خطر خلف الباب

6K 120 0
                                    

بدا المنزل الفيكتوري الطراز في ضاحية"دولويتش" أكثر كآبة مما كان، بعد الأيام التي أمضتها إدنا في فيلا هايدن جاكوبس.. كان ليون في الخارج ولم يترك رسالة لأنه لم يكن يتوقع مجيئها.. وافترض أنه مع فيرا، الطبيبة المتدربة في نفس المستشفى، والتي أصبحت صديقته الدائمة منذ حوالي سنة.
أعدت إدنا نفسها لمعركة.. ثم اتصلت بدويل.. حين أجاب أخبرته أنها ستترك العمل.
ـ أنا لا أنفعه يا دويل.. لأنني لم أكتب سيناريو فيلم سينمائي من قبل، بل فقط مسلسلات تلفزيونية.. ومن الأفضل له التعامل مع كاتب سيناريو حقيقي.
رد دويل ساخطا:
ـ قولي له أنت هذا..كما أن ما تقولينه هراء.. لأنه لم يتذمر.. في الواقع، أعتقد أنه مسرور جدا معك!بعد أيام من الترقب، اتصل بي ليقول إنه قرر استبقاءك، وإنه سيوقع العقد مع المنتج.. فكيف تأتين الآن لتقولي لي أنك لا تريدين الإستمرار؟
ـ أنا آسفة.
ـ حسن جدا.. لا يمكنك التراجع الآن..وهذا أمر نهائي.. ماالذي دهاك على أي حال؟ منذ أسبوعين كنت على استعداد لمقايضة عشر سنوات من عمرك بفرصة العمل معه!
بقيت صامتة.
ـ اسمعي يا إدنا.. إنني أرفض القيام بعمل أي شئ دون سبب وجيه.. أنت تتصرفين كفتاة مدللة، لا شجاعة لها. لماذا لا يمكنك العمل معه بينما هو من يريدك أن تستمري؟
ـ لا أستطيع يا دويل.. ويجب أن تساعدني.. لا أستطيع الإستمرار في العمل معه.. لم أعد أستطيع.
استسلم الوكيل السن أخيرا:
ـ الله يعلم أين سأجد البديل.. فلقد رفض هايدن أفضل من لدي من أشخاص.
ـ سيكون أقل عنادا الآن.. لقد انسجم حقا مع الجانب التقني، ولن يحس بالحرج مع المحترفين الآن.في الواقع يمكنه متابعة العمل وحده، لو سألتني رأيي.
ـ أوه..صحيح..أيمكنك تصوره وهو يطبع؟
أخفت ابتسامتها ألمها.. كان مايلز طابعا من الدرجة الأولى.. وقالت بهدوء:
ـ أستطيع أن أتصوره بكل تأكيد.. ولن أقلقك في هذا المجال.. اتصل به غدا، وقل له إنني لن أعود يوم الإثنين.. سأرسل إلى هناك من يأخذ أغ**** خلال الأسبوع القادم.
أعادت السماعة مكانها، ولساعة كاملة أخذت تجول في المنزل، تقوم بأعمال لا لزوم لها لتبقي نفسها مشغولة.
غرفتها لم توفر لها الراحة.. لكنها على الأقل وجدت فيها شيئا شغلها. لم تكن شخصا فوضويا بطبيعتها، لكنها كانت لا تطيق أن تلقي بعيدا حتى برسالة صغيرة.. ما لبثت أن أغرقت نفسها في العمل، وكأنما بتنظيم أوراق السنة المنصرمة المبعثرة، تستطيع تبديد الأوهام والآمال الزائفة التي كانت تتملكها منذ تركها مايلز. ووجدت نفسها ممسكة بقطعة ورق مجعدة، وصفراء من تأثير الزمن، حملتها معها من سانت باتريك، وكانت أول وآخر رسالة حب من مايلز.
