د_منى_مرشود
الحلقة الثامنة عشر
أفقت من غفوتي القصيرة ...
كنت أجلس على أريكة بمحاذاة الشاطئ ، تتدلى قدماي في مياه البحر و تعانقان أمواجه الراقصة ...
الهواء كان منعشا جدا و البحر غاية في الجمال ... منظر لم تره عيناي منذ سنين
إنها المرة الأولى منذ تسع سنين ، التي يبتهج فيها صدري و أنا بين أهلي و أحبابي ...
أصوات مجموعة من الأطفال تغلغلت في أعماق أذني و أيقظتني من راحتي النادرة
ما إن فتحت عينيّ الناعستين حتى تلقتا منظرا جعلني أقف منتصبا فورا !
كانت رغد ... صغيرتي الحبيبة ... خطيبة أخي الوحيد ... تجلس على الرمال المبللة تعبث بالماء ... إلى جواري تماما !
نهضت و قد أصابني الروع !
و سرعان ما هبت هي الأخرى واقفة ، تنظر إلي ...
وجّهتُ سهام بصري إلى البحر ... ليبتلع أي شعور يفكر في الاستيقاظ في داخل قلبي ... و خطوت مبتعدا عنها
استوقفتني ، فأخبرتها بأنني ماض للسباحة فقالت بسرعة :
" انتظر ! سأعود لأمي ... "
لم أعرف ما إذا كانت تقصد مني مرافقتها أو مراقبتها تحديدا ، إلا أنها حين سارت مبتعدة بقينا أنا و سامر ـ و الذي خرج من الماء للتو و وقف إلى يساري لا يفصلني عنه غير شبرين ـ نراقبها و هي تبتعد ...
و حين ظهر فتى في طريقها يريد أخذ كرة القدم التي تدحرجت منه نحوها ، اضطربت صغيرتي ... و استدارت نحونا ... و أقبلت مسرعة و أمسكت بذراعي اليمنى و اختبأت خلفها !
أنا طبعا وقفت كالجدار لا أحس بشيء مما حولي و لا أعرف ماذا يحدث و ماذا علي أن أفعل !
أردت أن أسحب ذراعي لكنها غرست أظافرها بي و آلمتني ...
الفتى ذاك كان يحمل الكرة و ينظر بتعجب نحونا
و أمي و دانه أيضا تنظران بتعجب
أما النظرات التي لم أعرف ما طبيعتها هي نظرات أخي سامر ...
" صغيرتي ... صغيرتي ... لا بأس عليك ... اهدئي أرجوك "
رغد الآن تنظر إلى و قد اغرورقت عيناها بالدموع ، و قالت بانفعال و اضطراب :
" لماذا لم تأتِ معي ؟ لماذا تركتني وحدي ؟ هل تريد أن يؤذيني أحد بعد ؟ "
كلمتها هذه جعلت عضلاتي تنقبض جميعها فجأة ، و لا شعوريا مسكت أنا بيديها و شددت عليهما بقوة ...
لحظة جحيم الذكرى ... و أعيينا تحدق ببعضها البعض بحدة ... من عيني يقدح الشرر الحارق ... و من عينها تنسكب الدموع المجروحة ... و في بؤبؤيها أرى عرضا للشريط المشؤوم اللعين ... و صورة لعمّار يبتسم ... و الحزام يتراقص ...
" لكنت ُ قتلته "
نطقت بهذه الجملة لا إراديا و أنا أحدق بها في نظرات ملؤها الشر ... و القهر ...
لقد شعرت بأشياء تتمزق بداخلي ... و أشياء تعتصر ... و أشياء تتوجع و تصرخ ...
كيف لي أن أتحمل موقفا كهذا ؟؟
لو ظل سامر صامتا ، ربما بقيت شهورا واقفا عند نفس النقطة ، إلا أن صوته قطع الحبال المشدودة و أرخى العضلات المنقبضة
" رغد ... "
أطلقنا نظراتنا المقيدة ببعضها البعض و سمحنا لها بالانتقال إلى عيني سامر ...
