إنها قصّتي وعلها قصة الآلاف من قبلي أقصّها على لسانٍ عربي فصيح، قصة من العجب في قصرٍ مهيب يغمره الأزرق.تعلّمتُ الفصحى من أبي، ومن يومها اعتنقتها ديناً من لغة.
كان والدي صحفيّ يتسم قلمه بالشفافية ويصطاد فقط الحقيقةَ فريسةً أبخسها صيادو الافتراء، الذي جعلوا لهُ ثمناً من ذهب.
وقد علمني أبي أن التاجر إن وجد السلعة -وإن فسدت- قد أقبل عليها الناس جعل فيها المكسب والمطلب، وأوهم الجهلةَ عظمةً ليست بها وجمالاً لن تدركه فصدقوا، وكلما زاد ثمنها تراهم عليها أشدّ انكباباً،وهكذا حال البشر.
غدّارون!
فلما خشي اصحاب الفتن من الحق، اتهموهُ بفحائشهم ورموهُ بباطل القول؛ فشككوا في مصداقية فارسه، وجعلوا من أبي سليلاً لسوط، وما سوطُ لو رآهم إلا منبهراً وقد غلبوهُ تمكناً في الكذب!ولو كنتُ أنا لرميتُ هذا بفواحشه، ولهززتُ صيتَ ذاك، فوالله مهما كتبت؛ يبقى قلمي أنقى من دواخلهم.
والعرب كذلك شأنهم منذ الجاهلية، يخافون فرسان الحروف كخوفهم من فرسانِ السيوف، فلو أدركهم شائنٌ من القول سيتضاروا بقيةَ العمر خوفاً من اللوم والتعريض.
ولكن أبي غير، فقد وجهني أن أتناسى سفههم وأغفر جهلهم وقال أن الله سينصرُ الحق وإن تكالب عليهُ كل قومٍ من السوابق الطاغين، وإن كان يقودهم جبابرةُ أقوامٍ قتّلوا الصالحين، وحاربوا النبيين، وذلك الحق، جليٌ أينما كان.
فصبرنا سابق القول، ومنعنا النفس التهتير، وتوكّلنا على الحيّ الذي لا يموت، فغادرنا فلسطين حُزناً، وتوجهنا نحو الشمال، الى بلاد الأندلس قديماً.
وكنتُ قد قرأتُ عنها حتى حفظتُ أزقتها ونواصيها، وسمعتُ عن الطرقِ المنحدرة والبيوتِ المتماسكة بلباسِ الأندلس وبعد آلافٍ من السنين.
لطالما حزنتُ على ضياع الأندلس وتبدل حروفها لإسبانيا، ولكن حزني قد صحبهُ الغضب على العرب آنذاك، وقد عمتهم الفتن فضيعوا أرضاً قد صانها أولياء الله بعرقٍ ودم.
ولكن ماذا ينفع الندم؟
فالأرض لله يورثها من يشاء، وعلّ هؤلاء العجم خيرٌ لهذهِ البلاد من عربٍ مترفين!توقف القطار ورمى بنا على عتباتِ غرناطة، ولمّا وطِئَت قدماي شفا تلك المدينة، سرَت رعشة جلجلت أواصري وأحسستُ ماضٍ لم أره.
ورأيتُ في شوارعها كيف مات الأولياء، ورأيتُ كيف عاش هؤلاء!
فنظرتُ أبي وقلت:
أنت تقرأ
أرواح في الأندلس
Ficción históricaولمّا وطئتُ بشفا قدميّ أول تلك القصة؛ حجزتني أواسطها.. وكلما حاولتُ الهرب أجدُها بلا نهاية.. وهي قصةٌ من العجب، في قصرٍ مهيب، يغمرهُ الأزرق.. فائزة بمسابقة حكاية مارس للعام ٢٠٢٠. الغلاف من صُنع جنود التصميم الرائعين!