•الفصل الأوّل•

143 12 3
                                    

تونس: سيدي بوزيد
الأربعاء 15 ديسمبر 2010

يسير بصخبهِ المعتاد بين أزقةٍ قد ألفتهُ و ألفها. يجر عربةَ الخضار والفواكه -التي تمثل لرزقه الوحيد- بصعوبةٍ بالغة بإتجاه السوق و ذلك بسبب تعثرها بين الفينة والأخرى بحفرة جديدة كانت قد انتشرت بالطريق كانتشار الألغام بحقولها. أما دوي عجلاتها الحديدية فقد أرسلت -كالعادة- أصواتا مزعجة تخنقه كلما سمعها. فلو كانت ملك غيره لتعود عليها، إلا أنه لم يكن كغيره يوما!

يتقدم بإعياء ليحتل ركنهُ المعتاد بجانب الطريق و يشرع فورا بعمله.
"خضار، خضار..للمحتاج وغير المحتاج"
"هنا خضار طازجة، هنا خضار ندية"

ثم يسرع بمسحِ قطرات العرق المتكللة على جبينهِ شديد السمرة بكمّه الأيسر و باليد اليمنى يرش المياه على الخضراواتِ أمامه علّها تحافظ على بريقها و نضارتها لجذب المشترين. ليعود بعد ذلك لندائاته الضائعة بين ضجيج السوق و صخب العربات المارة بسبب الاكتضاض.

"كيف حالك اليوم يا مثقفنا العزيز؟" همس بصوته الحاد بجانبه ليزيد ذلك من ضيقه.

"امازلت تسخر مني لأني لم أنهي الدراسة مثلك يا محمود؟ أترى نفسك أفضل مني؟ لا تنسى أن حضرتك تعمل مثلي رغم تحصّلك على شهائد لم تنفعك."

لم يستطع الآخر الرد عليه لما خالجه من حرج منه، ففي النهاية لم تنفعه شهائده العليا بشيء!

حاول هذا الأخير تلطيف الجو المتشنج بينهما، لكنه لم يجد شيئا يقال. فاكتفى بمراقبته بصمت و هو يرى محاولات هذا الآخر الفاشلة بإستمالة المارة للشراء من عنده.

لقد كان متوسط الطول يمتلك من الوسامة ما تكفيه. ذو شعر خفيف مموج أسود كسواد ليلة شتوية. حاجبان غليظان و عينان ضيقتان سوداء كحبة الزيتون. أنف مقعر و ثغر صغير. بشرة خفيفة السمرة و بعض التجاعيد -رغم صغر سنه- التي رسمت بدقة حول عينيه.

فقد كان ينحدر (محمد البوعزيزي) من أسرة متكونة من تسعة أفراد و أحدهم معاق. عمل والده بليبيا ليتوفى بعد ذلك عندما بلغ هو سنّ الثلاث سنوات: لتتزوج أمه بعمه بعد ذلك والذي مرض واضطر لملازمة الفراش، مما أدى ذلك لخروج (البوعزيزي) للعمل عندما كان عمره عشر سنوات فقط و ترك مقاعد الدراسة مجبرا.
إذ عانت عائلته من الفقر المدقع و أحوال مادية صعبة حاول ترميمها بعمله كبائع للخضار والفواكه في شوارع سيدي بوزيد.
فهل كان الفقر خيارا يوما؟

"خضار خضار، للمحتاج وغير المحتاج" ردد مجددا و مجددا بصوت ضاع صداه في زحمة السوق.

"مرحبا يا ولدي، بكم هذا الليمون؟"
تكلمت سيدة خمسينية بلكنة ريفية واضحة و بتلعثم شديد بسبب فقدانها لبعض أسنانها.

"بدينارين و نصف يا سيدتي"
أجابها بهدوء راجيا بسره أن تشتري من عنده، فهو لم يحقق اليوم سوى بضع دنانير لا تكفيه لشراء عشاء الليلة.

"ماذا! ما كل هذا الغلاء، ألا تقدرون حال المسكين اليوم؟ أتركه عندك، لم أعد أرغب به"
أردفت بتفاجئ مبالغ لم يجد له تفسيرا.

ثم رحلت من أمامه باستعجال واضح ليتفحصها هو مستغربا، لما كل هذه البلبلة؟ أصار الدينارين و نصف اليوم من الصعب دفعهما، أليس هو محتاجا مثلها؟

شُعلة ُالحريَّةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن