـ الموظف الصغير؟ أوه..لا. بالتأكيد لا..فمايلز هو..كان شخصا مميزا.
ـ كان؟
ـ أجل.
ـ وهل مات؟
ترددت، محاولة أن تكذب، لكنها ترددت أمام تشاؤم غريب:
ـ لا..إنه فقط..رحل.
بقي صوته باردا جافا، لكنها أحست بالإشفاق منه عليها:"وأحببته؟".
أطرقت بصمت، فأكمل:
ـ أفهم من هذا أنك ما زلت تحبينه..هل لنا أن نتكلم عنه؟
ـ لا..لاأظنني أستطيع..يس بعد.
أمعن النظر متجهما في وجهها الخالي من أي تعبير:
ـ أوه..فهمت..إذن أنا كذلك أمر في فترة تجربة، أليس كذلك؟
ـ أرجو عفوك؟
قال بهدوء:
ـ أنا كذلك يجب أن أبرهن على أنني أستحق ثقتك..هذا ما كنت تحاولين قوله لي ..أليس كذلك؟
وقفت إدنا، وقد وصلت إلى نهاية قدرتها على التحمل، وقالت بهدوء محولة عينيها عن عينيه الماكرتين:
ـ أنت مخطئ ..لست مضطرا للبرهنة عن شئ..بإمكانك الحصول على ثقتي في أي وقت إذا شعرت أنك بحاجة إليها.
لم تر التعبير الذي ألان ملامح وجهه القاسي الوسيم:
ـ من الأفضل أن تذهبي إلى النوم الآن يا إدنا..وإلا فلن تكوني ذات فائدة لي في الصباح. لا تنسي، يجب أن تدخلي هذه المشاهد الأربعة إلى الكومبيوتر، قبل أن أعاود استعبادك في الساعة العاشرة.
ـ أتعني أننا لا زلنا معا؟ وأنني لست مطرودة؟
ـ يا الله..لا! لسوف توفرين علي الكثير من الوقت مع وجود نسخك الأولى..إضافة إلى هذا، لن أستطيع تحمل خسارتك..فأنت كاتبة سيناريو ممتازة.
كانت عند الباب حين قال:
ـ لمعلوماتك فقط يا إدنا..قررت أن أسترشد بغرائزك الأنثوية..لقد تخليت عن "اليكسيس" الروبوت البشري وهي الآن فتاة حقيقية من لحم ودم..وعلى وشك بلوغ سن الرشد..كي نتمكن من الحصول على قصة حب مقنعة.
أجفلت:"أنا لم أنتقد أبدا قصة الحب في قصتك..قلت فقط إن..".
ـ إنها جافة كثيرا ..وكلانا يعرف هذا..إذن، هذه هي فرصتك لتبرري ثقة دويل فرانسيس بك..ومهما كلف الأمر، عليك أن تحولي اليكسيس إلى إدنا وتتركيها تجد فارس أحلامها.
ـ ماذا؟
أدهشها ما يختزن في ذاكرته، وسمعت مايلز يقول عبر فم هايدن:
ـ لها نكهة أبعد بكثير، ولا شك أنك التقطت صدى "العاصفة"في قصتي..ظننت نفسي أخفيت الآثار جيدا، لكن يبدو أن كشفتني.. لن أهينك بعد الآن بشكوكي..لكن، يبدو مصادفة غريبة أن اسمك هو اسم أحد الأرواح.
ردت متهالكة:
ـ أجل ..أليس كذلك؟ والأكثر من هذا،أنني ولدت وتربيت في جزيرة مسحورة مثل التي في قصتك..ما رأيك بهذه المصادفة؟
كانت قد وصلت إلى الباب تقريبا..حين جاءها صوته الرقيق يوقفها، وديا، وعفويا بشكل مخادع:
ـ لحظة واحدة يا إدنا.
استدارت :"نعم؟".
ـ أعرف أننا تحدثنا في هذا من قبل، لكن اسمحي لي أن أسألك مرة أخرى ولن أكررها.أعدك..أكنت تعرفينني آنذاك؟
ـ آنذاك؟ أتعني حين...
ـ أعني حين كنت نفسي الأخرى..وكما اقترحت أنت بالأمس، حين كنت روحا ضائعة..هل عرفتني آنذاك؟
اتخذت قرارها في لمح البصر..وقالت بوضوح:
ـ لا..لا..لم أكن أعرفك!
تفرست فيها عيناه الباردتان عن كثب لوقت قصير، وقال بصوت منخفض:
ـ يبدو عليك الأسف..أعجب لماذا..
ـ لأنني كنت سأحب أن أساعدك لتكشف غموض فترة الضياع..والآن..
وترددت.
ـ نعم ..تابعي!
ـ لأنني أظن أنك كنت ستسعد بصديق مقرب.
وتركته دون كلمة أخرى.
لم تتصل بدويل فرانسيس في الصباح التالي..فقد نسيت في الواقع أنها قررت الإتصال به..فذلك اللقاء الليلي مع هايدن مسح من دماغها كل قرراراتها المتعلقة..ومهما كان الثمن، مهما كان الألم،فهي مصممة على البقاء، وجعل نفسها مساعدة لا يستغني عنها هايدن جاكوبس أبدا.. حتى لا يعود له الجرأة على أن يتركها خلفه.

***

سقط سهوآ _ناتالي سبارك _حيث تعيش القصص. اكتشف الآن