الجُزء الخامس

1.1K 21 10
                                    


-

-

-

( الفصل الأول )

الجُزء الخامس


" كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً "


.
.
المرءُ بعدَ الموتِ أُحدوثةٌ ... يَفنى وتبقَى مِنهُ آثارهُ
.
.



الحياة .. رحلة شاقة , الموت .. صالة وصول

يالهذه الحياة , غيرُ مُنصِفه , أم أنه الموت , عاسِفٌ غاشِم , أم أنها قسمة القدرِ الضيزى .
لم الموتُ بهذه الأنانيّة المُطلقه , لم يختار لنفسه كل ماهو طيبٌ صالحٌ نقيّ العِرض مستقيمًا عفيفًا .
لم لا يجتر تلك الروح العاصية , للظالم الطاغية , لم يسلبنا من هم شِفاء أرواحنا من السقم , وبلسم جِراحنا من العلل .

هذا الذي هو أشد من النشر بالمناشير وقرضٍ بالمقاريض وغليٍ بالقدور , أتراه كان رفيقًا وهو يسوقه لمثواه الأخير !

إنه اليوم العبوس القمطرير .
فيهِ صعدت الروح وطوي الكتاب !
كيف كانت لحظة السلبِ والإنتزاع !

أ كسفودٍ جُعِل في صوفٍ رطب ثم جذب ! أم كغصنٍ كثير الشوك أدخل في جوفه فأخذت كل شوكة بعرق ثم جذبه رجل شديد الجذب فأخذ ما أخذ وأبقى ما أبقى !

لقد سلبني قرّة عيني , ونورها وضوءها وضياءها .. ضياء الدين .
قدوتي المُثلى ومثلي الذي لاتستقيم حياتي إلا فوق الصراط الذي يمشي , وأخطو سواء السبيل أمينًا نزيهًا فوق الدرب الذي يسلك , وأنهل شريف الأخلاق قويمها من ذات المنهل الذي يغترف ويرتشف .

أشعر بجفاف حلقي , قد أودت بي تلك الشمس الحارقة المُسلطة فوق جبيني .
كما المُشرد الذليل , مطروحٌ أرضًا , ممدد الجسد خائر القوى أمام القصر خارج أسواره .
تحيط بي رمال الصحراء اللاهبة من كل ناح .

قد طلع عليّ شمسان وقمر وضياء الدُنيا بعيني كظلٍ من يحموم , مُدلهم مسودٌ شديد الظلام والحلكة .
أوشكت الشمس أن تغيب في الأفق .

لطالما كان الغياب دومًا مقترنًا بالحضور عدا غياب الموت , وحده قد اكتسب صفة الديمومة , هذا الذي تطوى به الصحيفة وتنغلق .

دموعي هادئة جدًا تنهمر , لا أهتز ولا أنتفض , لا أنشج ولا أنتحب . كنت فقط بصمتٍ وقورٍ أبكي .


بكيت كما لم أبكي يومًا في حياتي , حياتي الملأى بالدموع والأحزان , كان فقد ضياء هو أشدها وطأة وإحزان .

لقد حدثت فجيعة قلبي هذه وطامة كياني الكٌبرى قبل يومِ أمس قُبيل وقت العصر , كنت أذرع غرفة مكتبي داخل مقر عملي بانتظاره , إنه لم يتأخر يومًا واحدًا عن عمله حتى في أعتى الظروف وأشدها وطأة , لم أرى شخصًا منظبطًا مُلتزمًا هكذا مثله .

يومها فقط عزمت على إخباره بالحقيقة كاملة دون نقصان , لأخبره أني لم أرتكب فحشًا بحق تلك الخادمة , ليعلم أن بهاء الدين , شقيقه توأمه .. هو من أذنب وأنا من تحملّت خطئية الإثم , ولكني كنت تراجعت مترددًا إذ أن هذا الإعتراف سيجر وراءه المزيد من الإعترافات حتى تتعرّى الحقيقة كاملة , وإلا لما أزِر أنا وِزرَ بهاء !

