-
-
-
( الفصل الأول )
الجُزء الثالث
" بَلِ الْإِنسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ "
.
.
لأن السؤال وسواسٌ والإجابة ترجيح
ولأن ميلك لـ ظنٍ ما إرتباك , ونيل الظنِ منك إرتياب
أقدمت على ماحثتني عليه نفسي بإلحاح ودفعتني إليه بعزم .
منذ واقعة ذهاب تيجان إبنة صفوان ويوم إيابها وبعد ما صرّحت به "سِدره" أختها وأنا تتلاطمُ في خُلدي الهواجس , وتملأ عقلي الوساوس , فأحالت صفو ذهني عكيرًا متكدرًا من قلق الحيرة لم يصفى , وعينًا ساهرة من أرقِ السُهاد لم تغفى .
ماكنت لأفعل كما فعلت "نجمه" , إنها لسذاجة أن أتقصى حقيقة أمرٍ بالسؤال المباشر عنه , قد سقط حينها معنى الكلمة للتقصي , المعنى الذي يفضي إلى التنقيب والتتبّع والتعقّب .
وهو مافعلتُ أنا وخادمتي التي كلّفتُها بمراقبة بهاء الدين وغرفته , لأرى إذاً كيف تَلِج تلك الصغيرة العابثة إليها وكيف تخرجُ منها .
خادماتي اللاتي نصّت بنود العلاقة بيننا قبل أن تقوم بأن تُبنى على الوفاء والصدقِ والأمانه في مٌقابل إحسانٍ منّي عليهن وتواضعٌ معهن وليونة في معاملتهن ورفقٌ بهن ورأفة ورحمة بحالهن , فأقسموا على خدمتي باستقامة وإخلاصٍ وتفاني دون سؤالٍ عن الأمر ودون تردد أو تحيّر أو حتى تخوّف بعيونٍ معمّاه ونفسٍ سعيدة منبسطة الأسارير وراضيه , لم أتعالى يومًا على إحداهن أو انتقص مثقال ذرة من شأنهن ولكني في ذات الوقت كنتُ قد فرّقت بين أن أكون السيدة وإحداهن هي الخادمة .
كنتُ كما قال عبدالغفّار الأخرس:
ذو رأفة في العالمين وشدة ٍ *** تومي لعاتية الأمور فتخضع
وكما كان قد خُصص لكل سيدة بأبناءها طابقٌ خاص من القصر كان أيضًا قد جُيش لها نفرُ من الخدم تعينًوا لخدمتها والقيام على شؤونها .
وعلى السيّدة أن تُتلو عليهن أوامرها وبنود عقد العمل معها وتقودهن إلى تكليفهن وتعلمهن مايجوز في الطابق الخاص بها وتُلزمهن به والتأكيد على مايُحرّم عليهن ويُنهين عنـه .
إنها واحدة من خادماتي اللاتي ينصعن إليّ طيعّاتٍ منقادات بامتثال ٍ للأمرِ وإذعان , قد لزمت تلك الخادمة الطابق الثالث الخاص بـ "نجمه" زوجة فاروق الثانيه وأم الرجال الثلاث بهاء الدين وضياء وزين .
لم تكن تلك المهمّة عسيرة عصيّة عليها , لم أكترث لكيفية قيامها بها وإنجازها , بالطبع كانت هي لتتصرف من تلقاء نفسها دون أن أبذل معها أي عناءٍ أو مشقّة لتتم هي ما رغِبت أنا به بأبهى صورة وعلى أتمّ وجه .
إنها أول فكرة أتت طارئة لعقلي لم أتنبأ بفاعليتها أو أتكهن بمدى الجدوى منها وإلى ماذا ستفضي بالنهاية , بل كان العكس هو ماستقر بخاطري بأن تعود خادمتي منكصة على عقبها خائبة دون أن ترى شيئًا أو تعلم , إن أيّ أبلهٍ ساذج لايمكن أن يُقدِم ويغامر بالتمادي في غمار هذا الأمر المُخزي بعد تلك الفضيحة المُذِلّه, ماكان بهاء الدين ليُثنيها وخصوصًا بعد شِجاره المحُتدم بينه وبين أمّه والذي إحتشد وتجمهر على إثره كل من ببيت فاروق وأنا منهم , وماكانت سِدره هي الأخرى لتُعيدها في مثل هذا الوقت الواقِدُ المُستعر , ويالعجب الأمر وغرابة القدر وسخاء الحظ الذي بدلاً من أن يؤكد مصداقية قول سِدره فقط , قد أبان وعرّى حقائق أخرى لـ علائق لم تكن لتتبدّى ..
