الفصلُ الثاني عشر

196 16 21
                                    

أسفل الظلام حيثُ يقبع في مكانِه ساكِناً تُغطيه ذراتٌ من الغبار و تُعانِقه شباكُ العناكِب، وحيدٌ مهجوراً منذ زمنٍ طويل، نُسيَّ أو بالأحرى تناسى وجوده، وُضِعَ أسفل هامشِ الذكريات، يتجنبه حتى في أبسطِ الأفعال، مرت عليه الأيام حتى أصبح عليلَّ الزمن، أنهكهُ الوقتُ و إرتخت أجزاءه و حوافه، كأنه مُتحفٌ أقلُ ما يُقال عنه بالي..
.

كان قد نسيَّ أين وضعه بحث عنه في جميع الأدراج وفوق الرفوف، حتى بين فراغات الكتب، توجه إلى مضجعة إلى حيثُ تهاجمه الأفكار قبل المنام، حيث يولد ذلك الخوف من حِلكة الليل وصمته..
.

إنحنى على رُكبتيّه، أخرجه بعد أن عبث باحثاً عنه بيده الطويلة، كان في الركن المظلم حيثُ صمتُ الزمن، أخرجه ونفض عنه بقايا النسيان، فتحهُ بحذر خوفاً عليه من الإنكسار، كان مليئاً بالماضي، رائحةٌ فاضت منه إلى ذكرياته وبدأت بالعبثِ بها، تماسك وأكمل البحث عن تلكَ الـقلادة القديمة، قِلادةٌ عاشت سنين وسنين، ولكنها وضعت في رف الذكريات حينَ أصابَ القلب السعيد ذلك الحزن العميق..
.

قلادةٌ تحتضن بين طياتها صورةٌ من ذكرى الماضي، فتاةٌ يفيضُ جمالها النابض كـالشلال بعد هطول أمطارٍ غزيرة، رؤيتها أعادت ذلك الألم إلى قلبه، ألمٌ حاول نسيانه رغمَ كلُ محاولاتِه لا يزال قلبه ينبض حُباً لها رغمَ ذلك الغياب الطويل..
.

حبٌ فَرقت أطرافه صواريخ الحرب، حبٌ إبتدأ منذُ القديم حين أحسَ بها قلبه، بأنها هي المُراد، حبٌ تلقى العديد من الصفعات في أوجِ مجدِه..
.

رغم كلُ تلك العوائق إلتقى الأحِبة قبل أن يُضنيهم الفُراق مجدداً، فراقٌ حلَ فجأة حينَ عُثرَ عليهم، تخبطوا كثيراً في محاولةٍ للإلتقاء ولكنهم فشلوا، فشلوا ولم يبقى للأمل مكانٌ يشرفُ عليه..
.

لم يسمع عنها بعد أن غادر، لم تسمع عنه حينَ غادرت، كانت القلوب متصلة ولكن قلبها ضعف، كل يومٍ يبقى فيه بعيداً عن حبيبه يُهلِكُه الألم، كلُ ما حاولت فِعله حينَ علمت ألا مفر من آخر الفُراق، كتبت إليه، رسالةٌ حروفُ كلماتها تتنافرُ في حزنٍ وتلتقي في نهاية مودعة..
.

لم يعلم بأمرِها إلا بعد حين...
كانت كلُ حياته، فقد كانت هيَ من تحتويه حين إنتفض قلبه فزعاً من الحال التي آل إليها، لم تكن مجرد إمرأةٍ أحبها قلبه، كانت أنفاسه، كانت نبضات قلبه، سيالاتُه العصبية، كل ما هو جميل في هذه الدُنيا.. كـإبتسامة الأطفال كانت..
.

لم يعلم في ذلك الوقت أنها تركتُه للأبد إلا بسبب ذلك الوسيط، وسيطٌ نقل إليه آخر أخبارها، آخر كلماتٍ كتبتها، كان سعيداً حين رأه منكسراً ذليلاً، إعتزلَ الجميع حينئذٍ، أقنع نفسه بترك الماضي ومحاولةِ العيش مع بقايا قلبه..

.

