الجُزء الأول.

28 2 3
                                    

تناولت كُوب الشاي وجلست على الأريكة واضعة قدماً فوق الأخرى. "إذاً ما رأيك عزيزي في هذه الصفقة؟" نظرت إليه وغمزت.

إستدار بكرسيه متوجهاً نحوها "رأيي أن هذا ضرباً من الجنون الذي أود أن أُشارك بِه". عَلت صَوت ضحكات الإثنين كما لو أنهما قد إنتصرا. -
-
الساعة السابعة صباحاً صوت المُنبه يرن.
إستيقظ "جاد" على مُنبهه المُعتاد، مع الكثير من الشتائِم على هذا المنبه المزعج.
نهض وهو يترنح يميناً وشمالاً، "ماذا كان سيحدث لو أن أحداً يذهب بدلاً مني" قالها بِكسل شديد.
نظر إلى الصورة المُعلقة بجانب مرآته، أمعن بالنظر بها، ثم أعاد نظره إلى المرآة، عَرف كم جرى به العمر وإلى أين أوصله إنعزاله عن المجتمع، تنَهد بقوة ورفع أكتافه بِلا مُبالاة وقال "ما باليَد حيِلة". فَتح خِزانته وإنتقى منها أفضلها، لم يَكن يعلم مامعنى كُل هذا لكن هذه توصيات جدته التي تخشى على حفيدها من أن ينتهي بِه المطاف بلا عائِلة ولا أطفال. هذا ماكانت تخشاهُ جدته ، أما مايخشاهُ هو ليس العُمر بل أن لا يتذكرهُ أحد بعد وفاته.
إهتز الهاتف على المنضدة، فتحه وكانت رسالة من جدته "لا تنسى الموعد .. أحضر معك باقة لطيفة من الأزهار". حَرك عينيه للأعلى وتأفف "هذه العجوز لا تمّل من الأوامر" .

خرج من المنزل وركب سيارته مُتجهاً نحو متجر الزهور. دخل المتجر وأخذ يتلفت يُمنى ويُسرى، لم تُلفته الزُهور يوماً، أَخبر البائِع أنه يريد أي باقة لديه باللون الأحمر، يظُن دوماً أن الباقة الحمراء يعشقنها الفتيات ولا يرفُضن صاحبها.  بينما كان البائع يقوم بعمله، كان "جاد" ينقُل نظره بين زهرة وأُخرى بلا مُبالاة، وقع نظره على صبارة موضوعة على أحد الأرفُف، كانت وحيدة ومختلفة، تُشبهه بالغرابة. أخبر البائع أنه يُريد هذه الصبارة، أجابه البائع "لقد تركها رجل عندي ليأخذها أحد أصدقائه".
فكّر جاد قليلاً، أحس أن هناك شيء بداخله يريدها بشدة، ألّح عليه ثم عرض عليه مبلغاً جيداً، فكر البائع وقال له "لك هذا". فرِح جاد أيّما فرحة، فكان معروف بغرابة أطوارِه، قد لا تُسعده مليون دولار، لكن مُجرد نبتة مُلقاة على أحد الأرفُف قد تجعله يطير من السعادة.
أخذ الصبارة وباقة الزهور وخرج مُسرعاً إلى مَوعده.
وصل إلى المقهى في وقته المناسب، جلس في إحدى الطاولات وأخذ يتعرق كَعادته فَهو لا تُناسبه المواعيد الغرامية.
-
-
دخلت من الباب فتاة تملك من الجمال مالا تملِكه معظم الفتيات، فَرك عينيه جيداً ليتأكد مما يرى وقال "الحمدلله،لم يضيع ثمن الزهور هباءًا". تقدّمت منه وقالت بصوت عذب "كيف حالك؟".
-بخير.
"لمَ أنت متصبب عرقاً إذاً".
-الجو حار.
"لكننا في فصل الشتاء" قالتها بِمكر لم يفهمه.
-
-
بعد مرور نصف ساعة.
"تشرفت بمعرفتك، لكن علي المغادرة الآن فَأمي مريضة وأنا من يعتني بِها" همّت مُسرعةً بالخروج قبل أن يستوقِفها.
- "أتظُنين أنكِ ستخرجين بهذه السهولة؟" قالها بوجه بارد.
"لا أفهم ماذا تقصد" قالتها بإبتسامة شاحبة.
ضحك وقال "آسف لم أقصد إخافتك لكنكِ نسيتي هذا" ثم أشار إلى محفظة نقودها. ثم سحبتها من يده بسرعة وخرجت.
فور خُروجها أمسكّت "جوين" بهاتفها وبحثت عن إسم "السيد نيار" ، ضغطت على زر الإتصال فَلم يُجبها أحد. تركت رسالة محتواها "أعلم أنك غاضب لكن الأمر قد مر أخيراً وأردت أن أُطمئنك أنه أصبح بحوزتي الآن". إبتسمت إبتسامة خبيثة وأكملت مُضيها.
9:00 pm
كانت عائِدة إلى منزلها شاعرةً بأنها إجتازت هذه المُهمة الصعبة، "السيد نيار" لن يُهددها بقتل طفلها بعد الآن، ستخرج معه أينما تريد ووقتما شائَت،من الآن هي أُم صالحة، فهذا التهديد قد زال عن كتِفها وأصبحت مُتفرغة لطفلها.
توقفّت لبُرهة عند سماعها لصوت حركة، تنهدت بعُمق وأكملت سيرها ظناً منها أنها هرّة تعبث بالقرب.
لم تشعُر إلا بأحدٍ ما قام بِطرحها أرضاً، رفعت رأسها لترى ثلاثة رجال، أحدهما يُثبتها والآخر يربطها. "سيدي لقد تمت المهمة، قبضنا عليها".
فتحت عينيها بصعوبة، وجدتهُ يجلس أمامها واضعاً القدَم فوق الأُخرى وبحوزته "القلم".
"إذاً أنتِ تقولين أن هذا القلم سيجعل مِني شخصاً خارقاً" قالها بِتعجرف.
-نعم يا سيدي، أنا مُتأكدة من ذلك.
-
-
ظهر الرُعب على ملامحها فَأخذت تترجاه أن يعطيها فرصة أخرى، أمسك الحارس بِها وأخذ يسحبها بقوة، توقّف الحارس حين قال له سيّده "إنتظر" .
نظرت إليه مُلتمسة منهُ أملاً بأن يدعها وشأنها، ثم قال "لم لا نضع الصغير في دار الأيتام كي يكون بأمان بعد وفاة أمه" قالها بإبتسامة فيها من المكر والخبث مايكفي لِجعلها تنهار أمامه راجية منه أن يدع طفلها وشأنه.
-
-
نظَر جاد بِتمعن إلى القلم الذي بين يَديه وقال "لو أنه يتم تحويل غبائهم إلى طعام لمَا بقي مجاعة في هذا العالم!" ضحك بِسخرية ثم توجه نحو مكتبِه الفوضوي، كتَب على ورقة "1978" إنبعث وميض أزرق من الأرقام ثم أغمض عينيه فَتغيّر كل شيء من حولِه. "جاد" الذي كان يعشق كُل شيء قديم دفعهُ حبه إلى إختراع جهاز ينقله إلى ذلك الزمن الذي يحمل في طيّاته معاني الذوق والجمال، أيام القمصان الملونة، والبناطيل العالية، والنظارات ذات الأشكال وصيحات الشعر الغريبة، والأهم من هذا هو المسرحيات والموسيقى التي لم يأتي لها مثيل.

