أختاري بيننا

9.2K 242 24
                                    

كان باتريك وغريس جايمسون في المطار للقائها، وحاولا قدر استطاعتهما أن لا يظهرا مدى ذعرهما لشحوب وجهها الخالي من الحياة. ولسبب ما، كانا مترددين في أخذها مباشرة إلى سانت باتريك، مصرين على غداء ترحيبي في أفخم فندق في الجزيرة.. ثم اقترحا الذهاب إلى النادي للقاء كل أصدقائها القدامى.. لكنها اعترضت على هذا بحزم.. إنها تريد الوصول إلى موطنها.
منتديات ليلاس
تبادل الأبوان نظرة غريبة، ورأت أباها يهز كتفيه باستسلام وهو يقود زوجته وابنته نحو الميناء الداخلي بين الجزر، حيث كان يخت جميل ضخم بانتظارهم.
استدارت إلى أبيها:
ـ ما هذا يا أبي؟ أنت لم تتخل عن"غريس القديمة". هل فعلت؟
ـ ليس بعد.. ولكنها وصلت إلى آخر أيامها، كما أخشى.. وستعجبك هذه مثلها تماما حالما تعتادين عليها.
ابتسمت له:
ـ وسميتها باسمي؟ لقد شرفتني حقا! والآن هلا أقلعنا إلى المنزل؟
كانت الشمس قد بدأت تغيب حين تركوا ميناء فيكتوريا خلفهم.. تركت إدنا والدها يتولى أمر اليخت الفخم الجديد، وجلست بهدوء على سطحه إلى جانب أمها، تركز نظرها على التلال البعيدة لسانت باتريك.. ذهلت لإحساسها بشئ من الإثارة وهي تلتقط أول منظر للحزام الأبيض المحيط بالجزيرة من الرمال البيضاء الناعمة، وهو يبدو أكثر بياضا في مواجهة الخضرة القاتمة لأشجار النخيل وجوز الهند.
استدارت تبتسم بابتهاج لأمها وأرض طفولتها، بينما منزل المزرعة القديم لعائلة جايمسون يطل عليها من وراء ستار كثيف من الأشجار والأدغال.
اختفى المنزل والشاطئ أمامه مع السقيفة، بينما كان اليخت يشق طريقه بلطف وحذر إلى داخل الخليج الصغير، حيث مرساه المعتاد.."غريس" يختها المخلص القديم، كان يهتز بلطف أمام الرصيف الخشبي، يبدو باليا أكثر مما تذكره.
كأنها لم تغادر موطنها.. وأخذت الدفة من أبيها توصل بأمان اليخت الجديد الغريب إلى مرساه.. حيث رمت مرساتها خلف "غريس" القديم المسكين. ثم قفزت إلى الرصيف الخشبي لتربطه بأمان أكثر. كان يمكن أن تقفز في الماء لتصل الشاطئ سباحة، لولا أنها مقيدة بثيابها اللندنية.
نادت أبويها:
ـ لا أستطيع انتظار الوقت الذي أشعر فيه بملمس الرمال تحت قدمي.
أوقفتها غريس وهي على وشك الركض نحو الشاطئ الرملي:
ـ لا.. يا إدنا! انتظري.. أرجوك.. يجب أن نقول لك شيئا.
ابتسمت في وجه أمها المضطرب بشكل غريب: "فيما بعد".
لكنها كانت قد بالغت في تقدير قواها.. مرضها تركها ضعيفة.. وما هي إلا بضع خطوات حتى أبطأت في سيرها وتابعت بهدوء أكثر، بحيث لم يجد الأبوان مشقة في اللحاق بها.. وبدأت الأم تقول:
ـ إدنا.. لست أدري كيف أقول لك هذا.. لكن يجب أن أقوله قبل أن نصل إلى المنزل..أنت..أعني.. نحن لدينا ضيف يقيم معنا.
تأوهت إدنا:
ـ أوه..ياللأسف. كنت آمل أن نكون جميعا وحدنا لفترة ما، ولم أتوقع أي ضيف في مثل هذا الوقت من السنة.