نامَ في تلك الليلة مشحون الأفكار، صدئ القلب، دامع العينين، عليلَّ النفس، غائصَ الفِكر، كانت من أسوء ليالي عُمره، قضاها وكأنه في إنتظار الموت، عزم على السؤال، عزم على سؤالِ سُـهـيـل عن تلك الطفلة، أراد التمسك بمن تشبِهُها في التفكير، شعر وكأنها ولِدت من جديد حين عثر عليها، هو بالفعل لم يعلم ما أسمها إلى هذه اللحظة.. مسكينٌ يرقُ القلبُ لـحاله..
.

مضت ساعاتُ الليل وأتى النهار بأملٍ جديد، أملٌ قد أشرق فيه بعد غروبٍ دامَ أكثرَ مِن عشرةِ أعوام، نهضَ قلبه وكأنه يُخبره بأن نهايةَ الأحزان قد حانت، لا يعلم لمَ ولكنه يعلم بأنه مليءٌ بذلك الأمل اللذيذ، شعر وكأن روحه تتنفس وتنتعش، عروقه تضخ الحياة إلى جسده، وكأنه مُقبِلٌ على لِقائها..
هكذا شَعر!
.

لم يُكلِف نفسه عناء إختيار ما هو مناسب للقاء الغير معلوم، فقط إرتدى ما هو مُريح ومضى قافزاً إلى خُطى دربه والسعادةُ تجتاحُه، إبتسامتُه مليءٌ بالحياة، مليءٌ بالعديد والعديد من كلمات الإمتنان...
.

قاد وقاد في دربه، بحث وبحث عن ذلك العزيز المُبشر _ كـما لَقبه _..
حينَ لم يجده قرر البقاء في مكتبه وإنتظار مجيئه إليه بعد أن تحدث مع الطُلاب بأن يجعلوه يأتي إليه حين يصل..
.

لا أحد.. لا أحدَ يُنكر تلك الهالة من السعادة، كـقوسِ مطرٍ يحيطُ بذلك البروفيسور، تعالت التساؤلات من حوله...
- أ أعثر على كنزٍ ما!؟
- سعادةٌ غريبة كـالفلوز بـمليونِ دولارٍ فجأة!!
- وكأنه إلتقى بحبيبٍ غابَ أمدً وعاد!

وكأن المال والحب سر السعادة في هذه الدنيا...
هكذا هم البشر!..
يفسرون مالا يستطيعون فهمه دونَ معطياتٍ ولا بُرهان..
من هُنا تُولد الإشاعات.. و رُبـما تكون بعض من أطراف الحقائق.. رُبـما! رُبـما!
.

يدور.. و يدور بكرسيه حول نفسه، كـالأرض حول مدارِها، تتقافز قدماه راكلةً للهواء بينما ينتظر وينتظر..
.

توجه لـمحاضراتِه، ألقاها وقلبُه مشغول، كان يشعر بالغرابة، لم يأتي!
لم يأتي من إنتظره طويلاً، تأخر عن المُعتاد، سأل عنه جميع من يعرفه، نفس الإجابة تُلقى على مسمعيّه..
- لـم نـره الـيـوم!
- لـم يـأتـي! هـو غـائـب...
.

تغير الطقسُ فجأة، عاصفةٌ هجمت على تلك الحقول المشرقة، إختبأت الشمس وراء الغيوم، تسترت عن الأنظار، تغير حالهُ فجأةً..
إختفت الإبتسامة وظهر العبوس، تلاشى تلألؤ حدقتيّه، خيم الشُحوب عليه، وكأنه أصاب بعدوةٍ مرضية..
.

لعلَّ عيناً أصابته!!.. رُبـما لم يكن عليه أن يُفرط من جرعاتِ السعادةِ والأمل، كان عليه تأخبأتَها..
كان عليه الصبر إلى حين أن يأتي السبب لذلك، تعجل كثيراً وها هو الآن خائبٌ يعتليه اليأس..
.

« تأنى.. تأنى في السعادةِ ولا تتعجل قدومها فـفي التأني السلامة وفي العجلةِ الندامة »

.
.
.
.
.
.
.
.
.
.
_________________________________________
...يُتبع

| حينَ يختفي الشفق | { مُكتَمِلة } ✔حيث تعيش القصص. اكتشف الآن