"تذكري فقط عندما تفكرين بي، أن ذاكرتي مهما كانت خائنة في الماضي، فستبقى مخلصة لك.. قلبي يقول لي انني لم أحب أحدا من قبل كما أحببتك.. وكياني كله يصيح أنني لن أحب أي شخص سواك. لذا يا حبي.. إلى أن نلتقي ثانية.. مايلز"
حتى الآن، كانت الكلمات هذه تساعدها على إحياء آمالها، وتقويها في تصميمها على أن تجده.. لكن وهي تقرأ تلك الكلمات الآن بدأت تبكي بصمت، مستسلمة أخيرا لليأس الذي كان يخيم بثقله عليها.. وعد مايلز دق المسمار الأخير في نعش حبها لهايدن.. لقد حافظ على وعده، ذاكرته المدفونة بقيت مخلصة لشبح لا اسم له من جزيرة ضائعة.. وواقع أن هذا الشبح، بلحمه ودمه، هو هي، لم يشكل أي فارق.
كان يخيم على المنزل القديم المتجهم صمت مخيف. ولم تكن الساعة قد بلغت التاسعة بعد، والأمسية مازالت أمامها طويلة، فارغة، وحيدة،مليئة بالأفكار التعسة.
حسن جدا، لقد ودعت الشخصين الآن.. لقد ودعت مايلز، وتركت العمل مع هايدن في نفس الوقت. إنه لن يلحق بها، هذا ماهي واثقة منه.. إذا كان ما يزال يبحث عن بديل، فهناك جويس لإرضاء ذاكرته اللاواعية لفتاة الجزيرة.
انتظرت ليون حتى مابعد منتصف الليل.. كانت حاجة لأن تتكلم معه، أن تخبره عن هايدن، أن تدع منطقه وذكاءه يقويان قراراتها. لكنها تخلت عن توقع عودته تلك الليلة، فهو عادة يقضي عدة ليال في الأسبوع في المستشفى.
ذهبت إلى النوم وقد تزايد شعورها بالوحدة، وأخذت تفكر في مبلغ فراغ حياتها دون صحبة ليون المرحة.. ربما عليها أن تعود إلى سانت باتريك. ورغم أنها مازالت مليئة بذكرى مايلز، إلا أنها الآن مستعدة لأن ترحب بهذه الذكريا الحلوة التي بدأت تخبو.. على الأقل ستكون ذكريات مريحة، تهدئ من عذاب حبها المرفوض لهايدن.
استيقظت على منزل يضج بأصوات الناس، حين وصلت المطبخ نصف نائمة وجدت ليون في بيجامته، وفيرا، يحتسيان عصير"الغريبفروت"
قالت إدنا مخاطبة فيرا:
ـ أرجو أن لا أكون سببا لتوقفك عن المجئ إلى هنا.
ردت فيرا:"حسنا..أحس ليون أن..".
قاطعتها إدنا:
ـ انني مازلت زهرة هشة يجب أن لا تتعرف على وقائع الحياة؟
والتفتت إلى ليون ضاحكة:
ـ أم تخاف أن أغار منك لأن ليس لي صديق دائم؟
هايدن جاكوبس يرفض أن يفتح لها قلبه بسبب وعد قطعه لها في ماضيه المنسي، وها هو شقيقها الآن لا يجرؤ على المجئ بصديقته إلى المنزل خوفا من إزعاجها. بالنسبة إلى حالة ليون لا مشكلة لديها في إزالة العراقيل.. لكن ما من مجال تستطيع فيه إراحة هايدن من العهد الذي يفرضه على نفسه.. ولو قالت له الحقيقة حول مايلز، قد يشعر بأنه مرتبط بها بوعد شرف.. وإذا تركته،كما ستفعل، فسيبقى أسيرا لحبه الضائع.
ما إن أنهوا طعام الفطور، حتى كلف ليون الفتاتين بمساعدته في تحضير عشاء يوم الأحد، الذي دعا إليه عدة أصدقاء وصديقات.