فتدخل والدها قائلا:
ـ إنه ليس ضيفا في الواقع.. إنه..
وتلاشى صوته، واتجهت عيناه إلى الطرف البعيد من الشاطئ حيث كان طيف طويل عاري الصدر، يرتدي جنز مقصوص الساقين، يقف دون حراك عند حافة الماء، يراقبهم بهدوء.
دام الصمت للحظات ثقيلة، لا نهاية لها.. ثم تكلمت إدنا أخيرا وقد بدت غير مكترثة:
ـ كيف..متى وصل إلى هنا؟
نظرت غريس بقلق إلى ابنتها: "منذ أسبوعين".
ـ كان يجب أن تحذريني يا أمي.
حاول والدها أن يشرح لها:
ـ طلب منا أن لا نفعل يا إدنا.. لم يكن يريدك أن تعودي إلى هنا بسببه.
ـ لكنه كان يعرف أنني سأعود.. أليس كذلك؟
ـ أجل..في عطلة لاستعادة عافيتك.. لكن ليس لأنك تشعرين بالواجب لرؤيته مجددا.
ـ لا أريد أن أراه يا أبي.. يجب أن تقول له أن يرحل.. لن أستطيع تحمل المزيد!
بدت غريس عنيدة لا تتنازل:
ـ يجب أن تكلميه.. حتى ولو لمنحه فرصة تبرير عمله. أعرف أنك تشعرين أنه خانك.. لكنك مخطئة..فالرجل لم يستطع المقاومة.. فهو لا يعرف ما حصل له منذ تركنا.
نظرت إدنا مدهوشة إلى أبيها، وكأنها لا تستطيع استيعاب ما تقوله أمها.. لكنه قال بهدوء:
ـ هذا صحيح.. لقد فقد ذاكرته مجددا.. فلا تلوميه على ابتعاده عنك طوال هذه المده.
نظرا إليها بأسى وهي تنفجر ضاحكة.. كانت ضحكة جافة لا ابتهاج فيها تهز جسدها، وتدفع دموع الألم إلى عينيها.. أمسك بها والدها يهزها:
ـ كفى يا إدنا.. ستصابين بالهستيريا.. توقفي فورا عن هذا!
وانتظرا إلى أن تلاشت ضحكتها، وأخذت تتمتم بانكسار:
ـ لا يمكن لهذا أن يحدث يا أبي! لا أصدق. أتريد أن تقول لي انه لا يتذكر شيئا من..
وجمدت.. لم يعد مايلز واقفا عند حافة الماء دون حراك.. بل كان يسير نحوهم.. جسده الرائع النحيل، يتحرك بنفس الخطوة الرشيقة ليقترب منها أكثر فأكثر.. همست لأمها:
ـ لا أستطيع رؤيته! لا أستطيع! لا أستطيع مواجهته مرة أخرى يا أمي .. أرجوك!
سمعها ..لكنه استمر بالتقدم نحوها، دون أن تتحرك عضلة واحدة في وجهه الصارم غير المبتسم.. فاستدارت، محاولة الهرب إلى اليخت. لكن يد والدها أوقفتها، وبخشونة:
ـ بعد أن تكوني مهذبة معه.. كان أمامك ثلاث سنوات لتتغلبي على مشاعرك نحوه.. وأظن أنك كبرت بما يكفي خلال هذه الفترة.
وقف مايلز على بعد خطوات منها.. لم يحاول الاقتراب. كانت قد وقفت الآن بينه وبين أبويها وكان الثلاثة ينظرون إليها، وكأنها في قفص الاتهام، وهم القضاة.
أخيرا قال مايلز بصوت كسول جاف، يخلو من العاطفه:
ـ مرحبا يا إدنا.. تبدين بحالة رهيبة.
ـ شكرا لك.. أنت من ناحية أخرى تبدو في حالة جيدة جدا.
ابتسم ابتسامته الخبيثة القديمة: "أحاول ذلك جاهدا".