دحضت التردد في نفسي وأقدمت على ألا يثنيني شيئ عن الإعتراف لضياء , بل على العكس تمامًا كنت قد أنّبت نفسي كثيرًا لكتماني كل هذه الأسرار عنه وهو صديقي الناصح الأمين , العاصم الصائن حافظ السرّ وفيّ الوعد صادق العهد . إني أثق به ثقة عمياء , ولعلّه يؤازرني منيرًا لي بضياءه سبيل الخروج من كل هذه الأزمات والمآزق . أو لا يفعل , يكفي فقط أن يحل عن عنقي حبل خصامه , ليسامحني ويصفح عني , لينظر داخل عيني ويبتسم لي , لأسمع صوته يحادثني , ليُكلمنّي , لغفر لي ويصافحني .


سوف أدفع ثمن هذا وإن كان من روحي , لا يُمكن أن أدع خصامه هذا لي يستمر لأكثر من هذا الحدّ المؤذي لجنان نفسي ووجدان فؤادي .

قارب مؤشر الساعة الثالثة عصرًا وضياء لم يأتي بعد , لقد فتك بي الإنتظار لم اعد اقوَ على الإحتمال ومماطلة الصبر , غدا هذا السرّ كالعبئ ثقيلاً وقتما عقدت نية كشفه , كل دقيقة تمرّ يصبح أثقل أستعسر كتمانه .

رفعت هاتفي ورُحت أهاتف شمس , على يقينٍ تام أن ضياء الدين لن يجيب اتصالي , فقط أردت التأكد اين هو ولما لم ياتِ حتى هذا الوقت إلى عمله .

شددت على هاتفي وقتما إنتهى رنين الهاتف دون استجابة من شمس فعاودت الإتصال حتى أتاني صوته , بدا هادئًا خفيضًا بخلاف ما اعتدته من شمس ذا الشخصية الحماسيّة الصاخبة ولكني لم أُعر هذا الأمر اهتمامًا فهتفت له مندفعًا: شمس بالله حاكي ضياء شوف وينه ليش تأخر , شوفه بغرفته ولا دق عليه ياشمس مدري بس شوف وينه , ضياء أول مره يسويها وأنا أبي أحاكيه بموضوع مهم

أجابني صمتٌ مٌطبق , تراءى لي إنقطاع شبكة الإتصال فلم يصل لشمس أيًا مما قُلته , فنظرت هاتفي مستغربًا ثم عاوت رفعه لأذني أستنطقه بهدوء متحيّر: شمـــس !!

....: بدر تعال البيت .
بدا الجمود سمة صوته , مذبوحًا باردًا لا روح فيه , وإني والله قد استشعرت أمرًا جللاً استقر بأحشائي فاضطربت ورحت أسأله بنبرة صوت قد اختنق خشية من السوء وعاقبة المضرّة: شمس وش صاير بالبيت !!

....: تعال يابدر ...... شوف ضياء

ارتكزت عيناي على نقطة وهمية في الفراغ , أنظرها هلعًا جمّدني برهة من الوقت قبل أن أنطق متلعثمًا بكلماتي: ضيـ .. ضياء .. علــ .. علامه !!

....: البقى براسك , عطاك عمره .



سقط هاتفي من يدي , لا أعلم هل تحولت بعد شاشته لشظايا زجاجية أم أنه مُتماسك حتى اللحظة , لم أعبئ .
كما الغائب عن الوعي بعينان مفتوحتان وأقدام يحركها شيئ خفي , كنت أسير مغضن الجبين مُتسع العينان الذاهلان ينظران المدى بنظرة حادة ذات صرامة من تأثير الصدمة وعدم الإستيعاب , كنت أسير ولا أرى , أسير ولا أسمع .

تداخلت برأسي أصوات عدّة من فريق العمل , منهم من نادى عليّ فتجاهلته ومنهم من استوقفني وشعر بعدها أنه غير مرئي وقتما تجاوزته .

سألني رجل الأمن الخاص بالشركة شيئًا لم أسمه , كنت خارج نطاق التركيز , أسير دون أن ترتفع قدماي عن الأرض , خُطاي ثقيلة , أشعر بأن جاذبية الأرض قد تضاعفت , تشدني إليها حد الالتصاق , قدماي لا أقوى على رفعهما .

دلفت سيارتي وانطلقت شريد الذهن دميع العين , متخطيًا كل الإشارات المرورية ولم أدري هل خالفت إحداها . لم أكن ابصر غير طريق الصحراء المفضي لقصور آل الدين خاصتنا .

إنها بالتأكيد كذبة من كذبات شمس , إنه أسلوبه الدنيئ لم يتغير , كثير الكذب بقصد المزاح , كان هكذا صغيرًا حتى لازمة هذا الطابع السيئ ولم يعد أيًا منّا يصدقه حتى وإن كان جادًا صادقًا , قد أصدق بفعله ولزامه عليه قول رسول الله , يظل الرجل يكذب حتى يكتب عند الله كذّابا .

ولكني والله ذو العزّة ياشمس إن كنت تكذّب فإني لن أسامحك , أنّى لك أن تكون نذير شؤمٍ على ضياء الحبيب بهذه الكذبة الوضيعة المُنحطّه ! ولكنّي والله أيضًا قد شعرتُ بشيئ من العجز أرداني واهن الإرادة منسحب الروح , شيئ بداخلي قد صدّق ماتفوّه به شمس ولأولِ مرّه .

رفعت عيناي للمراة أعلاي فوجدتني أبكي , بكيت دون أن أشعر .

بقيت باكيًا أمسح كل برهة دموعي بطرف الكُمّ لقميصي , لآ أدري لما الطريق قد تضاعفت مسافته , غدا طويلاً وكأن لا نهاية له , وكأنه السراب بعينه .

التزمت دموعي الصمت حتى صدحت أولى شهقاتي مُنطلقة , شهقة طال كبتها فتحررت جزعة , قويّة حادّة , آلمت أحبالي , إنهمرت من بعدها دموع الفجيعة دون هوادة .

إن بوابة قصرنا مفتوحة على مصراعيها , اقتحمتها دخولاً , ولكم هالني مشهد السيارات الكثيرة المصطفّه وبعضها قد دارت محركاته .

بجنونٍ وعدم سيطرة أوقفت سيارتي وترجلت منها دون أن أغلق بابها أركض تجاه أوّل من رأيت وكان أخي الأكبر "عِزّ الدين" , شددته من كمّ ثوبه أسأله بصوت مُختنق قبل أن يغيب الصوت غارقًا في دوّامة الإنهيار: وين ضياء ياعِـزّ ...

لم يُجبني غير رأسه المُنكسّ , أنستني هذه الفاجعة أن "عز الدين" أصمًا أبكمًا .
أشحت عنه سريعًا أرى زُمرة من إخوتي وأبناء عمومتي يخرجون جميعًا بُخطى رتيبة ثقيلة من بوّابة قصر أبي , بقيت شاخص البصر أنظرهم بذهولٍ وإرتياع حتى زاغ بصري دامعًا ذاهلاً مرتاعًا من هولِ ما رأيت .

لقد كان أبي وأخواي الأكبران عماد وصلاح يحملون جسدًا قد لفّه بياض القطن فوق أكتافهم العِراض فانهرت من وقوفي ضعيفًا خارت قواه متهالكًا أجثو فوق ركبتاي , لم تقو أقدامي على حمل جسدي الهزيل , سالت دموعي صامتة وارتعشت شفتاي , بقي ذقني يهتزّ . إنه ضياء الحبيب , هذا جسده , يحملونه مُكفّن . إن شمس لم يكذب . لا .. لابد أن يكذب , حري به أن يكذب , يكذب هذه المرّة فقط .

إنتفضت من عجزي أقف سريعًا راكضًا باتجاههم أشدّ عماد من جيب الصدر الجانبي لثوبه وأصيح به صارخًا باكيًا ومنهارًا: ضيـاء !! ذا ضيـاء !! بالله كذبونـي هذا ضياء !! نزلـوووه .. نزله ياعمـاد أبغى أشوووفـــه .. نزلــــوووه

حاوط "صفي الدين" شقيقي الأكبر كتفاي من وراء ظهري , يشدّ عليهم بمؤازة يحتوي إنفعالي ويهمس بأذني: ادعي له بالرحمه يابدر , مايجوز تبكي ياخوك