إحداها لـ "سـلا " إبنة عابد والأخرى لواحدة من الخدم !
استدعيتها فأجابتني .
أجلستها بتمهلٍ وتأني وأخذت أتلمس شعرها البنيّ بيمناي بينما يسراي كانت مستقرة أسفل ذقنها أرفعه حتى تراني وإذ بها تنظرني بخوفٍ بادي احتويته بإبتسامتي المُطمئنة وأنا أومئ لها وأهمس: لآتخافـي ..
أردفت سريعًا بتوتر وعيناها متوسعّة بارتباكٍ تنظرني نافية عنها شبهة الخطأ أو التقصير: ماسويّت حاجه واللهـي
هكذا أعقبت مما زاد من إتساع إبتسامتي لأرتد عنها خطوة واحدة ثم أجاورها جلوسًا على الأريكة قد إعتلى كفي الأيمن الآخر الأيسر في جلسة مُتأدبة متواضعة أسألها: أدري لاتخافـي .. وش إسمك !
....: سمرآء
....: آمممم , حلـو إسمك
....: انا وش سويت ! مالي خصّ بالطابق الرابع واللهي ياست سجايا ما أخدم فيه
شددت فمي المطبق أبتسم لها اصطناعًا مردفة وعلى الفور: قولي لي أمي سجايا , حتى لو إنك من الخدم .. ما أحبّ وصف سِـت وستي هذا ياسمـرآ
كان جليًا بوجهها الصدمة , أرى انفغار فمها واتساع عينيها وثبات نظرتها المدهوشة كليًا لأؤكد لها ماقُلتُه بإيماءة رأسٍ إيجابيّه مستطرده: إيه يمّـه سمـرا , قوليها عادي ..
....: بس سِت نجمه ماتحبّ , أصلاً هذي أوامرها
مددت يسراي لرأسها حتى تداخلت أناملي بين خصلات شعرها البنيّ الناعم مردفة قولي: أنا مالي دخل بـ أم بهاء تأمرك تقولين لها ست نجمه أو لا , علميني الحين وش علاقتك بـ ابنها بهاء !
إنتفض جسدها ووقفت فزعة مرتدة للوراء , قد إمتلأ وجهها بالذعر واتسعت حدقتيها من الهلع بينما حافظت أنا على هدوئي وإنظباط إنفعالي وأكملت مستطردة وأنا أرفع ساقي اليمنى فوق الأخرى بتعجرفٍ واستكبار: لآتفزعـي , خلينا نحلّ هالموضوع بهدوء ياسمرآ وبدون لا تسمع فيه ستك نجمـه ..
....: ماسويت حاجه , واللهي .. واللهـي ماسويت
....: ياقلبي عارفه , إنتي كم عمرك توك صغيره واضح ! خمسطاعش !
....: سطاعش
....: إنتي من الجنوب صح !
....: جنوب شبه الجزيره إي .. اش سويت ياست سجايا ..!!
....: أمك سجايا ياعينـي
....: أمي .. أمي سجايا .. اش سويت !
....: شافتك وحده من خدمي الخاص وإنتي تدشين غرفة بهاء الدين إبن نجمه .. وغرف عيالنا مايدخلها بنات صغيرات وحلوات كذا مثلك .. وبعد تميتي بالغرفه ساعه إلا رُبـع .. ساعه إلا رُبع ياسمرآ وإنتي بداخل غرفة بهاء وبعد معك بهاء , مع العلم إن الأوامر حتى لو بنت صغيره أو حتى كبيره دخلت للتنظيف فهو يكون وقت فضا الغرفه وخلوها .. ولا ستك نجمه ماعطتكم هالأوامر بالطابق حقها تحت ؟!