والداها، الواقفان هناك جامدين، عادا إلى الحياة.. وقال باتريك بطريقته الأرستقراطية القديمة:
ـ سنتوقع عودتكما إلى المنزل في السابعة.. لا تتأخري يا إدنا.
وكأن شيئا لم يحصل.
أصبحا وحدهما يقفان متصلبين فوق الرصيف الخشبي.. مغمورين بأشعة الشمس المائلة إلى الغروب.
ـ من أين نبدأ؟
ـ ماذا؟
ـ الحديث. لا مانع عندي من أن نقف هنا إلى الأبد.. لكن يبدو أن ساقيك ترتجفان قليلا.. فهل نجرب مكتبنا القديم؟ السقيفة أعني.. في حال نسيتها.
ـ لا.. لم أنسها..ولا..ليس في السقيفة.. في أي مكان عدا السقيفة.. فما سأقوله لك يمكن قوله هنا والآن يا مايلز.
ـ حسن جدا ..فلنسمع إذن.
ـ ارحل من هنا يا مايلز!
وكأنما دعته لشرب الشاي.. فلم تؤثر كلماتها عليه، وقال معتذرا:
ـ حسن.. قد يكون هذا صعبا قليلا كما أخشى.. فأنا لا أعرف إلى أين أذهب.. أترين.. فهذا هو المكان الوحيد الذي أستطيع التفكير فيه.
كان اليأس قد سلبها أي نوع من العاطفة، ما عدا الحاجة الملحة للإبتعاد عنه، لتوفر على نفسها المزيد من العذاب.
ـ عد من حيث أتيت إذن.. إنك، على الأقل تعرف هذا.
ـ جئت من "ماهي" حيث أضعت نفسي منذ ثلاث سنوات.ولا تسأليني كيف وصلت إلى هناك، ولا ما الذي حدث لي. أنا حقا لا أعرف.
كانت ضحكته مرحة هازلة.
ـ أنا آسفة يا مايلز.. آسفة لأنك فقدت ذاكرتك مجددا.. وآسفة لأنني لا يمكنني أن أرحب بك.. لكننا لا نستطيع العودة إلى الوراء.. لقد انتهى كل شئ.
فرد بغموض:
ـ انتهى حقا؟ حسن جدا.. أود مناقشة هذا قليلا.. هل يجب أن نكمل هذا النقاش ونحن واقفان هكذا؟ نستطيع أن نكمل الحديث في قمرة اليخت، إذا كنت لا تستطيعين تحمل السير معي إلى السقيفة.
ـ حسن جدا..لكنك تضيع وقتك يا مايلز.. لا أريد عودتك.
كانت القمرة الرئيسية الفاخرة التجهيز في اليخت أجمل بكثير من قمرة اليخت القديم البالي.. وكان الغروب قد بدأ يميل إلى الإظلام، لكن أحد منهما لم ينر المكان وقادتها يداه الثقيلتان بغير لطف، إلى المقعد.
ـ آسف..لكن ساقيك لم تعودا قادرتين على حملك على ما يبدو. والآن.. فلنتناول الأمور واحدا بعد آخر..أيمكن؟ متى قررت أن تتخلي عني؟
أعدت نفسها للكذبة القادمة:
ـ تقريبا بعد مغادرتك سانت باتريك. أكنت تظن أنني سأنتظرك إلى الأبد؟
ـ غريب.. لقد فهمت أنك كنت تبحثين عني منذ ثلاث سنوات.
ـ ومن قال لك هذا ..أبواي؟
ـ وليون..بالطبع..
بالرغم من قرارها البقاء متصلبة هادئة، ارتفع صوتها:
ـ ليون؟ أكنت تتصل بليون؟ أيعرف أنك هنا؟
أومأ برأسه إيجابا وهو يستوعب رد فعلها الغاضب، وأكملت:
ـ وأعتقد أنك أقنعته، كما فعلت بوالداي، بأن لا يقول شيئا لي.
ـ هذا صحيح.. لكننا سنعود إلى هذا فيما بعد، فأنا من بدأ هذا الاستجواب وأنا من ينهيه.. ويجب أن تعترفي لي بهذا الحق، لأعرف ماذا حصل خلال الأسابيع الأخيرة ما جعلني أصبح غير مرغوب فيه فجأة.