نفضت يداه عن كتفاي وأنا ألتفت عليه صارخًا قد تمكن مني إنهياري: لآ ببكــي , طول حياتي ببكيـــه , مــات !! مــات وهو مزاعلنـي , ماسامحنـي , شهرين مقاطعنـي خصام ولا يكلمنـي .. اليـوم ياصفـي .. اليوم كنت بعترف لـه , وكان بيسامحنـي .. تكفــى آآآآآ .. ياصفي

خرجت مني آخر كلمة استرجاءٍ يليها إسم شقيقي بصوتٍ كسيرٍ مُنهزّم , رقّ له فؤاد أخي وإنكسر , فأطرق رأسه بحزنٍ لا يعلم ماذا يقول فأشحت عنه أبكي لأبي , أتوسله وأسترجيه , قد غالب صوتي الوهن , أطبق الحزن على حنجرتي فلم يقوَ صوتي على الخروج فبقي عصيًا تحت وطأة الإختناق ثم صدح شجيًا يقطر أسىً ولوعة: يبـآآآ , نزله أرجـوك .. بشووفه يبـآآ .. بشوفه أترجاك تكفـى آآآآ

....: وخر يابـدر , خل نمر مايجـوز الله يرضى عليك

كان هذا صوت أخي الشيخ صلاح الدين , إنه يحمل ضياء من قدماه , هو وشقيق ضياء الأصغر , "زين الدين" الذي بدا منظبطًا أكثر من بهاء الذي كان مُسال العينان يبكي , فاضربت الأرض بقدميّ كطفلٍ عنيد رافضٍ ومتشبثٌ بمبتغاه إلى النهاية صائحًا بفظاظة وحِدّة: نزلــــووووه , نزلــو غصــب بشوفـــه .. يبـــآآآآآ

كنت أحادث أبي , وكان وجهي يتقطع من فرط الحزن وشِدّة البكاء .
تهاويت أرضًا محتضنًا ساقا أبي أتوسله بانهزام قد اعتراني الحزن وتلبسني الشجا: سألتلك بالله تنزلة يبــآآ ... بشوفه .. بضمه .. با أبوس عينـه .. تكفــى

أحسست بهذا الظهر الحاني , وتلك الرائحة التي أحب , إنه "شمس" , قد مال على ظهري بجسده محتضنًا إيّاي , يهمس بأذني وقد خرّ باكيًا هو الآخر , كان من شأن صوتي ورقتّه وهذا الشجن الأثيري المستضعف المنساب من ثغري أن يُذيب أقسى حجر , فكيف بهؤلاء القوم غلاظ القلب الجلاف .

....: ياشمـس .. أترجاك .. أبي أشوفه , حرام عليكـــــــــم يانــاااااااس هذا أخوي بعـــد .. نزلــــــــوووه

استلقيت على ظهري أرفس ساقا أبي بقدماي كطفلٍ لم يتجاوز عمر الخامسة بعد و يالحالتي تلك التي يُرثى لها .
أتاني صوت عِماد الحنون الهادئ وهو يحادث أبي: يبه خله يشوفه , تعرف شلون بدر متعلق فيه

....: الميت لا تكفّن ماينكشف , إمشـوا خل نوصل المدينه نصليّ عليه ويندفن .

يالقسوة ماقيل للتوّ , أشعر بأوردة قلبي وكأنها تُشد من طرفان مُتحديّان , أشعر بهذا الإحساس الموجع للتمزّق , لقد استقر الألم بحجرات قلبي وإخترقت الحسرة سويداءه , ماكان لشيئ أن يمزقني هكذا مثل مافعل جـدّي . لقد جهمني بما أكره .

إن كلماته مُتعبّة , متعبة حدّ الحُرقة ووحشة الغُمّة وغلظة الغُصّة .
بقيت أردد كلماته برأسي , - الميّت , تكفّن , يصلون عليه , ويُدفن - , ومن المقصود بكلّ هذا , إنه ضياء .

صرخت صرخة مُدوية بـ -لاءٍ- جزعة كما الهيعة أفزعت من حولي وأنا أرى أبي وعماد يحيدون عني خطواتهم فواريت بكفّاي وجهي وبقيت أصيح باكيًا بانهزام .