كانت الساعة قد جاوزت السابعة حين وضعت إدنا آخر قطعة زجاج في خزانة الآنية الخزفية، وصعدت إلى غرفتها، تاركة ليون يتمتع بموسيقى موزارت من جهاز الستيريو، الذي رفعه إلى درجة تصم الآذان بينما خرجت فيرا لتوصل بعض الضيوف إلى بيوتهم.
وسرعان ما سلمت جسدها المتعب إلى دغدغة مياه الدوش الساخنة.. ومرت دقائق تدندن فيها مع الموسيقى الواصلة إليها من فوق صوت الماء، ثم أدركت أن هناك صوتا آخر.. صوت جرس الباب، يتعالى صاخبا حادا ما يدل على أنه كان يرن منذ وقت طويل.
انتظرت لحظات، عل ليون يرد، لكن لا شك أنه كان نائما،أو أنه مازال مستغرقا في الإستماع إلى الموسيقى الكلاسيكية. أخيرا أمسكت منشفة وجففت نفسها بسرعة، وارتدت ثوب النوم.
بدا أن المتطفل المصر تخلى عن إصراره، فقد توقف الرنين قبل أن تصل الردهة.. مع ذلك تقدمت من الباب ونظرت إلى الخارج علها تلحق بمن كان يرن الجرس وكانت في الوقت المناسب لترى جسدا طويلا غير واضح المعالم لرجل على وشك دخول سيارة، بدت لها كسيارة بورش.. وإذ سمع الرجل صوت فتح الباب، استدار ليلمحها في الوقت المناسب.
بذعر هائل، حاولت إغلاق الباب لكن هايدن كان أسرع منها. وبخطواته الرشيقة الطويلة، قفز بضع خطوات وصل بها إلى الباب وعيناه قاتمتا الزرقة تتحديانها أن تقفله في وجهه.
منتديات ليلاس
ضحكت بحرج لتصرفها الغبي:
ـ آسفة..لا أعرف لماذا فعلت هذا.. أعتقد أنك فاجئتني.
ابتسم هايدن:
ـ كانت ردة فعلك محقة تماما.. لا يستطيع الكثير من الرجال المقاومة لرؤيتك.. أيمكن أن أدخل؟
تراجعت إلى الوراء: "أوه..طبعا ..تفضل".
وأقفلت الباب وراءه أمام الهواء الليلي البارد.
ـ ليون..شقيي في غرفة الجلوس وأظنه نائما.
كانت موسيقى موزارت لا تزال تصدح بصوت مصمم للآذان:
ـ نائم؟ مع هذا الصوت؟ لا عجب إذن أنك لم تسمعي رنين الجرس.
هزت كتفيها:
ـ لقد تناولنا عشاء طويلا، ولا شك أنه يحس بالتعب.. ولا أعرف إلى أين آخذك.
قال بوقار:
ـ ليس إلى غرفة نومك.. لا أظن أن هذا سيكون حكيما وأنت ترتدين هكذا..
أجفلت لملاحظته:
ـ أرجو المعذرة؟
ـ بما أن غرفة نومك خارج البحث، وغرفة الإستقبال مشغولة سأنتظرك في المطبخ.. مع فنجان قهوة ،ذا لم يزعجك هذا.
ـ أوه..أنا آسفة..طبعا..
ـ سأضع الإبريق على النار بينما تصعدين لتغيير ملابسك.
ـ أغير ملابسي؟
ـ هذا ثوب فاتن بالطبع. وأنا واثق من أنك ستديرين الكثير من الرؤوس في مطعم "ماي فير".. لكنني لا أظنه مناسبا لجو لندن في هذا الوقت من السنة.
نظرت إليه مدهوشة:
ـ لا أفهم..ما دخل "ماي فير" بكل هذا؟
ـ أليس من المفترض أن نتناول العشاء هناك؟
ـ حقا؟
ـ ألا تذكرين؟ أنت وأنا لدينا موعد لهذه الليلة. على الأقل هذا ما كنت قلته أنت لباولا أمس.