كانت أظافرها تحفر بألم في راحتيها:
ـ كنت مريضة.. وهذا غيرني.. لست أدري كيف، لكن هذا ما حصل.
فقد صوته هدوءه وكسله وهو يقف:
ـ لا أصدقك يا إدنا.. يمكنني أن أفكر بسببين فقط.. أحدهما أنك قررت أن ليس بالإمكان الاعتماد على رجل يفقد ذاكرته باستمرار، مع تغير الرياح.. هل هذا هو السبب يا إدنا؟ هل تخليت عني لأنني أصاب دوما بفقدان الذاكرة؟
ثم تابع بغضب:
ـ أجيبيني.. اللعنة عليك !
صاحت في وجهه البارد الغاضب:
ـ لا..! ليس الأمر هكذا! أنا لا أهتم أبدا بما تقول.. ولم أهتم يوما، وأنت تعرف هذا!
ـ أجل..أعتقد أنني أعرف..فما السبب إذن؟ لا تبقيني حائرا يا حبيبتي، أو سأضطر إلى استخدام طريقة أخرى لمعرفة الحقيقة.
أحست بتصاعد موجة قهقهات في داخلها.. إنه لا يظن حقا أنها ستنخدع بهذه التمثيلية، مايلز ليس قادرا على العنف مثلما كان هايدن.
ـ أتعني أنك ستلجأ إلى العنف الجسدي؟
رد متجهما:
ـ نعم، لكن ليس بالضرورة أن يكون عنفا.
كان كل كيانها يرتجف وهي تقف لتواجهه.. لا شئ على وجه الأرض يجعلها تعود مرة أخرى لتعاني نفس العذاب في حبها لهذا الرجل، المقدر له أن يعيش في شخصيتين.. لم تكن قادرة على رؤيته يتعذب كذلك في حياة مزدوجة. إنها كالسم له، كما هو لها، محكوم عليهما أن يحبا بعضهما إلى الأبد، مع ذلك،أن لا يجدا الراحة والإكتفاء في حبهما.. ويجب أن تنقذ نفسها وتنقذه، من هذا العذاب الذي لا يطاق.
ابتسم لها بهدوء كامل دون قلق، متغاضيا عن ابتعادها عنه دون اكتراث:
ـ إذن..يا حبي.. إلى أين نتجه من هنا؟
ردت بهدوء مماثل:
ـ إلى لا مكان.. لا مكان يا مايلز. أنا أحبك، ولم أتوقف يوما عن حبك.. لكنني أحب شخصا آخر بنفس المقدار.
احتفظ بابتسامته على وجهه:
ـ وهل هذا صحيح؟ ماذا تفعلين إذن في سانت باتريك؟ لماذا لست معه أينما كان؟
ـ لنفس السبب الذي أرفض فيه أن أكون معك.. فأنا أفضل أن لا يكون لي أي منكما، على أن أضطر إلى الاختيار بينكما.
سمعته يتنهد بصوت منخفض، لكنها لم تر أي حزن في عينيه القاتمتي الزرقة.. سوى اتساع غريب في حدقتيه.. وارتياح في الوجه الوسيم الذي لا يلين.
قال ببساطة:
ـ أجل..هذا ما قاله ليون بالضبط.
أبعدت نظرها عنه.. لم تستطع أن تسمح له بأن يعذبها أكثر من ذلك. وأجابت:
ـ إذن.. لو كان في نفسك مشاعر متبقية لي يا مايلز..أرجوك.. افعل ما فعله الآخر، وابتعد. دعني وشأني!
رنت كلماتها في القمرة الساكنة بشكل غريب.. وبدا أن الصمت سيستمر إلى الأبد.. ثم تكلم.. وكانت متأكدة أن المتكلم الآن هو هايدن وليس مايلز.
