الجُزء الأول

1.7K 13 0
                                    

( الفصل الأول )
الجُزء الأول

"ربّي لاتذرني فردًا وأنتَ خيرُ الوارثين "
.
.


ها أنا الأن أقف مُهلكًا مُنهكًا بعد عناء وشقاء يومٍ ماشهدنا مثله قبلاً .
أقف في ملكية آل الدين المسورة بأسوارٍ حديديه لم أُعتقل أسيرًا وراءها , ملكيّة مُسيجة بقضبان فولاذيّة لم أُحتجز يومًا خلفها , فـ أنا واحدٌ من رِجال القصر , اسمي بدر الدين ووالدي هو فاروق باكورة شرف الدين , جدّي .

جدي الذي نص قانونه الخاص منذ أمد بعيد بعد أن رزقه الله بـ أربعة من الأولاد أسماهم فاروق وعابد وصفوان وهاشم هكذا على الترتيب بأن يتسمى كل ذكر يُرزقون به بإسمًا يحمل شبهًا من اسمه تركيبًا .. أن نتسمى رجالاً بإسم الدين كـ اسمه .

ومنذ أمدٍ بعيدٍ كذلك كان قد أقام لنا قصرًا مُترامي الأطراف يبعُد عن حدود المدينة حواليّ خمسون كيلو مترًا . لايُحيط بنا من جميع الجهات غير صحراء جرداء واسعة شاسعة على امتداد النظر وطريق ضيق لسير العربات فوقه كان بمثابة الشريان في وسط الصحراء .
كنّا بمعزلٍ عن العالم الخارجيّ ووراء هذه القُضبان حياة كاملة بالغة الترف والبذخ والرفاهية , غير أن شيئًا دومًا ما كان يستنهض شعور الحُريّة الكامنة داخل كل واحدٍ منّا ذكورًا واناثًا , شيئًا لم يغريه يومًا هذا البريق الساطع لكل مانملكه وما باستطاعتنا امتلاكه .

خلف أسوار القصر وقضبانه شُيّد ثلاث من الأبنية في الواجهة , كانت بتصميمها العمراني وكأنها مملكة اسطوريّة مكونة من أربع قلاع . الوسطى منهم كانت حيث انتمي واعيش , فهي لأبي فاروق مكونة من عشرة طوابق ينتهي الأخير منهم بقبّة جوفاء باهرة الشكل والتصميم وعلى يسارنا من الجهة الغربيّة كانت تقبع قلعة عمي عابد تنخفض عنا بثلاثة طوابق يعلوها قُبّة شهدت فيما مضى حادثًا مأساويًا ونكبه . أما عمي هاشم فكانت قلعته على يمين قلعتنا وهي تماثل خاصة عمي عابد , يبقى ناقصًا ذكر عمي صفوان وبالحديث عنه فقد كان يقطن خلفنا في بناء لايظهر في الواجهة , فـ قصر أبي يتقدمه ويواريه خلفه , لست أكيدًا إذا ما كان بمثابة قلعة رابعه من قِلاع مملكتنا إلا انه كان متواضعًا وللغاية بالمقارنة مع قصورنا العتيدة الشامخه , تساءلت مرّة هل هذه المنزلة المُتدنيّة حتى في مكان المعيشة هو بسبب كونه أبًا للبنات ! .. لآ أعلم .


انها الثانية بعد منتصف الليل , كنا قد أنهينا المراسم الإحتفاليّة لزفاف أختي الغير شقيقة , لدي ستة من الأخوات وكلهن لسن بشقيقات , في الحقيقة هن ذاتهن لسن شقيقات لبعضهن , فكل واحدة كانت من أمٍ مغايرة وأب واحد مشترك انتسبنا جميعًا لإسمه .. فاروق شرف الدين .

لا أستطيع أن أجزم إذا ما كان أبي رجلاً مزواجًا لحبه في النساء وشغفه بهن وتوقه المستمر اليهن بقدر ماهو ولع بإلانجاب منهن .

لست على وفاق تام بأخواتي البنات , لم أكن يومًا مقربًا منهن ولعلي أعزي هذا الأمر لقانون القصر الذي حتّم على ذكوره الإنفصال عن إناثه حتى بين الأخ وأخته . لا يوجد نصّ يوجب ذلك إنما هو ماجُبلنا عليه , بالتأكيد سأكون سعيدًا إذا ما نشأت علاقة حقيقة بيني وبين أخواتي البنات أو احداهن على الأقل غير العلاقة الإسميّة فقط كوننا اخوه , ولطالما تمنيت هذه العلاقه الأخويّه ورغبتها وبشدّه , إلا أن شيئًا كان يفوق كل أمنياتي ويحجمها حتى تظل حبيسة لآ أمل لها بالتحرر والتحقق , هذا ماجبلت نفسي عليه حتى اخذت الأيام تتواثب , قد لآنت عريكتي واستسلمت لقدري , كنت إذا أحسست ببريق أمنية يلتمع في داخلي عاجلته بـ إخماد وميضه حتى ينطفئ , وكمّ صدّقت أنني على سجيتي كنت أتعامل مع أمنياتي ولآ شيئ يستدعي التفكّر عن قسوة ما أقوم به ظالمًا نفسي ولكنني يبدو أن نفسي لآ أعرفها وأنني من قريب قد تكشّفت لديّ مواطن الضعف والقوّة الكامنة في أعماقي .

بالحديث عن اليوم , كل ماعلمته أن أختًا لي تُدعى "أرام" وقد توقفت عند اسمها كثيرًا حتى أني بحثت عن معناه .

أرام فتاة جميلة كحال جميع الإناث في هذا القصر وهو شيئ لايساور أحدًا الشك بأمره , إن كان رجال الدين كلهم بهذا الكمّ المُفرط من الجاذبيّة والوسامة فكيف بـ نسائهن !
أختي أرام بالطبع واحدة من جميلات القصر تصغُرني بعامين , سُميت منذ قرابة الشهر زوجة لإبن عمّي "علم الدين" واليوم قد زُفّت له .

ويالحظها الكبير أن نصيبها كان لواحدٍ من أبناء عمي "هاشم" حالها حال أختًا لي تكبرني بخمسة أعوام واسمها "أريحا" وهي زوجة لـ "شهاب الدين" الأخ الأكبر لعلم الدين وباكورة عمي هاشم , بالحديث عن عمي هاشم فهو يشغل منصب مرموق في الدولة كحال غالبيّة رجال العائلة إلا أنه كان منصبًا رفيعًا راقيًا أحببته , عمي هاشم هو وزير الإعلام والثقافة , لطالما شهدت رُقيّه وحُسنُ خُلقه ورِفعة ذوقه وهو شيئًا قد جَبَل عليه أبناؤه الخمس وليشهد الله أنهم رجالاً أكفّاء جميلي الخُلُق والخلقة .

لطالما أحببت عمي هاشم كثيرًا ووددت لو أنه أبي , مفتون بشخصيته المُتحضرّه , إذا ماتكلّم في مجالسنا ظللت أتأمله وبريق الإعجاب يشعّ من عيناي وأنا مُصيخٌ له السمع بإفتتان . لم يتزوّج غير مرّتان , الزوجة الأولى هي أمّ أبناءه الخمس والثانية التي لم تُنجب له سوى فتاة , ولأن زوجته الأولى من عائلة لم تكن لترضى بأن تكسر شكيمتها ضُرّة اقتضى الأمر بأن تعيش زوجته الثانية في معزل عن قصرنا العتيد وعن هذا البلد برُمته , بعيدًا وحيدة مع ابنتها . إنها أحكام وقيود تتبدّى لنا في كلّ مايُحيط بنا .

وعلى ذكر الأحكام فإنه قد نُطِق واحدٌ منها في أثناء حفلِ الزِفاف , حُكمًا كان بمثابة البراءة لجميع رجال الدين والإعدام لرجل واحد منهم .
كان المحكوم عليه هو التعِس "تمام الدين" الابن الثالث لعمّي "هاشم" . لم تكن لي يومًا خلطة بتمام أو إحتكاك مُباشر به ولم أعرف عنه غير أنه ظابط عمليّاتٍ خاصه , وكم أوحت هيأته بمدى صلابته .

قد أعلن جدّي تسمية تمام الدين زوجًا لواحدة لم تكن من أخواتي هذه المرّه , كانت واحدة من بنات عمّي صفوان , واحدة من أصل اثنتا عشر .
اسمها "هتون" وفور الإفصاح عن اسمها أكاد أقسم أن جميعنا قد تنفس الصعداء ...... إلا تمام .

بقدر ما ارتسمت سريعًا ابتسامة الراحة على وجوهنا بقدر ماتبدلّت وفورًا لشفقة على حال تمام .
عمي "صفوان" , انه الرجل المغلوب على أمره يكسو وجهة مسحة من الحُزن والخُذلان , أبًا لإثنتا عشرة فتاة وهو الوحيد من أعمامي الذي لم يهتم يومًا لشكل إمرأة تزوجها بقدر ماكان يشغله أن تأتي له بذكرٍ من صلبه يحمل إسمه .

قد تزوّج من النِساء ثمانية حتى كان له منهن اثنتا عشرة فتاة ولم تُنجب له واحدة ولدًا . حتى وصل به الأمر يومًا أن قرر تجربة شيئ استثنائي غير معقول وهو أن يتزوّج من إمرأة قبيحة , بل شديدة القُبح في الحقيقة , علّها هي من تنجب له الذكر إلا أنها ولِسُخريّة القدر لم تحمل بأحشائها غير فتاة .

كان خبرًا مُفجعًا لعمي صفوان خيمّت على إثره ظلال اليأس على غلالة وجهه و اطفأت بريق عينيه , ظلّ القصر يومها يتحدّث عن فشل محاولات عمّي المُستميتة التي كانت كما الضرب في الرمل أو الرسم على الماء دون جدوى حتى مع هذه المرأة القبيحة مما دفع عمي صفوان الذي لم يتحمّل وجودها في حياته لدقيقة بعد وقام بتطليقها ثلاثًا حتى عادت لأهلها تجرّ ذيول الخيبة والخسران ولم نسمع عنها خبرًا إلا وقتما أرسل ذويها الفتاة بعد ولادتها فورًا وللحظ العاثر لم تكن إلا نسخة من أمها على قدرٍ كبير من القُبحٍ والبشاعة كمسخٍ دميم ٍ مُخيف . ألقوها علينا وقالوا: اسمهـا هتــون .

هتون التي كانت كلّما كبرت عامًا واحدًا تزداد قبحًا لخمسين عام .

بنات عمي صفوان متفاوتات الجمال , فبعضهن كن ذوات جمال باهر يخطف العقول والألباب وبعضهن قد نلن منه نصيبًا يُذكر وواحدة كانت تفتقره , أو بمعنى أدق كانت تعدمه , وحدها كانت هتون .

وحيث أنهن اثنتا عشرة فتاة , اثنتان منهما متلحفتان بالتراب وعشرة حيّات يُرزقون الماء والهواء فقد اقتضى الأمر أن لكلّ واحد من رجال الدين فتاة من نسل صفوان , وإذا ماقرر جدّي تسمية احدنا للزواج من احداهن كانت تخفق قلوب رجال ماهزّها يومًا الخوف ولا اعتراها القلق , كلّه خشية أن تسقط هتون في حِماه وتكون هي قدره ... ويالهُ من قَدَر .

هذا القَدرُ الذي لم يكن إلا من نصيب تمام الدين الذي استقبل هذا الخبر قرارًا حتميًا ليس اختياريًا وكأنه صاعقة ذات خُدرٍ غائم هبطت على رأسه فـ أفقدته الوعي مغيبًا عن المحيط ومايجري فيه ومايدور حوله .
لم يجرؤ أحدًا منا على المُباركة له إذ أنها كانت لتكون بمثابة التشمت فيه أو التشفي !

ظللت غيوم التوتر على المكان للحظات قبل أن يُقرر أحدنا تبديدها وهو يكسر الصمت بصوته الذي أمقت , كان جليّا فيه وهج الإبتهاج وهو يسأل بصخب: ومتى ان شالله الزواج ! ليته يكون معي ونجي اثنين معاريس ..

ابتلعت ريقي حينها وأنا أرفع عيناي مستشعرًا الغثيان من فرط ما أشعر به من بغضِ تجاه هذا المدعو "نصر الدين" وما احمله له في قلبي من كُرهٍ وغضاضة , نصر هو واحد من أبناء عمي "عابد" الخمسه كذلك كـ أبناء عمي "هاشم" ولكنهم غير أشقاء .

لم يكن لنصر الدين غير شقيق واحد يصغره , أعلم بوجوده حيًا , حاضًرا في ذهني وكثيرًا ما كنت أراه في الليالي الساهدة . تُلاحقني عيناه اللتان تُشعّان اصرارًا وتحديًا لم يسر يومًا مع القطيع ليُجنب نفسه مغبّة العقوبه وماسيجُره عليه التمرد والعصيان من ويلات , كان حُرًا أبيًا حتى لم يجد كِبار العائلة بُدّا من انزال العقوبة به وتطبيق القصاص عليه , ويالها من عقوبه حين تُلقى داخل الدهاليز التي لاتدري إلى أين تفضي . "فخر الدين" الذي لم يكن يومًا فخرًا لأحد ..... عداي .

إن له قصّة يُضرب بها المثل إلى وقتنا هذا , مثلٌ يجعلك تُفكّر ألف مرّة إذا أقدمت على فعلٍ يُخالف ماينصّ عليه قانون العائله .

إن "فخر الدين" شقيق "نصر" مُعتقل في أحد سجون الدولة بأمرٍ من والده نفسه , عمي عابد .. لما له من سُلطة تخوله لفعل مايرغب ومايشاء , وهي سلطة ونفوذ أورثهم لأبناءه ماعدا فخر الذي لم يلهث يومًا وراء البريق الخُلّب لمنصبٍ ومالٍ وشهرة , خالف رجال الدين أجمع وإخوته أخصّ الذين كانوا جميعهم رجال أمن وقضاء وقانون , كانوا هم السجانيّن, وكان فخر وحده هو السجين .

منذ قرابة الأسبوع كان نصر الدين قد أفصح لأباه عن رغبة مُلحة داخلة تدفعه للزواج الجاد بعد عزوفه عنه لما يقارب العشرة أعوام من بعد زواجه الأول .

كانت زوجته الأولى جميلة من جميلات عمي صفوان , ولكون نصر الدين حالة استثنائية دونًا عنّا جميعًا بعد فقده المرير لزوجته فما كان من جدّي أن يختار له هذه المرّه وبعد إعراضه طوال هذه المُدّه ,كان ترك مطلق الحريّة للإختيار بمثابة ترضيّة له , وقد أحسن نصر الدين استغلال هذه الفُرصة نادرة الحدوث أفضل استغلال , فهو بكل راحة قد طلب أن تكون زوجته على قدر يماثل جمال زوجته المتوفاه , فلتكن أيّ فتاة من أخواتي أو من بنات عمي صفوان أو حتى ابنة عمي هاشم الوحيدة التي لم تطأ قدماها بلاط القصر يومًا .

يتراءى لي أن جدي يُحب من يتلاعب معه بأفكاره ويُزامنه , فلم تغِب عني ابتسامته الماكرة وقتها وهو ينظر لعيني "نصر" نظرة لن أنساها . فـ لأول مرّة أرى فيها الفخر والإعتزآز وكم أسِفت أن هذه النظرة النادرة من عيني جدّي كانت لهذا الخسيس نصر الذي اتسعت ابتسامته ملئ شدقيه حتى بانت نواجذه بعد أن أهداه جدي جميلة آل الدين "تيماء" ابنة عمي صفوان , قائلاً بنبرة غليظة قد تعندّت في وجه الزمن والكِبر والشيخوخة أبيّة أن تتراخى أو تلين .

( من بعد "قمره" مايماثلها بالجمال إلآ خواتها "تيماء" و "سِدره" , ولأن سِدره توها بزر فـ تيماء بنت صفوان مسمّاه لك حليله بأمر الله بعد شهر من اليوم )

وكأن تيماء هي من تُناسب نصر سنًا , هذا الشيخ العتيّ الذي يكبرها بحوالي عشرون عامًا ومايزيد !
انقضى من الشهر اسبوعان وقرر جدّي اليوم وأثناء زفاف "علم الدين" بإبتسامة رائقة موافقة "نصر" بأن يكون يوم عقد قرانه على تيماء هو نفسه يوم عقد قران "تمام" على هتون .


-
-
-

رجال الدينحيث تعيش القصص. اكتشف الآن