تأوهت..لقد نسيت كذبتها السخيفة:
ـ أوه..هيا الآن يا هايدن.. كانت مجرد طريقة لتخليصك من حفلة عشاء الليلة.. ولم أقصد فعلا أن تأخذني إلى العشاء وأنت تعرف هذا جيدا.
ـ آسف يا حبيبتي.. لكنك ملزمة. لقد حرمتني من عشاء لذيذ، حتى ولو كان يشمل عائلتي الحبيبة.. وستدفعين الثمن.. أكاد أموت جوعا، ولم يكن من السهل حجز مائدة في"ماي فير" في وقت قصير كهذا.. واضطررت إلى وعد الإدارة بتخفيض كبير على الكومبيوتر الجديد.. أسرعي إذن، سأهتم بصنع القهوة..لا تقلقي.
وبإيماءة منه خرجت من المطبخ ساخطة، إلى حيث صعدت الدرج إلى غرفتها.
بحذر شديد تفحصت نفسها في المرآة بعد أن ارتدت ثوبها دون أن تعي ماتفعل.. على أي حال، هذه هي المرةالأولى التي تخرج فيها رسميا مع مايلز أو هايدن، وبالرغم منها، أرادت أن تبدو بأحسن مظهر.. وقررت أن الثوب الذي كان من الحرير الطبيعي من تصميم"كانزو" منسب لأي مطعم فاخر في لندن. أما طراز شعرها الأشعث البالغ القصر، فقد جعل شكلها الأنثوي يبدو جميلا للغاية، وأحست أنها لم تكن مبالغة في أناقتها،ولا عادية. ومع أن وجهها بدا شاحبا ومتعبا إلا أنهاقررت ألا تستخدم الماكياج.. فهي نادرا ما تستخدمه ولقد أمضت حتى الآن أكثر من ربع ساعة في إعداد نفسها رغم أن آخر شئ كانت تريده هو أن يظنها هايدن تجشمت مشقة خاصه لتتزين له.
فجأة أحست بغضب شديد منه، فاختارت حقيبة قماش مطرزة تستخدمها عادة لأوقات العمل، مما يجعل شكلها متنافرا مع أناقتها العامة، ثم أسرعت تنزل السلم، متوقعة انتقاداته الساخرة، لكنها لم تكن مستعدة أبدا للكارثة التي كانت في انتظارها.
وبذعر تذكرت أن ليون لا يعرف شيئا عن أمرها مع هايدن.
وازداد ذعرها حين تصورت ما قد يحدث لو دخل ليون المطبخ واصطدم دون توقع بالرجل الذي عرفه منذ ثلاث سنوات باسم"مايلز".. فتحت فمها متأخرة لتناديه وتوقفه، ولكن، في تلك اللحظة، خرج هايدن من المطبخ، يحمل كوب قهوة في يده. وكان واضحا أنه مل الإنتظار.
توقف الرجلان مسمران لرؤيتهما بعضهما.. وارتفعت يد إدنا إلى فمها حين لاحظت الصدمة التي بدت على وجه ليون.
ـ ياإلهي مايلز! أنا لا أصدق!
خرج الإسم غير واضح المعالم بسبب النعاس، لكنه بدا واضحا تماما لإدنا..ولم يرها أحد من الرجلين وهي تقف في منتصف السلم. لكنها كانت ترى وجه هايدن نصف مضاء بنور المطبخ خلفه.. وجمدت في مكانها تنتظر ردة الفعل لديه.
سأل بلطف: "أقلت مايلز؟ في الواقع اسمي هايدن".
تدخل تدريب ليون المهني و ذكاؤه للإنقاذ.. وسرعان ما انفرجت أسايره وهدأت ملامحه لتبدو في عينيه نظرة دهشة مهذبة لطيفة.. وهو يقول بلهجة طبيعية:
ـ أرجو عفوك.. في هذه العتمة الخفيفة بدوت لي شبيها بصديق قديم..أنا ليون جايمسون..شقيق إدنا..أعتقد أنك هنا لأجلها.
تقدم هاين إلى الأمام،ينقل كوب القهوة إلى يده اليسرى ليستخدم اليمنى في مصافحة ليون.