ـ أكنت ستقولين الشئ عينه للرجل الآخر لو طلب منك الزواج في ليلة الأحد تلك، في مطعم "ماي فير" يا إدنا؟
لم تسمع ما تبقى من كلامه، فقد انهارت ركبتاها تحت ثقلها، وبدأت تهبط إلى الأرض.. فأسرع إلى مساعدتها. وسمعته يتمتم بغضب وهو يسندها بيده:
ـ يا إلهي، كم أنا متوحش أحمق.
قادها إلى السطح، بعيدا عن جو الكابين الخانق، وهو يهمس لها:
ـ أنا آسف يا حبيبتي.. كان هذا غباء مني.. تمثيلية قاسية، لكن، كان يجب أن أعرف.
تمتمت:
ـ هايدن؟ أعني..مايلز..أوه يا إلهي! لست أدري ما أعني.. أي منهما أنت؟
ـ أنا هايدن إذا أحببت، ومايلز إذا فضلت الاسم الذي أطلقته علي. أنا الاثنين معا هنا، إذا فهمت ما أعني. ولو سألتني رأيي، لا أريد أي شخصية منا ..أقصد مني..فكلانا أحمق فاقد الحس.. لكن هذا ليس بالعجيب.. فنحن على أي حال ذات الرجل.
لم تفهم كلمة مما قال.. كانت عيناها تتبعان خطوط وجهه القوي، وكأنما لتطمئن نفسها أنها إنما ترى مايلز وهايدن معا.
وبقيت تتمتم بأسئلة لا معنى لها أبدا ولا تتطلب الرد بكل تأكيد:
ـ أتعرف بأمر مايلز..؟ أعني بأمر هايدن؟ وكنت هنا طوال الوقت..؟
ـ هذا صحيح.. منذ غادرت لندن.. مع أنني كان يمكن أن أركل نفسي لتركي لك حين أبرق لي ليون عن مرضك..كدت أعود في الحال.. لكنه عاد وأكد لي أنك تتماثلين للشفاء وستعودين قريبا.. وفكرنا معا أن من الأفضل أن نلتقي هنا.
ـ إذن لقد تآمرتما مجددا ضدي؟ كان بإمكانك توفير هذا العذاب الأخير علي يا هايدن.
أجابها وهو ينظر إلى عينيها:
ـ الآن كلانا يعرف..أليس كذلك؟ قولي لي مرة أخرى ما قلته يومها.
دون تردد، قالت ما تذكرته على الفور:
ـ أحبك كثيرا حتى أنني أكاد أطير فرحا، وانني الآن أطوف في أرض الخيال.
ـ هذا يكفي يا إدنا.. تكاد الساعة تصل السابعة، ولسوف يرسلنا والدك إلى النوم دون طعام لو تأخرنا عن العشاء.
همست له:
ـ فليفعل.. لا أطيق أن أشاركك مع أحد الآن.
ابتسم:
ـ وهل تطيقين أن لا تري منزلك لبضعة أيام أخرى إذن؟
ـ أطيق أي شئ طالما لا أستيقظ لأجد واحدا منكما قد رحل! إلى أين ستذهب؟
ـ لأتصل بوالدك بالراديو وأقول له اننا راحلان.
ـ أوه..لا..لا تفعل..تبا لك يا هايدن، لا تتركني الآن.
ثم استوعبت ما قاله تماما: "إلى أين؟".
ـ سنبحر، هذه هي الفكرة الرئيسية، لو كنت تذكرين.
ضحك للارتباك الذي بدا عليها، واستغل فرصة جمودها، ليسير بسرعة إلى قمرة القيادة، وأخذ يعمل على الراديو. سمعته يقول:
ـ باتريك؟ من الأفضل أن تبدأ العشاء دوننا.. لن نعود قبل بضعة أيام..
وجاء صوت أبيها مبهما عبر طقطقات معدنية، ثم رد هايدن:
"أجل أظن ذلك.. الأسرع هو الأفضل. ماعدا..انتظر لحظة..أتسمح؟".
استدار إليها ينظر إلى عينيها، إلى شعرها القصير.
ـ إنها نفس المشكلة يا حبي.
