انتشال

51 3 25
                                    

تمرُ الدهورُ طائعةً بينَ طرفةِ عينٍ والتفاتة ، كعرافةٍ عجوزٍ تجلسُ بينَ يدي إلهامها ، كانت مُضيفتي تجلسُ في صمتٍ تتأمل العابرين الجُلسَ والسائرين ، وعلى شفتيها طيفُ امتنانٍ ، تلمستُ التماعةَ شكرٍ في لمعانِ حدقتيها الخضراوين ، كما لو كانتا قد اجتُلبتا من عبقٍ نبتةٍ استوائيةٍ شديدةِ الإختباء !. كنتُ أشعرُ بمدى البعدِ الذي انعكست عليه هذه السنونِ في محياها ، مشيتها ، صوتها العذبُ الذي يذكرني بأجراس الصلاة ، أبدت ردة فعلها هذه بعدَ كلامي عن الوحدة في اللامكان ، كنتُ أقلبُ قهوتي ممازحةً وقتما أخذت تسمعني وتُمارس طقسها المعهودَ في التأمل ، كما لو كانت كل كلمةٍ تدقُ على وترٍ وتمحو خطيئةً رسمها زمانُ العتمة.

تقدمت بغتةً فتاةُ  بلونِ شعرٍ يشبهُ الغروب أخاذ في طولهِ وانثنائه ، تقودُ موكبًا عازفًا، اليد اليسرى تحطُ على الخصرِ منتشيةً في لمحة ثقةٍ وتعالي تُماشي الجبينَ والذقنِ المرفوعين، بينما أختها اليمنى تُقبضُ عصًا ذهبية بعطفٍ يُماشي عزفَ الموكبِ الهادئ كانت وعلى خلافِ بقيةِ العازفين ترتدي لونَ داكنًا مائلًا للزرقة مُتقدمةً بعصاها ، همست هيَ ، بينما مازالت مُنتشيةً بتأملها ، أخبريني ألا تتذكرين شيئًا ؟، عصفَ بي ذهني بذكرياتٍ بعيدةٍ جدًا ، لكن لم ألتمس دفئًا يماثلُ هذا الدفء قبلًا ! ،همستُ بيني وبين نفسي قابضةً على معصمي لأعيدَ تحريكَ قهوتي بالأخرى ، أهو البعدُ مجددًا؟

وفي غفلةٍ سؤالي ، استرسلت ضحكاتها ، لتهمس "هل انتقلت لكِ شهيةُ تأملٍ انتِ أيضًا" ، ضحكتُ ولم أدرِ بما أجيب ،طالعتُ بقيةِ الموكبِ المتحركِ مستميلةً بجذعي مع اللحنِ الذي أعرفُ جيدًا أينَ منشأهُ، ولعل مصدرَ الألفةٍ هذا يكمنُ بصلتي بالعازف الأمِ لهذا اللحنِ، الأزرقُ الفاتحِ يُطوقُ الموكب ، بالآتهم الذهبيةِ  لم يكن هناكَ أي تجمهر كما كانَ يحدثُ منذُ زمنٍ بعيد، إلا أن تقليدَ الأطفالِ للعازفين متظاهرينَ بحملهم الآتهم الوهمية والسائرينَ بصفٍ مُنتظمٍ على الرصيفِ المجاور ، أشعرني برغبةِ الإنضمام.

جذب النادلُ أكوابَ قهوتنا من على المنضدةٍ لألمحَ المذكراتٍ الصفراءِ في حقيبتي ، شعرتُ برغبةٍ شديدة في الإختباء ومطالعتها ، لوحدي أنا ولحنُ الحبِ هذا لكن غنائها استلبني.

داخلي وهجُ قريب

أبعدَ من  فجرِ مضيء

و مسائاتٍ حُلم

يُنيرها صمتٌ مُهيب

شعرتُ برغبةٍ في النقرِ بأصابعي على الطاولة كما لو كانَ البيان، يشقُ مفاتحيهُ بينَ جنباتٍ الطاولة ، ضحكنا ، ردودُ فعلنا لم تتغير ، أغنيةُ المقهى القديمِ نفسها. حكايةُ السلمِ التي كانت تغنيها كلما استوحشت بنا برلين ، وكلما زارنا زائرٌ أو صلينا الحبَ على مغادرٍ. شعرتُ بخلجاتها بكيتُ كلَ من رحلوا قبلنا ، بما فيهمِ أيامنا. كنا نشعرُ في داخلنا أنَ لهذا اللحنَ صلةٌ بكلِ الأشياءِ العميقةِ والقريبةِ من قلوبنا.

سوناتا الضياعحيث تعيش القصص. اكتشف الآن