وبين صوت المتنبي وألوان (فان غوخ)، مسافة صحراء شبه
الجزيرة وخضار(زندرت)، وبين تعالي موسيقاي العربية، وهدوء
أفكاري، تستقر الحيرة وتتخذ من القلب بيتا أبديا، صلابة تنويني
أكاسرها بضرب عروض الفراهيدي عرض الحرية، وخمرة عيني
اقتلها بخصلتها الشقراء فأنتمي للجميع.
أسمع ذلك الصوت الممزوج بالتبغ وبالخمر، القادم من مقبرة
الماضي خاصفا بقايا كفن بالكاد تستره، والذي يأتي عندما يتأكد
من حاجتي إليه، فكلّما عجزت عن تحضير أرواح الكلمات،
وعفاريت الأفكار تذكرت قوله: "إذا لم تستطع الكتابة اقرأ ما كتبه
الآخرون"
أقلب هدايا الوحي للعشاق، وأتمعن كمائن أبالسة القلم وهم
يتربصون بضحيتهم ليغلقوا عليه دائرة أفكارهم، وينفوه خلف
قضبان حروفهم المنمقة، وغلافات كتبهم المغرية، أسكر ببيت
قصيد الخمار، وأتوب مع تعويذات القديسين، أتمايل طربا مع
الرمل، لأهدى وأتعظ بمقطوعات الموعظة، وسجيعات الحكم، أبحث
عن أحد يرشدني، عن بيت قصيد يعرفني بنفسي، فكثيرة هي
القصائد التي نكتبها دون أن نعلم، وكثيرة هي القصائد التي تكتبنادون أن تعلم!
حاولت تجنبها أكثر من مرة لكن جفاف الصحراء يجعل من
القطرة بئرا، وعندما ارتشفت أول كلمة منها تغير صوتي،
وامتزجت الحروف بتجربة عقيمة تراءت لي الزاوية التي تحتضن
جدارين من التجارب وأصحابها. بدأت الكلمات تمر عبر ناظري
كشريط قديم لصور أتلف الدهر اغلب ملامحها، رأيت نفسي
جالسا على بقايا منزل أرثي زوجتي الغبية، ليس هـذا مـا أردت أن
أكونه! أتلفت الألفاظ ورميتها ممزقة بالهواء ثم ركضت لأفتح الباب
خوف أن تستقر هذه الكائنات هنا وتحتل مصنعي لتنتج المستقبل
كما يحلو لها.
كانت قصيدته أفرغ من شوارع بغداد المعلن فيها حضر
التجوال، أقبح من وجه عجوز يتراهق. أخبرته الحقيقة وانسحبت،
وبعدما عرفت أنه كتبها لزوجته الراحلة ندمت كثيرا، ولكن لا
بأس فمن يرثي زوجته بهكذا قيدة لابد أنه كان متضايقا من
وجودها...
توقف الميل قليلا كأنه ينذر عن قدوم عاصفة، أو زلزال، أو
حب، تغيرت الحان النافذة بغتة ومالت لرومانسية عميقة، أورد
السقف، والجدران كذلك، اختلف كلّ شيء لثانية. تشاركني
السماء لحظتي بحبيبات مطر بللت وجهي عندما خرجت لأتفحص