ـ ما هي؟
ـ أظنني استبقت الأمور وأخذت موافقتك كأمر مسلم به.. ولا أستطيع أن أعدك بأنني سأتغير يوما.. لذا من الأفضل أن تفكري قبل استعجال الأمور.
شدت على قبضتيها وقد وصل صبرها إلى نهايته:
ـ أفكر بماذا؟ عم تتكلم بحق الله يا هايدن؟
ملأ صوت أبيها القمرة الصغيرة، يطالب بنفاد صبر، بمجيئها إليه، فرد هايدن:
ـ حسن جدا..أعطني دقيقة يا باتريك، يا إلهي كم أنتم عائلة نافدة الصبر! من الأفضل أن أفعل هذا بسرعة إذن.. هل تتزوجينني يا إدنا؟
لم يعطها فرصة الرد،ولا أن تهز رأسها، وأكمل عبر الراديو:
ـ أجل..كل شئ على ما يرام.. سنعود في الوقت المحدد ليوم الزفاف، فلا تقلق.. في أسرع وقت يمكنكم ترتيب الأمر.. أنت تعرف ابنتك جيدا، ولا شك أنك أصبحت تعرفني كذلك.. فأنا خال من كل نقيصة.
وذهلت وهي تسمع صوت أبيها الجاف الرزين ينفجر قائلا:
ـ ستبقى دائما سيدا انكليزيا محترما.
سألته إدنا بعد ساعتين من هذا:
ـ أتعني أنك كنت ستتذكر كل شئ لو قلت لك الحقيقة فور تلاقينا؟
كانا قد أصبحا بعيدين عن سانت باتريك والسيشل الآن. واليخت يترنح بلطف وسط المحيط، لاشئ حولهما ما عدا الظلام المخملي...
ورد عليها بوقار:
ـ لا أظن هذا..فبقدر ما أندم على الأوقات القاسية التي مررنا بها معا بكذبك حول عدم معرفتك لي، أظنك كنت محقة في أن تجعليني أكافح وحدي ضد ذاكرتي.
ـ لكنك قلت انك تذكرت كل شئ حين سمعتني أصيح باسم مايلز..حين..تعرف..أنت وأنا..
ـ كان هذه هي الدفعة الأخيرة، يا حبي.. وما كانت لتساعدني لولا أنني كنت في منتصف الطريق.. فأنت دعوتني بذلك الاسم أول ليلة مقابلتنا..أتذكرين؟ وكانت صدمة مشتتة جدا لي.. لكنني كنت قد مررت بإنذارات خاطئة كثيرة من قبل. حتى أنني رفضتها على أساس أنه خدعة أخرى مثيرة للشفقة من ذاكرتي المسكينة، مثلها مثل ضحكتك، غضبك السريع، وهذرك الذي لا نهاية له.. وهاتين العينين الفاتنتين. واسمك بالطبع.
ـ أوه..أجل نسيت هذا.. وشكرا لتسميتك يختك باسمي. وكم كنت أتمنى لو أنني عرفت يومها أنك تذكرت اسمي.
ـ أجل.. كانت هذه المصادفة هي التي أثارت أكبر شكوكي.. فهناك القليل ممن يعرف اسم يختي..لكن، بما أنك كنت قادمة من السيشل، كنت واثقا من أنك رأيته في مكان ما، وافترضت ان الاسم هو جزء من خطتك للإيقاع بي.. ويجب أن تتوقفي عن هذا الآن.. أرجوك، توقفي عن النظر إلي بهاتين العينين.
صادقا بوعده مع أبيها، أبقاها بعيدة عنه.. وردت عليه: "أوه..أعذرني".
وتراجعت إلى الخلف، تاركة بضع أقدام بينهما.. كما فعلت تماما في الأشهر الأولى لإقامته في سانت باتريك. وسألته بهدوء: "هل هكذا أفضل؟".
تأوه بخشونة:"لا تبالغي الآن! ".
عادت إلى جانبه:
ـ أي شئ تقوله يا سيدي.. إذن متى أدركت أنني لا أختبئ وراء اسم مزيف؟
ـ أوه..يوم اطلعت على جواز سفرك و..