ظللتُ هكذا حتى شدّ شمس على كتفي وهمس لي بصوته الشحيح المختنق: قم يابدر , قم نلحقهم

....: راح وهو مزاعلنــي ياشمـــس , راح وقلبه عليّ غاضــب , شلون بعيش حياتي بدونه ياشمــس , ماقــــــــدر .. أبي أكلمه , أبطلبه يسامحني لايروح وهو عليّ متعصّي

....: مات يابــدر خلاص , مايسمع ولا يتكلم .. قـــــم صلي عليــه وادفنــه ..

استفقت من إعصار إنهزامي وانتصبت واقفًا , أنظر ظهورهم المحنيّة , لم أكن لأتركهم هكذا يرحلون .
مسحت بطرف قميصي مخاط أنفي وركضت أصيح بهم أن يتوقفوا , شددت ثوب صلاح الدين أرغمه على التوقف وتقدمته واقفًا أمام أبي أصرخ به وأهدد: والله ماتطلعــــــــون .. نزلـــــــــــوه باشـــــــــووفه .. نزلــــــــه يبــــــآآآآآ الله لا يبارك فيكـــــم نزلـــــــــووه

....: ولــــــــد , ماتحشم أحد إنت حتى وإنّا بهالوضع , وخر ترا إللي فينا كافينا ..

كان هذا عمّي "عابد" يصرخ بي شاتمًا وقاحة قولي وسوء أدبي فأوليته ظهري وأشحت عنه بصري مهرولاً خارج القصر فبقيت بوابتها الواسعة تلك حاجزًا بيننا يُمكن تخطيه بكل سهوله , وقفت أمامهم متحديًا أصيح بهم وأهدد: والله ماتطلعـون , إدعسونـي أوّل ومروا من فوقي .

هكذا قلتها وتمددت مجندل الجسد منطرح القامة أمام البوابة نائمًا على ظهري مُباعد الساقان والذراعان , بقيت هكذا حتى صاح أخي "تقـيّ الدين" معلنًا عن انهياره هو الآخر: وخر يابدر لاتزيدها علينـــا ياخي

لم أجبه , فقط كان باسطاعتي سماع حوقلة البعض واستغفار البعض الآخر حتى شعرت بالظل من فوقي , لقد حجب بوقوفه شعاع الشمس متعامدًا فوق جبيني , كان وحده "شرف الدين" ... جــدّي .

إلتقت عينانا , تشابكت أنظارنا , لن أنسى تلك النظرة ماحييت , لقد حطمنـي جحوده ذاك , بعثر أجزائي , وكأني من ذرّات قد تكونت والأن فقط تناثرت .

لقد أجاب مافرضته من تحدّي بالقبول , دهسنـي واندهس بجمود قلبه قلبي , ليس لذاك الألم الحسيّ من وصفٍ يكفله .
تعداني مارًا من فوقي , وكان هذا هو أمره الإجباري الذي فرضه لِزامًا على كل من ستتقلقل أقدامه من بعده , وما كان لمعشر آل الدين إلا الإنصياع على مضض .

انهرت وإنهار كياني كلّه , إني بلا قيمة الأن فقط , ماخلقتنا ياربنا لُترهق أرواحنا هكذا ونحنُ عيالك , مابال هذا الإحساس من الهزيمة يغمرني , مابال قلبي يعتصره الألم . إني من نفسي أتفكك , أتمزق , وأتقطع , وأموت .

عبر أبي من فوقي هو وعماد فهدأ نبض قلبي وإحتبست داخل رئتاي أنفاسي , ورأيت جسد ضياء يمر هو الآخر من فوقي , لقد غمرني الظل وشعرت ببرودة الزمهرير تلف جسدي , كانت لحظات خاطفة أحسست بها قرنًا من التوقِ ودهرًا من الإرتقاب .

من بعد برودة الصقيع هاهي حرارة الأجيج تذيب جليد جسدي من جديد , أشعر بالإنصهار , إن صلاح الدين الأخير هو و زيـن يمران أخيرًا من فوقي .

لم أنطق , لم أقوَ , لم أتحرك , بقيت ساكنًا محطمًا ومزججًا ولو أن ضياء الدين ذاته قد أفاق من سُباته وانفرج عنه غطاء نعشه , لما قويت على القيام واحتضانه .

بقيت أنظر الشمس أعلاي , لم تؤذني عيناي , قد كانت حرارتها الحارقة تلك عليّ بردًا وسلاما , لم أشعر بأي شيئ غير أن الهدوء يغمرني والسكينة تغشاني .