كانت صغيرة بلهاء سفيهة لم تقوَ على مجابهتي وتحمل مواجهتي , خرّت قواها في لحظة , رأيتها تتهاوى على الأرض وقد سال دمعها تضم راحتيها أمام صدرها متوسلة عفوي وصفحي تنشدني الستر وتلتمس العفو فلم يبقى لي بُدّ من بعد ضراوة المواجهة إلا إلى رخاوة المطاوعة مبدلة تلك الشراسة إلى اللطافة , أحث نفسي أن أتراخى قليلاً وأظهر جانب الرفق والليونة من بعد الغلظة والخشونة , فوقفت من بعد زهـوِ جلوسي واقتربت منها و نزلت على ركبتاي أمامها واحتضنت رأسها داخل صدري أُمسّد عليه ويد أخرى تطبطب عليها: آششش خلاص عيني , مافيه شيّ .. لاتبكين ياقلبي .. أنا واجهتك لمصلحتك
....: واللهــي ما أعيدها , واللهـــــي , الله يخليكي استري عليّـا ياست سجايا , واللهي ما أعيدهـا
....: كم مرّه سويتيها ياسمـرآ !
أبعدت رأسها عن صدري ورأيتها تعتصر بكلا يديها بطنها والحسرة تأكلها , أسرّت بصوت مخنوق مكتوم يملئه شعور الذنب والحسرة: أنا حـــامــل
شهِقتُ ذاهله ..
لقد فرّ مني هذا الإنفعال ولم أقوَ على كبته كما اعتدت , كان إنفعال الذهول والصدمه , صاعقة هبطت فوق رأسي .. أخرست لساني لا أعلم بماذا أعقب على هذا الخبر الصادم بقيت صامتة للحظاتٍ قبل أن أسألها بنبرة مترددة مخنوقة الصوت لم أعي بعد ماسمعته للتوّ: من بهـــاء !!
....: طلبته يهربنـي برا القصـر , أبي أرجع الديره .. أنا بالشهر الرابع , عمري سطاعش , بنفضح هينـا بين الخدم ..
ضاقت عيناي تفكرًا حثيثًا نَمِل قبل أن أقف على قدماي شامخة مُتعالية .. لآ يُمكن لأي تخطيطٍ بشري فائق العبقرية والذكاء أن يُصيب أهدافه في مرمى الخصم كما يفعل القدر , ولطالما كان قدري سخيًا معي حتى هذه اللحظه .
وليّتها ظهري مستمعة لنشيجها المرير المُتحسّر , إنها صغيرة بعد , جاهلـة , مُغتربة عن أهلها , أنّى لبهاء الدين أن يفعل بها تلك الأفاعيل .
يبدو أنه شاذ آخر قد تبدّى في مملكة آل الدين , إنه مهووس بالصغيرات اليافعات , سمـراء الخادمـه ذات الستة عشر عامًا , وسِدره إبنة عمّه صفوان ذات الثلاثة عشر وسـلا إبنة عابد ذات السبعة عشر , يالهكذا فُسقٌ وإنحلال .
سِدره الصغيرة الماجنة هي من أفصحت عن تلك العلاقة الفاحشة وعلى الملأ دون أي إحتراز .. إنها حتى لم تعبأ بعواقب ماستجره لا مبالاتها تلك عليها من ويحٍ يُشقي وويل يُهلك . بقي سِرًا علاقتا سمراء وسـلا . تُرى ما رد فِعل "سلآ" على فعل بهاء وهي كانت من حضور مجلس نساء آل الدين يوم أن جهرت سِدره بما جهرت به , كانت قد رأتها خادمتي هي الأخرى صباح اليوم وقد دلفت غرفة بهاء ومكثت فيها مايقرب النصف ساعه وهو ما أفجعني بها حتى أني لم أهضم حقيقة هذا الأمر حتى هذه اللحظة إلا أني لم أشأ أن أتمادى في مايجول بذهني ويرتسم بخيالي إذ أن بهاء الدين لم يكن موجودًا وقتها بغرفته , كانت الغرفة خالية إلا من وجود "سـلا" على مدى النصف ساعه إلى أن غادرتها , يالهذا الإنحلال الساري في مملكة آل الدين , لقد طال الفُحش نساءنا وإنها لمصيبة قارعة وفجيعة فادحة !
لابُدّ لي من مواجهة سـلا هي الأخرى على وجه السُرعة وقبل أن تغيب شمس اليـوم .