أوقفته ضاحكة:
ـ وأين وجدته؟ لا تقل لي.. فتشت حقيبتي وغرفتي؟
أطرق برأسه بخجل، وقال ببساطة:
ـ آسف يا حبيبتي..كان يجب أن أعرف.
ـ حقا يا هايدن، كان هذا عملا قذرا.. حين أفكر بالمتاعب التي مررت بها لأتجنب استخدام وسائل غير شريفة.. كان بإمكاني ابتزازك، أو استخراج المعلومات من باميلا، أو جويس. لقد كنت شريفة جدا معك.
انفجر ضاحكا بسخرية:
ـ أنت..شريفة..؟ يا إلهي يا إدنا؟ لم تكفي عن إهانة ذكائي بكذبك.. تخترعين كل تلك القصص المثيرة للسخط.. في الواقع..ظننتك مدعية أخرى، تحاول الاستفادة من ماضي المدفون.
ـ بدلا من ذلك ظننتني المؤلفة الحقيقية للقصة،جئت لأطالب بحصتي.
ـ لم أكن لأهتم بالقصة حينذاك، كنت مذهولا بهوسك بذلك الغامض مايلز.
ونظر بغضب إلى وجهها الضاحك:
ـ أتظنين الأمر مضحكا؟ حاولي أن تعيشي مع ثقب أسود في ذاكرتك..أتعرفين ماذا يمكن أن أشعر إذ أحيا يوما بعد يوم وأنا أعصر ذاكرتي حتى الموت، محاولا أن أفهم ما الذي يجعلك باردة هكذا، ولماذا تعزلين نفسك مبتعدة عن المخلوقات كلها، حتى عن نفسك!
ـ أو باولا..أو جويس؟
ـ أجل..ولماذا لا؟ يمكنني أن أفعل أسوء من هذا. لكنني لم أكن أعرف ما الذي كان يمنعني.. كنت أعرف أن هناك شيئا، أو امرأة، لها السيطرة الكاملة على حياتي، حتى ولو لم أتذكر وجهها أو اسمها، أو أي شئ عنها.
مرت بهما لحظات صمت استعادا فيها تذكر العذاب والحيرة، ثم خطرت لها فكرة:
ـ انتظر يا هايدن.. لقد قلت لباميلا انك قررت الزواج مني.. أكان السبب أنك..أعني..هل كنت..
ـ لا.. لم أكن قد تخليت بعد عن حلمي القديم، إذا كان هذا هو سؤالك.. لكنني كنت أعرف أنني أحبك بقدر ما وربما أكثر من حبي شبحي الضبابي، أحسست أنني سأنسى كل شئ في حبي لك.. وكنت على ثقة من أنه عميق وقوي بما يكفي لأجعلك تنسين الرجل الذي ظننته منافسي. وقلت لك هذا، ولو لم يكن بكلمات محددة..وكان يجب يومها أن تقولي لي أن أكف عن القلق حوله.
ـ ولماذا أفعل؟ جعلت الأمر يبدو كعقد عمل: شبحي مقابل شبحك.. وأنا مستعد إذا كنت مستعدة.. ذلك النوع من الأمور.. كنت متوحشا، متعجرفا..
ـ حسنا جدا.. إذا أنت أصررت على المقارنة، فماذا عن وقت كنا معا في المرج؟ كان يمكنك أن تري أنني كدت أجن، مع ذلك، بدلا من قول الحقيقة، بقيت تكيدينني بمايلز..
ـ لا تتهمني أبدا بمكايدتك! وماذا عنك؟ كنت تجلس هناك، كالقط الذي التقط لتوه فأرا.. تقول لي انك قررت أن تعتبرني بديلا لحبك الضائع. فماذا كان من المفترض أن أفعل؟ هل أجثو لأشكرك على موافقتك على جعلي صديقتك؟
وكالعادة.. شعر بالتسلية إزاء طبعها الحاد.
ـ كان هذا سيوفر علينا معا الكثير من الوقت.. فكل ما كنت بحاجة إليه هو أنت..أوه يا حبي..
تأوه وهو ينظر إلى عينيها.