استشعرت حركة السيارت مُدركًا بأنها تمرّ من جانباي دون أن أقوى على إمالة عنقي والنظر إليها مغادرة , بقي نظري هكذا معلقًا بالسماء وفضاءها وقرص شمسها .

بقيت هكذا مذاك اليوم .... وحتى اللحظـة .



-
-
-


لم أغِب عن القصر سوى خمسة عشر يومًا وتلقيت بالأمس فقط خبرًا أليمًا حسبته فاجعًا قد جثم متربعًا على نفسي , فـ لبِد الحزن لصيقًا بقلبي .

لم يكن سواي وشقيقي "جـاد الدين" من لم يشاركوا رجال العائلة طقوس الدفن والجنازة , في الحقيقة كلانا لم يعلم بهذا الأمر سوى ليلة البارحة , وها أنا ذا موليًا جهتي شطر رُباعية القصر النائيـة .
سبقت "جـاد" إلى المشاركة بجائحة آل الدين وبقي عليه هو فقط تأجيل رحلات عمله أو إكفالها لمن ينوب عنه , لآ أعلم تحديدًا ما الإجراءات المُتخذة في شركة الطيران التي يعمل لديها "جاد" .

اوشكت الوصول , كنت اقود بسرعة متوسطة وهو الشيئ الذي خالف طبيعة قيادتي السريعة المتهورة , إن مأساة فقد ابن عمي ضياء الدين قد خلفّت أحزانها على قلوبنا فكانت نازلة ذات أخذٍ عزيز ووقعٍ مرير .


أرى البوابة مغلقة فهدأت من سرعتي تمامًا حتى يتسنى لحارس الأمن رؤيتي من خلال شاشة المُراقبة ولكني سُرعان ما اجتذب انتباهي هذه الكتلة المُلقاة تمددًا أمام القصر , حسبته حيوانًا بريًا قد لقي مصرعه ولكم ازداد تعجبي لهذا الخاطر إذ كان الحارس سيراه بكل تأكيد وسيسارع حينها بنقل جيفته . كلما اقتربت كلما ازداد طول قامة هذا الشيئ , كانت عيناي تضيقان بروية وعلى مهل وتباطئ حتى كادتا تنغلقان من شدة مارُحتُ أضيقهما حتى اتسعتا ولآخرهما في لحظة واحدة وقتما أدركت أنه جسدًا بشريًا صريعًا طريح الإسفلت مابين مقدمة سيارتي ومقدمة بوابة القصر ولكم هالني هذا المنظر وأرعبني أشد رعب فترجلت سريعًا من سيارتي وهرولت صوبه أشد جذعه حتى انقلب وجهه تجاهي فحملقت فيه مصدومًا مشدوهًا ومُتفاجئًا .. إنه صغيري بـدر .. بدر الدين .


تحسست جبينه المتعرق مستشعرًا إتقاد جسده الذي تأججت فيه الحمرة بسبب نصاعة بياض بشرته , عيناه منغلقة يبدو غائبًا عن الوعي , قد بانت عليه عوارض المرض والهزال , حاوط عينيه هالة داكنة من الظلمة وجفت شفتاه حتى انتفضت قشورهما , أراهما شفتان رقيقتان صغيرتان بيضاوان قد فقدا حمرتهما الورديّه .

ظللت ألطم خدّه أستنطقه بهمس محمومٍ مرتاعٍ ومتخوّف , أخشى عليه من شعاعٍ للشمس لاذع واخاف عليه من ريحٍ ليليٍّ صرد , كلها مشاعر قوية الحضور فقط في حضوره , لا أعلم مايعتريني أمام عينيه وبراءة ملامحه .

تجاهلت كل ماكان يثنيني طوال هذه المُدّة عن الإقتراب نحوه , ولكني بلا حول ولا قوّة وبدون أي إراده أراني أنجذب إليه كما لما أفعل تجاه أي شيئ آخر في كل حياتي .