ـ أنا هايدن جاكوبس..كيف حالك؟
لم يسجل وجه ليون أي تعبير، ماعدا السرور:
ـ رجل الكومبيوتر؟ هذا شرف حقيقي. لم يكن لدي فكرة أن إدنا تعرفك.. وهذا لا يبدو لي إنصافا منها، ألا تظنين هذا يا إدنا؟
فاجأها سؤاله هذا.. فهيلم تكن تعرف أنه شاهدها.. وتابع ليون دون أن ينتظر استجماعها رباطة جأشها:
ـ كلانا..إدنا وأنا..من هواة الكومبيوتر.. ونقوم بالتنافس أحيانا فيما بيننا لنرى أفضلنا في استخدامه ولكن ما كان لها أن تبقي عبقريا مثلك لنفسها.
خرجت ضحكة إدنا متوترة غير طبيعية:
ـ أنت لا تشارك أصدقاء الكومبيوتر معي، فلماذا أشاركك؟
كانت عينا هايدن تنتقلان من وجه ليون إلى وجه إدنا مصغيا باهتمام لمزاحهما الخفيف وذلك بوجه جامد.. وتابعت إدنا نزول السلم، تحملها ساقان متصلبتان فيما تبقى من الطريق:
ـ على أي حال، علاقتنا لا علاقة لها بالكومبيوتر.. هايدن هو الرجل الذي أعمل معه منذ أسبوعين.. أحول كتابه إلى سيناريو سينمائي. لعلك تذكر أنني سبق وحدثتك عنه.
ـ أوه..أجل طبعا..أنا آسف يا إدنا. لا ألام لو لم أستطع استيعاب كل هذرك..أيمكنني هذا؟
انضمت ضحكة هايدن جاكوبس المنخفضة إلى ضحكات الشقيقين ومزاحهما، وقال:
ـ إنها تتكلم كثيرا..مع ذك، يجب أن أقول ان كلامها منطقي جدا حين يصل إلى السيناريو.. إنهاجيدة جدا، شقيقتك هذه..هل أنت مشغول الليلة؟
لم يكن السؤال متوقعا،حتى أنه فاجأ ليون.
ـ حمدا لله..لا..إنها أول أمسية حرة منذ أسبوع.
ـ حسن جدا..لماذا لا تنضم إلى العشاء معنا؟
تراجع ليون بسرعة، ينظر بارتباك إلى إدنا:
ـ أوه..لا..لاأستطيع.. فأنا متشوق لنوم باكر.
أولردة فعل لديها كان وخزة خيبة أمل..لكنها سرعان ما أجفلت متصلبة ودماغها يشتم رائحة الخطر، في مخاطبة ليون له باسم"مايلز".. على الأرجح دعوته كانت محاولة لاجتذاب الحقيقة منهما.. حسن جدا،فليحاول، فلا أحد يمكنه أن يقف في وجهه مثل ليون، وهذه هي الحماية التي تحتاجها بالضبط.
أسرعت تنزل السلم وتتقدم إلى ليون تضع ذراعها في ذراعه، تتوسل إليه:
ـ أرجوك ليون ،تعال معنا..سأحب هذا.
انضم إليها هايدن..ووقع ليون في الفخ، فنظر إلى إدنا بارتباك، وصعد ليغير ملابسه بملابس رسمية.
عندما أصبحت إدنا وحدها مع هايدن، نظرت إليه تنتظر تعليقه،فقال:
ـ يبدو لي أنه شاب لطيف.. إنه طبيب نفسي، ما أظنك قلت لي، أليس كذلك؟
ـ أجل.
ـ وهاوي كومبيوتر أيضا..عجبا..لماذا لم تخبريه أنك تعملين معي؟
ـ لم أرغب في أن أقول شيئا قبل أن أتأكد من أنك ستبقيني معك.
هنأها على منطقها الجيد:
ـ هذا صحيح تماما..والآن، وقد عرفت أن العمل لك..
