"أوه، فلتنظر إلى ما فعلت، صغيري" تحدث العالم حين وقف و في صوته بحة، كمن يكتم ضحكة إجتاحته. مهد شعره شبيه الأسلاك هذا إلى الوراء مبعداً إلياه عن وجهه، ثم إنحنى ليمسك ما جعل سابي يتصلب في زاوية من زوايا الغرفة في فزع و ذهول: رأس آدمي منسلخ عنه الجلد في مناطق، و مناطق أخرى متعفن متورم. يأخذ لهثات متتالية قصيرة جعلته يتحرك حركة دائرية بسيطة على الأرض. ينظر إلى سابي بعينين زرقاوين جاحظتين لا جفن عليهما لم يعترهما التحلل بنظرات مبهمة، حيوانية. هذه المرة الثانية التي يرى فيها سابين رأساً منفصلاً عن جسده، لكن ما يعتبر المرة الأولى له هو رؤيته كيف يبدو الجسد البشري في مرحلة التحلل! أشاح نظره عنه ليساره بإشمئزاز طغى عليه، و وصل إلى معدته التي تقلبت جاعلةً منه أن يقيئ هواء لفراغها من أي شيء .
الحياة كانت من الواضح دابةً في هذا الرأس رغم تعفنه، ما يغذيه بها كما بدى لسابي كان مغروزاً في قفى جمجته؛ خصلات شعر العالم . الجلد الذي بقى متصلاً يبدو كورق في متانته و مطاط في مظهره أظهر حلقة تجعد حول كل خصلة من خصلات الرجل كلما دفعها للداخل. ".. يجب أن نعدل هذا الإنبوب قبل أن ينزف حتى الموت! " تحدث العالم شبه متألم بنفس نبرة صوته الضاحكة، و هو يضغط خصلات شعره بقوة في مؤخرة الرأس. سابي رأى حين أبعد يده عن صد مرآه، كانت نهاية خصلة شعره، أو 'الإنبوب' كما سماها العالم تقطر لونا أحمر قانت، رآئحته الحديدية عرفّت ما هيته لسابي؛ دم. ذهول أضاف نفسه على ذهوله، هل يعقل أن ذالك الرجل يغذي ذاك الرأس المتعفن من .. دمه؟!
ببطء تسللت يدا سابي المرتجفة ممتدة من وراؤه متلمسة الجدار ليعثر على باب يخرجه من هذا الكابوس بينما ضلت عيناه ملتصقة بالرجل. تراجع خطوتان فقط قبل أن يتعثر بمسندٍ للأقدام.
العالم إنتبه عليه، رمى الرأس كالكرة ليدخل في قبعته، جاراً معه أجزاء من شعره، حشى البقية سريعاً ثم وازن تلك القبعة العملاقة على رأسه. إمتدت إبتسامة مشكوكٌ أمرها على وجهه حين أبصر سابي يتذبذب من مكان لآخر كهرة مرتعبة يتلمس الأبواب و النوافذ التي يصادفها. سابين أصبح صوت لهثاته المرتعبة مسموعاً. كلما سحب مقبضاً أو كشف ستار نافذة؛ أما ينكسر المقبض في يده و يظهر مكان المقبض جدار- أي ان هذا الباب ليس أكثر من زينة، أو لا يجد وراء الستار إلا رسمة نافذة، مثبت عليها مصباح ليتهئ للناظر ان النور نور شمس.
اقترب ظل العالم من ورآؤه ليغمره ببطء خطاه نحو سابي. إلتفت سابي ليقابله بوجه تملأه علامات دهشةٍ من إستدراك بنية هذا المكان، ليس فيه مخرج و لا فتحة لينساب عبرها الضوء. و تخطيط الجدران ليس بزاوايا بل تام الإستدارة، و جدرانه عالية يصعب رؤية سقفها من الظلمة. أي ما أشبه أن يكونا داخل برج.
اقترب العالم ضاماً يداه وراء ظهره، وقع خطواته يكاد أن لا يسمع، لولا الأرضية التي تصر تحت قدميه و نقر كعب حذاءه. في خفت إضاءة المكان، ما وقع من الضوء على وجهه شكل بظلاله أنعكافات إبتسامة عريضة، واثقة، ساخرة من محاولات سابي العقيمة للهروب. في طريقة إلتقط حقيبة سابي التي ألقاها من دون أن يزحزح نظره عنه. سابي، حوصر بين كنبة و درج عريض يملأه الرعب. ركبتاه العارية تنتفض في برد أم عجز عن إبقآءه واقفا، سابي لم يعلم، لكنها خانته ليقع على الأرض أمامه. إنحنى الرجل ماداً الحقيبة له بحركة خاطفة. سابي جفل متوقعا أنه سيضربه بها "... نسيت شيئاً؟ " همس العالم بصوت حاد ملاعباً سابي ، سابي أراد أن ينطق بأي شيء، لكن حلقة الجاف لم يصدر سوى نشيجاً أدمعت عيناه معه. "... لا أريده، خذه، فقط دعني أخرج، سيدي.. أرجوك!" إنمحت الإبتسامة كلياً عن وجه العالم كما لو أن الجواب خيب ظنه.