الخلوة بالله

131 12 3
                                    

في الحديث الذي اتفق عليه الشيخان عن عائشة -رضي الله عنها- قالت: "أول ما بُدئ به رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الوحي: الرؤيا الصادقة في النوم، فكان لا يرى شيئًا إلا جاء مثل فلق الصبح، ثم حُبِّب إليه الخلاء، فكان يخلو بغار حراء يتحنّث فيه – أي يتعبَّد فيه- الليالي ذوات العدد قبل أن ينزع إلى أهله ويتزوّد لذلك ..."
قال (النووي) في شرحه على صحيح مسلم: الخلاء: هو الخَلوَة وهي شأن الصالحين وعباد الله العارفين.
ونزيد ما قاله (أبو سليمان الخطابي) في تعليقه على الحديث :
"حُبِّبَت العُزلة إليه -صلى الله عليه وسلم-؛ لأنَّ معها فراغ القلب وهي مُعينة على التفكُّر وبها يَنقطع عن مألوفات البشر ويتخشَّع قلبه".
فيا أخية، شهر رمضان شهر عبادة، شهر القُرُبات، شهر الخشوع والتَّدَبُّر والتأمل، فبالله عليه لِمَ تجعلين قلبَكِ يتيه بين صورَة وتعليق ومقطَعٍ وإعجاب ؟
تضيعين وقتا ثميناً لا يُقَدَّر بماء العين. وقتُك في رمضان كلُّه عتق ورحمة ومغفرة ورِفعَة فلم تضيعينه على مواقع التواصل ؟
تقولين أستَفيد، ألَم تكفِيكِ استفادَة ١١ شهرا ؟ ألا نستطيع على الأقَل أن نخصِّصَ شهراً واحَداً لتَطبيق ما تَعَلَّمناه طوال السنَّة ؟ هذا إن كنا قد تعلمنا شيئا فعلا ..
ولا أقول لك أعرِضي عن طلب العلم، بل اقرئي وتفقهي في دينك، وإنما مع نفسِك، بعيداً عن الهرج وأمواج التعليقات وهذه تدعوكِ لهذا والأخرى تنكِرُه عليك والثالثَة تدعوك للاعراض عن كلاهما الخ .. خدي وقتا مع نفسِك، جلسَة تُحاسِبين فيها نفسك أوَّلاً : هل أُطَبِّق ما أتعلم ؟ أم ان هذا العلم حجة عليَّ لا لِي ؟
وبعدها انطَلِقي وتَزَوَّدي، تفَرَّغي لكتاب الله، هو والله مُنير الطرقات لكل تائِه وكُلِّ عارِفٍ أيضا، فنحن في الدنيا كُلُّنا نمشي في التِّيه، إلا من هداه الله لطريقِه، فبالله عليك هل هناك وسيلة أفضَل من القرآن تدلُّك على طريق الله ؟
ثُمَّ الصلاة، اين أنتِ من القيام والطول الوقوف والخشوع في الصلاة ؟ وعقلك كله منشغِل بصديقاتِك اللاتي ينتَظِرنَك ان تنهي الصلاة حتى تُحادِثيهم ..
تقولين أُهَوِّل المَوقِف وأبالِغ، طيِّب. هل يستَوي شخصٌ هَجَرَ الناس لشهرٍ كاملٍ بُغيَة الخلوة بالله، مع شخصٍ يختَلي حيناً ويختَلِط حيناً آخَر ؟
أتَّفِقُ أن الصُّحبة الصالحة تعين على الطاعات والعبادات، ولكن هل جَرَّبتِ مُصاحَبَة الله ؟ وطلب العون والقوة منه وحدَه ؟ والالتجاء إليه وحده ؟
جَرِّبي أن تختلي بالله، وأن تبتَعِدي عن مِئات الصديقات التي تملكين على مواقع التواصل. صدقيني هذا يساعدك أن تنظري في حالِك نظرة متمعِّنَة، من أنا ؟ ما هي معتَقَداتي أنا ؟ بعيداً عن تأثير الصديقات .. ما هي طاقَة تَحَمُّلي، وقوَّتي في الدعوة، الخ .. في فترة وجيزة تستطيعين أن تعرفي أينَ يكمُنُ حَدُّكِ، كي تبدئي المَسير منهُ، على عكسِ السَّير مع تيَّارٍ تظنين نفسَك حين تكونين معه قويَّة وما أن توضَعي في مَوقِفٍ لوَحدِكِ حتَّى تضعُفي ضُعفاً لم يخطُر على بالِك أبداً، فتعودين تظنين بنفسِكِ النِّفاق، وربما تيأسين في الآخر ..
الأجدَر أن يأخد الإنسان وقتا مع نفسِه بل مع الله، من حين لآخَر لا في رمضان فقط، يعيد مراجعة حساباته وقراراته حتى يتأكَّد من أنه يخطو على منحنى صحيح، ويطلب ويتذلل فيه إلى الله بأن يرشده ويعينه على الطريق.
والصحابة رضي الله عنهم، كان هذا أمرٌ دائِم في أيَّامِهم، لذا لا نستَغرِب قوَّتَهم وثباتهم، فقد كانوا يقومون كُلَّ ليلَة، ويختَلون بالرحمن كل ليلَة، يشكون ضعفَهم، ذنوبَهم، زلَّاتهم وتقصيرهم في حقه عز وجل، فكان ذلك الضعف، وذلك الاعتراف، وتلك الإنابَة إلى الله عز وجل كلَّ ليلَة سببا في عَزِّهم ورفعَتهم وقربهم منه عز وجل.
فبالله عليكم كيف لنا أن نبلغ حالهم، يا معشَر المُتَمَنِّين، ونحن لا نختَلي بالله ولو مَرَّة في السَّنة ؟
#مها_الدرقاوي
#رمضان_حبيب_القلوب

رمضان حبيب القلوبحيث تعيش القصص. اكتشف الآن