ـ لا أستطيع أن أصف لك شعوري.. كدت أفقد صوابي.. لكن ما ان عرفت أنك تناديني باسم مايلز.. وأنني أنا من تقصدين، وأنك حبي، وحبي الوحيد.. وأن الزمن توقف جامدا لثلاث سنوات كاملة، وعاد كل شئ على ما يرام مجددا.. أوه كنت سأموت حبا وشوقا لك.
وكأنما يريد مسح الذكرى المعذبة من رأسه، أغمض عينيه لكي يغرق أفكاره. سألته:
ـ لماذا خدعتني في آخر ليلة لنا في الفيلا يا هايدن؟ لماذا تركتني؟ كنت تعرف أنك مايلز، وكنت تعرف أنني لا أحب سواك ومع ذلك تركتني ورحلت.
لم يرد للحظات، ثم تحرك مبتعدا عنها، ليضع مسافة بيتهما:
ـ أجل..أعرف هذا.. لكنني لم أعد ذلك الرجل الضائع الذي أعدته إلى الحياه، ودمجته مع حلمك الرومانسي. كنت ما أزال هايدن جاكوبس يا إدنا.. رجل له ماض و مستقبل، وممتلئ بالمسؤوليات، وعمل ضخم متطلب. هذا عدا ذكر زمرة من الجياع للمال.. ثم لم أكن رجلا لطيفا ليعيش المرء معه.. كما لم تفشلي مرة في القول لي.
ـ لكنك لم تكن هكذا! كنت متعجرفا وغير لين، مغرورا لا تحتمل.. لكن هكذا كان مايلز أيضا!
ـ ربما.. لكنني كنت أريد أن أتأكد من أنك تحبينني.. الرجل الحقيقي.. وليس شبحا من الماضي.. لهذا دبرت أمر هذه التمثيلية السخيفة، بادعاء عودة فقدان ذاكرتي، وعودة مايلز ثانية.. ولقد حذرني ليون وأبواك من أنك لن تنخدعي بها..لكنك خدعت..أليس كذلك؟
ـ حسن جدا..لا تكن معتزا جدا بنفسك يا هايدن.. لقد سلبتني كل الأحاسيس، تتلاعب بهبات باردة وساخنة علي.. مع ذلك أعجب ماذا كنت ستفعل لو أنني رميت نفسي بين ذراعيك على أنك مايلز.. لقد كدت أفعل وكان موقفي هو الأصعب في حياتي، حين قلت لك أن ترحل.
قال لها بهدوء:
ـ تعجبت من هذا بنفسي.. أعتقد أنني كنت سأكمل التمثيلية لفترة، وأخطط في تلك الأثناء لأجعلك تتقبلين تدريجيا بصفتي هايدن ومايلز معا..
وقف مرتديا بنطلون مايلز المقصوص.
ـ إلى أين الآن؟
رد بهدوء:
ـ إلى العمل.. وأنت كذلك أيتها الكسول..تعالي، يجب أن ننهي السيناريو.
ـ لماذا؟ لدينا كل الوقت في العالم.
ـ أما أنا فلا.. فما ان نتزوج حتى أعود إلى حياتي الطبيعية.
ـ إلى امبراطورية جاكوبس؟
ـ من بين أشياء أخرى، مثل رعاية زوجتي، تربية الأولاد..ومثل هذه الأشياء.. وسأترك كل شئ لمخيلتك الإبداعية.. أما مخيلتي فستكون مشغولة بإيجاد وسائل لإبقائك سعيدة، جسدا وروحا..
ببطء وسعادة، حملها مرة أخرى بعيدا في رحلتهما الطويلة نحو المستقبل.. ترفل بالثقة المتوهجة العميقة التي لا تهتز، بأن هذه المرة لن تكون حياة واحدة لزمن واحد.. بل عمر كامل متحد.

***
تمت بحمد الله

🎉 لقد انتهيت من قراءة سقط سهوآ _ناتالي سبارك _ 🎉
سقط سهوآ _ناتالي سبارك _حيث تعيش القصص. اكتشف الآن