فقاطعته متوقعة سؤاله التالي:
ـ لم تتح لي الفرصة اليوم.. كان لدينا ضيوف وكما رأيت بنفسك، كنا متعبين.
ـ حسن جدا..إنه لحسن الحظ، سيأتي معنا إلى العشاء.. وهكذا سنتمكن من أن نقول له معا إننا مسافران إلى السيشل، يوم الإربعاء.
ـ اسمع هايدن..أنا..لاأظن أنني قادرة على السفر معك..
قاطعها هايدن:
ـ أوه ليون، انتهيت بسرعة.هل نذهب في سيارتك أم ماذا؟
قال ليون بارتباك: "فيرا أخذت سيارتي".
قالت إدنا بسرعة:
ـ نستطيع أخذ الرينو.. هكذا لن يضطر هايدن إلى إيصالنا إلى المنزل.
تغاضى هايدن عن اقتراحها وهو يتوجه نحو الباب:
ـ هراء..سنكون أكثر راحة في البورش. أحضري معطفك يا إدنا.
كان مطعم"ماي فير" يتألق بهالة من الفخامة والأناقة.. كان مركزا للإجتماع بين العاملين في المسرح والسينما، كما أنه كان المكان المفضل لإدنا..لكنها الليلة، وهي تسير مع هايدن جاكوبس، أحست بالإستغراب و الإرتباك.
بالرغم من شهرة هايدن جاكوبس، إلا أن وجهه بقي غير مألوف للعامة بسبب كراهيته لتصوير الصحافة له. مع ذلك وهم يدخلون المطعم المزدحم، انتبهت بارتباك إلى النظرات الفضولية، خاصة من النساء، والتي وجهت نحوه، تتساءل عمن يكون هذا الغريب الجذاب.. ولأنها مرافقته، كانت تجتذب نفس النظرات الماكرة والحاسدة.
بدأت الأمسية بهدوء، تتخللها الوجبة الخفيفة اللذيذة.. لكن إدنا كانت ترى أنها لو كانت بقيت في المنزل كان ذلك أفضل لها بالنسبة إلى قلة الإهتمام الذي تلقته من الرجلين.. فقد بدا أن ليون و هايدن قد انسجما معا حال جلوسهما، وانغمسا في حديث نشيط حول الكومبيوتر الذي هو نتاج عبقرية هايدن ومثار هوس ليون و هوسها.. ولكنها ما لبثت مع انضمامها إلى الحديث،أن استرخت قليلا، ونسيت استراتيجية هايدن في تخدير ضحيته بسحره السهل إلى أن تتخلى عن كل دفاع، ثم ينقض عليها في لحظة مفاجئة.
ـ أخبرني عن عملك يا ليون. أنا معجب تماما بخفايا علم النفس.
أجفلت إدنا تشم رائحة الخطر.. فهو لا شك يحاول الإيقاع بأخيها ليعترف بأنه يعرف بأمر فقدانه للذاكرة. لكن ليون الأكثر مكرا مما تظن، ابتسم بسهولة و سأل ببراءة:
ـ أي قسم بالتحديد من علم النفس؟
ـ وماهو اختصاصك؟
لم يتردد ليون:
ـ أوه..كل الشواذات الطبيعية..إذا كنت تفهم ما أعني. التخلف، التقصير في الإبداع، عوائق الذاكرة، أشياء كهذه.. تجد الكثير منها هنا في لندن، بسبب التنافس المسعور.
تنفست إدنا الصعداء بعد أن قاد ليون الحديث بعيدا عن الخطر.. مسليا إياهما بقصص مذهلة عن فقدان الذاكرة العادي.. أخيرا أنهى ليون قصصه عندما جاءت القهوة:
ـ قد نقضي الليل كله نتحدث عن هذا الأمر..لقد أمضيت ست سنوات في دراستها.
ـ ست سنوات؟ ظننتك جئت إلى انكلترا مؤخرا، مثل إدنا.
مرت قشعريرة باردة على ظهر إدنا.. هذا ما كان يتجه إليه طوال الأمسية.. ولسوف يستجوبهما معا حول ماضيهما.. رمت ليون بنظرة تحذير، وتدخلت دون أن تعطيه فرصة الرد:
ـ أوه..لقد جئت إلى هنا بعد وقت طويل من مجئ ليون.. تأكدت أولا من أنه مستقر في المدينة الكبيرة، وأنه مهد لطريق لي.. مما وفر علي القيام بالإتصالات الإجتماعية..
سألها هايدن:
ـ الاتصالات الإجتماعية؟ هل هذا هو سبب مجيئك إلى هنا يا إدنا؟ للقاء الناس؟ أكنت وحيدة في الجزيرة؟
أمام رعبها، تولى ليون الرد، ليقول بهدوء:
ـ وحيدة تماما.. كان والدانا قد بدءا يقلقان عليها..كما ترى ..سانت باتريك مقطوعة تماما عن العالم الخارجي، وشعرنا كلنا أنها بحاجة إلى الابتعاد.. خاصة بعد زيارة مطولة لصديق لي، انتهت بشكل محزن.
أوقفته إدنا عن الكلام بصوت حاد:
ـ بحق الله عليك يا ليون..لاأظن هايدن مهتما بقصة حياتي.
رد ليون:"أظنه مهتما..ألست كذلك هايدن؟".
ـ بالطبع.
وهي تحس كحيوان واقع في الفخ، رأت الرجلان يتبادلان نظرة سريعة، وكأن بينهما لغة سرية..وتابع هايدن:
ـ أفهم من هذا أن صديقك هو الغامض الشهير مايلز..
ـ هذا صحيح..الرجل الذي ظننته أنت حين التقيتك. الشبه تام بينكما.. أليس كذلك يا إدنا؟
تمنت لو تضربهما معا لمواجهتهما عذابها الخفي هذه الطريقة الباردة العفوية. وقفت، تكاد ترمي الكرسي خلفها:
ـ أعتقد هذا.. هلا عذرتماني..رجاء؟
بقيت في استراحة النساء الفخمة قدر ما جرؤت.. لتعود إلى المائدة وتجد هايدن وحده يجلس بهدوء.. وهاجمت وجهه المبتسم الوسيم بغضب: "أين هو؟".
ـ ليون؟ أوه..قرر البقاء في المدينة..فذلك أيسر له في الوصول إلى العمل صباحا، كما قال.
نظرت إليه بعداء مكشوف:
ـ لقد اكتفيت..وأرغب في العودة إلى المنزل الآن، إذا لم تكن تمانع.
ابتسم لها:
ـ كل تأكيد..أنا على وشك إنهاء قهوتي..اجلسي.
لكنها بقيت واقفة.
ـ بل أفضل أن أستقل سيارة أجرة، فمنزلنا بعيد عن طريقك.
بلطف وثبات، أمسك بذراعها وشدها إلى الكرسي.
ـ هراء..اجلسي واهدأي، لم أدفع الفاتورة بعد.
بعد دقائق من هذا، كانت تجلس إلى جانبه في سيارته، تحشر نفسها إلى الباب،في جهد لإبقاء مسافة بينهما. وبقيت صامتة تماما، تحاول إبقاء غضبها مشتعلا، كدرع ضد قربه منها المثير للإضطراب.. كل ما كانت تريده هو العودة إلى المنزل والزحف إلى السرير، لتستغرق في النوم.
سمعته يقول بعفوية تسخر من غضبها الصامت.
ـ أعتقد أن الوقت قد حان لتنفذي ما يتعلق بك من الإتفاق.
ردت بوقار: "أي اتفاق؟ متى عقدت معك اتفاقا؟".
ـ في أول ليلة لك في الفيلا.ألا تذكرين؟ لقد وافقت على أن تخبريني بكل شئ عن مايلز الغامض إذا أنا وافقت أن آخذك معي إلى السيشل.