شرعت في حمل جسده الضئيل على ساعداي لولا أن إندفعت تلك البوابة تنفرج عما توارى خلفها كاشفة عن ثلاث من القلاع , يخرج من خلالها أحد الحرّاس مسرعًا صارخًا عليّ ينهاني فعاودت إنزال بـدر بينما كانت عيناي تنظران هذا الحارس والآخر الذي يلحقة , يبدو جليًا على ملامح وجوههم شديدة الإسمرار أثر الفزع وشيئ من الاكفهرار الجَهِم فرحت أصيح بهم أنّى لهم أن يتركوه هكذا ملقًا على الأرض تحت هذه الأشعة الحارقة للهيب الشمس فوق رأسه , بما كانوا منشغلين حتى لم يتسنّى لهم رؤيته ملقًا هكذا كالكلاب الضآلة المشردّه , أنهكها طول المسير بلا وجهة وأمام أحد الملكيّات اخيًرا قد إستراحت , فعاجلني أحدهم نافيًا عنهم جرم التقصير في إجادة عمله يعزي حالة بدر الدين هذه لأمر كبير العائلة , شرف الدين الذي كان قد ألقى الكلمة الأخيرة بشأن بدر لجميع قاطني القصر رجالاً ونساء . فليتجرأ أحد ذكورها وإن كان حتى أبيه نفسه أن يُدخله محميًا وراء سور الملكيّة , فلتتجرأ أمّه على حمله , إنها لن تبقى دقيقة واحدة على ذمّة فاروق لأجل إبنها بـدر . وكم كان الجميع مُلتزمين بهذا الأمر التعسفيّ شديد الجورِ والضيمِ والإلهاد , الجميع حتى أباه وأمّه وإخوته الأشقاء .

إن شاء هو فليدخل وإن لم يشأ فليبقى هكذا وإن طال به أمد الدهر ومدى الزمان !


إحتدت عيناي تنظرانه بجهامة وعبوس , كم هالني ماسمعت , أجبرني على الصمت الواجمِ قرابة الدقيقة كامله أعيد بذهني وأكرر ماسمعته بلسان هذا الحارس .

أنّى لجدي شرف أن يكون بهذا الطغيان والتجبّر ! وبما أذنب بدر حتى ينال عقوبة كهذه , ولأي جُرم . إنه لم يعاقب بمثلها حتى بعد إرتكابة الفاحشة بإحدى الخادمات , وأنّى لعمّي فاروق وزوجته أن يتركا ضنى روحيهما وهذه القطعة من كبديهما ملقًا هكذا ينصهر تحت لهيب الشمس يفترش رمال الصحراء وتتلحفه السماء .

ازدردت ريقي فشعرت بغصّة قويّة في حلقي إثر طولِ ذهولي فهززت رأسي مجبرًا صوتي العصيّ على الخروج وأنا أسأله: من كم وهو على هالحاله !
....: يومين ..

أغمضت بسرعة عيناي أشدّ من إطباق فكيّ أسناني مستشعرًا تعاظم غيظي , لقد بدأت الدماء تفور بعروقي , أنّى لي الأن أن أحرر هذه الطاقة الغاضبة المحتقنة والممتعضة . إنه ثالث عصر يخرج عليه وهو صريعٌ أمام القصر كأحد الدواب بلا قيمة . كيف ذلك ! ألم يخرج أحد من القصر في هذان اليومان ! أهم على أتم إستعداد لهذا الحد إلى فقدٍ آخـر . أدركت لتوّي أن الحياة خلف هذه القضبان , حياة خُلَّب , يدالسنا الثراء والغِنى , يغرر بنا رغد الحياة ورخاؤها , إن ماوراء هذا الترف والبذخ والرفاهيّة هو في الحقيقة شيئًا خاويًا خاليًا بلا قيمة . إن روح ساكني هذا القصر أبخس من ترابه الذي تطاله ذات الأقدام .

رفعته على ساعداي وبحركة لم أستشعر أي جهدٍ بها قد قلبت جذعه على لوح كتفي الأيسر وبيمناي المنقبضة سددت لكمة لأنفِ الحارس أودت به مترنحًا يقاوم إختلال إتزانة وهذا الدم النازف من فتحتي منخاره , أحادثه وأنا أوليه ظهري هاتفًا ألقنه ما سيقول: لا كلمك أحد قل بـاز الدين تعدّا عليّ وأدخل بـدر بالقوّه .


-
-
-

رجال الدينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن