الليل مختنق بصمت تطرزه الرياح وهي تُلاحق ربيعاً لم يدم
إلا بضعة أيام ما لبث بعدها هارباً نادماً على مجيئه بالزمكان
الخطأ، والسماء تسرح شعرها الحلكي بغنج معتق، وهي تنظر إلى
بقايا الأرض بعين نامت لولا تلك الطفلة وذاك الجوع الممتد من
اللحد إلى اللحد، أما البدر فمقيدكف الظلام، راقد بين
بنصره وسبابته كسيجارة بكف عجوز مشوهة تكاد تقع فتلتقفها
شفتاه لتقص عليها بطولات صبابته. لا شيء سوى صوت النفس
المتعب من لا شيء وبعضاً من ظلي يتبعني. الصوت الصادر من
ميل الساعة يستدرج الشمس لصباح جديد وغيوم السماء بدأت
تعلن انسحابها بانكسار مريح؛ ليحدي الغيم بقافلته وهو يتمتم
كلمات تشبه ترحاله الأزلي. الشوارع فارغة هذا الوقت، والأبواب
تحتفظ ببكارتها لأول سائل يطرقها مستجديا نقودا، أو شمسا، أو
يمارس هوايته اليومية.
يشرأب الشتاء متسللا من خلال نافذتي المكسورة كما تتسلل
الذكرى إلى قلب متيم مهجور فألتاذ بغطاء صوفي قديم ولا عاصم
من الشوق إلا اللقاء.مشتاق ولا أعرف لمن؟!
حائر كطائر سرقوا السماء من بين جناحيه! كقديس كفر بزلة
لسان فظن الناس كفرته عبادة، إن أعلن إيمانه كفّره الناس وان بقي
مؤمنا كفّر نفسه، حاولت الهرب فوجدته أصعب من المواجهة خاصة
وأن جميع الأحلام أوصدت أبوابها دوني، وقيل للنوم لا تقترب.
السقف مطلي باللون الأبيض، والجدران كذلك، والنافذة تعزف
لحنا منقطعا ومخيفا، يشتد مع شدة الرياح ويتوقف إذا اعترض
ذلك الكتاب الضخم طريقه ليندفع مرة أخرى كتيار جنون ويستمر
مصرا على سيمفونيته الغريبة. الباب مفتوح قليلا كأنه بانتظار
شخص ما، والغرفة فارغة مني، تخنقها الوحدة أحياناً؛ فتتنفس
دخان سيجارة لا تكاد تنطفئ حتى تشتعل واحدة أخرى. أوراقي
الصفراء تغري قلمي ليستجيب جموحا بخطه المراهق فأسارع
بتمزيق علاقتهما المشبوهة؛ لأنني لا أريد لذاكرة الورق أن تحتفظ
بما أنا عليه الآن.
بعض الكتب القديمة، وأخرى جديدة، وسرير من حديد أخفي
تحته كتبا أيضاً. أثاث منزلي مكتبة مبعثرة، وهناك على الركن
الأيسر، تقبع نسخة ورقية للوحة الأحذية مثل كعبة أطوف بها من
جانب وأحد وأنا أردد بيتين قالهما المتنبي:
أنا رب القوافي و ترب الندى
و سمام العدى و غيظ الحسودِ
أنا في أمة تداركه الله
غريب كصالح في ثمودِ#يتابع