أتراه بهاء قد فض عن بنات عمومته بكارتهن وأحالهن ثيبّاتٍ تأهلّوا ! يا إلهي إنها لطامـة كُبرى , كيف سيجابه شرف الدين الأكبر كارثة كهذه وقد أجرم ابن من أبناء فاروق بـ بنت من بنات صفوان والأخرى ابنة لـ عابد .. إنه ليغدو صراع الأخوّه الأشقاء فاروق وعابد وصفوان .
أمسكت رأسي مستشعرة الدوار من مجرد التفكير في هكذا كارثة وماستُعقِبه علينا من دمارٍ وخراب .
كلمتها دون أنظر وجهها وقد ربطت ساعداي فوق صدري أنظر أربعة من الأطر فوق منضدة بغرفتي قد احتوت أربعًا من صور أولادي .. صفيّ الدين وتقيّ وشمس وبـدر .
إنها فًرصة قلما تسنح , إنها ذهبيّة لا تفوّت , وبالتأكيد هي ورقة رابحة في جيبي ولقمة غليظة ستقف عالقة في حلوق كل من تبجّح يومًا على إبني . انها اثبات فحولة لكل من طعن في حق تلك الرجولة .
إرتفع حاجبي بدهاء وابتسامة شفيفة بدا طيفها في وجهي وأنا أنظر الإطار الخاص بصورة بـدر الدين , يالإبتسامته الفاتنة النقيّة تلك , عقدت النيّة أن أخوض في غمار هذه الفكرة الشيطانيّة وفورًا جهرت بها على صيغة سؤال استدرجها به: تبين تردين ديرتك ياسمرآ !
إلتفتتُ لها بعد قولي لأفاجئ بها تقوم مندفعة وبعجلة مقتربة تجاهي بإنفعال تتوسلني بعيناها الخضراوان وتشد يداي على مقربة من ثغرها مقبلّة إياهم: الله يخليكــي أمي سجايـا , الله يخليكـي .. خليهم يطلعوني من القصـر
مسحت فوق رأسها أطمئنها: بس لو نجمه عرفت باللي صار مارح تغفرلك كذا بسهوله , إنتي تعرفين طباع ستك نجمه أكيد ..
....: كلميها إنتي الله يخليكي , والله ماكنت أعرف بيوصل الموضوع لهالحد وبكون حامـل , الحمل بيفضحني قريب
....: شلون أقولها لنجمه !! إبنك بهاء أخطآ مع وحده من الخدم والحين هي حامل بإبنه !
خرّت على الأرض تضم ساقاي ورأسها مسند فوق ركبتاي في هيئة إنهزامية مسترجية مستعطفة أسمع بكاءها الهادر فابتسمتُ ملئ شدقيّ وأنا أشهق نفسًا عميقًا زفرته بكل راحة الدنيا ثم أردفت: أنا بطلعك من القصر بس لازم سـبب , لآزم تكون هالمصيبه تخصني أنا ... وتخص إبني أنا , عشان يكون لي أنـا الحق بإني أتصرف معك
أطرقت لها رأسي فرأيتها تنظرني بعيون دامعة مُتشغيّة فهبطت لمستواها الأرضي جلوسًا أحتضن وجهها الجميل بيداي وأكمل همسًا: بدر الدين إبني هو إللي أخطا معـك , وهاللي ببطنك من بـدر , من بــدر مو بهـاء .. هذا هو الحل الوحيد , بدر إبني مايعارضني بشيّ ولا رح يتعرضلك بشيّ , ومصيبه زي كذا بدر الدين إبني هو السبب فيها أنا بيكون لي كل الحق إني أتصرف فيها .. ويوم يجيني ذا الحق , بطلعك برا القصـر من سكـات والله وكيلك وين ماتبين تروحين .......... موافقـــه !!
-
-
-
أنت تقرأ
رجال الدين
Romanceفِئة +21 - - - أنتم بصدد الدخول تحت جُنُح العوالم الخفيّة حيثُ لا أهميّة للزمان ولا جدوى من ذكر المكان .. إنكم أمام قصّة خيالية جديرة بأن تُروى .. قصّة حدثت وراء القُضبان حيث تقبع الأرواح حبيسة والأحلام مسفوحة ..