كان هذا سوء تفسير متعمد لحديثهما، وجلست مستوية، متصلبة غضبا:
ـ اسمع هايدن..بإمكانك القيام بمثل هذه الألاعيب مع شخص كأخي.. يكون كفؤا لك في ذلك ولكن ليس معي.. أنا لم أوافق أبدا على أي شئ كهذا !
ابتسم بسرعة:
ـ ربما لا.. لكنني مازلت أحب أن أسمع قصة الرجل الذي مازال شبحه يعيق أبسط الأشياء فيك..من هو؟
ردت متعبة:
ـ إنه صديق ليون.. وبقي معنا عدة أشهر في سانت باتريك. واتفق أنك تشبهه..قليلا.لكن الشبه ظاهري.. ولا يمكن لأحد أن يخطئ به بعد بضع لحظات.
اشتد صوته قساوة:
ـ لماذا؟ وأين يبتدئ الفرق و أين ينتهي؟
ـ حسن جدا، كبداية، هو ليس مجنون عظمة متعجرف لا يحتمل، بارد الدم مثلك.
تمتم بخشونة:
ـ نسيت أن تضيفي صفة"فاقد الذاكرة".
بدأت تحس أنها شخصية في مسرحية هزلية تحولت إلى كابوس.. وتمكنت من القول بغضب:
ـ ولو كان هذا..لو كان..ماكنت لاعتبرها ضده.
ـ لا..لاأظنك تفعلين هذا.. لكن الواقع يبقى أنك ما زلت مخلصة له.. بالرغم من أنه غائب منذ ثلاث سنوات.. ألا تظنين أن هذا حفظ للولاء أكثر من اللازم.
هاجمته بسؤال لتجنب الرد على سؤاله:
ـ وهل قال لك ليون هذا؟ وماذا غير هذا قال لك أخي"المخلص"؟ يبدو أنك عرفت الكثير منه خلال الوقت القصير الذي تركتكما فيه.
لم يتأثر لسخريتها:
ـ الكثير.. مع أننا اتفقنا على أنه من الأفضل أن تسردي أنت التفاصيل.
ـ كم أنتما شهمان !
نظر إليها بسرعة، وعلى فمه شبه ابتسامة:
ـ أوه..لم نقصد أن نكون شهمين..بل عمليين فقط.
لم يكن أمامها أية طريقة لإخراجه من عدم اكتراثه الخبيث بها.. فصاحت تقاطعه باحتقار:
ـ أوه..تبا لكما معا !
وكادت تهوي إلى الأمام مع توقف السيارة.
ظنت أنها تمادت أكثر من اللازم. مد يده إليها، فتراجعت منكمشة.. لكنها على الفور أحست بالغباء، حين مرت يده عنها ليفتح لها الباب.
ـ اخرجي يا إدنا وصلنا إلى المنزل.
ردت ببرود:
ـ أوه..شكرا لك..آسفة لاضطرارك إلى توصيلي إلى هنا، وشكرا لك على العشاء. على الأقل كان الطعام لذيذا. عمت مساء.
ولكنه بدلا من أن يرد، فتح بابه معتبرا أنها ستدعوه حتما إلى فنجان قهوة، بكل عجرفة وخبث.. مما أشعل فيها الارتباك لعلمها أن ليون ليس هنا.
أوقفته قبل أن يسير نحو المنزل:
ـ انتظر يا هايدن.. لا أظن أن من المناسب أن تدخل.. أمامك طريق طويل لتعود إلى منزلك.
قال لها بهدوء وهو يرفع حاجبه: "لكنني في منزلي".
فجأة انتبهت إلى الصمت الرهيب، فنظرت عبر نافذة السيارة. لم يكن هناك صفوف منازل متباعدة،ولا أعمدة إضاءة قديمة الطراز.. بل مجرد ظلال أشجار تلوح من بعيد عبر الظلمة الكثيفة للمروج.. ومصباح وحيد كان ينير مدخل فيلا هايدن.

سقط سهوآ _ناتالي سبارك _حيث تعيش القصص. اكتشف الآن