لا يخفى عليكم الذهول و الحيرة و الدهشة التي كانت تغلف وجه سامر الواقف ينظر إلينا ...
قال :
" رغد ... عزيزتي ... "
و لم ينطق بعدها بجملة واضحة تفسر التعبيرات الغامضة المرسومة على وجهه الحائر ...
رغد الآن بدأت تمسح دموعها و قد هدأت نوعا ما ...
الآن ... تصل أمي و أختي ... و تستدير رغد إليهما ، و تنطق بمرارة :
" قلت لك لا أستطيع ... لا أريد المجيء ... لا أستطيع ... لا تتركوني وحدي "
و انخرطت في مزيد من البكاء المؤلم
أمي أحاطتها بذراعيها و أخذت تتمتم بكلمات لم استطع استيعابها من هول ما أنا فيه ...
ثم رأيتهن هن الثلاث ، رغد و أمي و دانة ، يبتعدن عائدات من حيث أتين ...
سامر ظل واقفا لثوان أخرى ، ثم هم باللحاق بهن ... و حانت منه التفاتة إلي ... فرآني و أنا أنهار على الرمال و أضغط بيدي على معدتي و أتأوه ألما ...
لقد شعرت بأشياء تتمزق و تعصر في أحشائي ... و دوار داهمني دون إنذار مسبق ... و خور و وهن مفاجئ في بدني ... فهويت أرضا ...
كنت أعرف أن قلبي ينزف من الداخل ، كما تنزف أنسجة جسدي كله من شدة الموقف و قسوته ... و شعرت بالدماء تجري بكل الاتجاهات في جسمي ... و أحسست بها تصعد من جوفي ... و تملأ فمي ... ثم تخرج و تنسكب على الرمال ملونة إياها هي و يدي المرتكزة عليها باللون الأحمر ...
الآن ... تستطيع عيناي رؤيتها بوضوح ... تماما كما ترى النور ...
دماء حقيقية خرجت من جوفي ممزوجة بعصارة معدتي المتلوية ألما ...
" وليد ! "
رفعت رأسي ، فإذا بي أرى سامر ينظر إلى موضع الدماء بذعر ...
" ما هذا ؟؟ "
ما هذا ؟ أظن أنها دماء ! و هي المرة الأولى التي تخرج فيها دمائي من جوفي ... و أنا أشعر بألم حاد جدا في معدتي ...
ما هذا ؟
أظن أن هذا عرضٌ لمرض ٍ ما ...
بعد فترة ... كنا نجلس قرب موقد الجمر ، نستنشق الأدخنة المتصاعدة من المشويات ... و نتلذذ برائحتها الشهية ...
كان والدي يقلب الأسياخ و يهف الجمر ... و كلما نضج اللحم في أحد الأسياخ دفعه إلى واحد منا ، فيلتهمه بشهية كبيرة ...
و الآن جاء دوري ...
" تفضل يا وليد "
كنت أود مشاركتهم هذه الوجبة اللذيذة التي لم أذق لها مثيلا منذ سنين ... لكن الآلام الحادة في معدتي حالت دون إقبالي على الطعام ...
" شكرا أبتاه ... لا أستطيع التهامها فمعدتي مضطربة جدا "
قال سامر :
" لقد تقيأ دما قبل قليل "
الجميع ينظر إلى الآن بقلق ...
ابتسمت و قلت :
" ربما أكلت شيئا لم تتقبله ! لا تكترثوا "
أمي قالت بقلق :
" بني ... عساه خيرا ؟؟ "
" لا تقلقي أماه ... ستهدأ بالصيام لبعض الوقت "
أنت تقرأ
انت الي
Randomمن أروع الكتابات د. منى المرشود توفي عمي و زوجته في حادث مؤسف بل شهرين و تركا طفليهما الوحيده (رغد) والتي تقترب من ثالثة من عمرها... لتعيش يتيمه مدى الحياة. انا و اخواتي لا نزال صيغار و لأنني اكبرهم سناً فد تحولت فجأة إلى (رجل راشد و مسؤول). كنا...