فَتح "جاد" عينيه ونظر حوله، الشوارع والطُرقات تغيرت، التلفاز عاد قديماً، والراديو موضوع على المنضدة وتنبعث منه أغنية أوليفيا نيوتن جون "You're the one that I want"، أمعن النظر في المكتبة التي على يمينه، الكثير من الكتب مُرتبة بشكل جميل، إلتقط منها كتاب "The bluest eye" كان قد قرأه مسبقاً، جلس على الكرسي وأخذ يقرأ منه.
أحس بالتعب لأنه كان جالساً طوال الوقت، نهض ثم خرج إلى الشارع.
بدَت له سنوات السبعين ألطف مما كان يعتقد، الأطفال يلعبون بالخارج، وهذه جارته الجميلة التي كان يراقبها منذ أول مرة سافر فيها عبر الزمن ، كانت تتجه بشعرها الذهبي نحوه بإبتسامة جميلة قائلة "صباح الخير أيها الجار".
دق قلبه بقوة مع كُل حركة تتقدم بِها نحوه أمعن النظر بِجمالها فقد فتنته أيّما فتنة، أجاب "صباح الخير".
كانت نظراتها تُربك قلبه فَيشعر أنهُ يريد أن يختبىء من شدة خجله، لاحظَت فيه الإرتباك وعذرته، بدا لها مِن شكله أنه إنطوائي ولا تربطه علاقة بإمرأة، لكن ملابسه بدت غريبة بعض الشيء، فلا يوجد في زمن السبعينات أحد يرتدي الملابس بهذا الأسلوب، لكنه لم يقِل وسامة وجاذبية، بل على العكس كل مابِه بدا رائعاً ومُرتباً بتفاصيلِه. "مررتُ من هنا وقلت في نفسي أن أُلقي التحية على جارنا الجديد" قالتها بإبتسامة ساحرة.
أشاح نظره إليها بإبتسامة حزينة وقال "أنا هُنا زائر فقط". تمنّى لو أن الزمن يقِف هنا، لكن مهما بدا حُبه للسبعينات كبيراً، يبقى إنتمائِه للألفيتين، ودّ لو أنه لم يولد في زمانه، لو أنهُ يبقى بين يديّها أكثر، لكن لا هذا أمر مفروغ منه.

سفر عبر القلم.حيث تعيش القصص. اكتشف الآن