د_منى_مرشودالحلقة الخامسة عشر
أكاد أطير من الفرح ... لأن وليد سيأتي اليوم ...
إنني منذ وقعت عيناي عليه يوم حضوره قبل شهر ، و أنا أحس بشيء غريب يتحرك بداخلي !
أهي كريات الدم في عروقي ؟؟
أم شحنات الكهرباء في أعصابي ؟؟
أم تيارات الهواء في صدري ؟؟
بين الفينة و الأخرى ، أخرج إلى فناء المنزل ... و أترقب حضوره
متى سيصل ؟؟
سامر أيضا سيعود هذه الليلة ، فمنذ سافر للمدينة الأخرى قبل أسابيع من أجل العمل لم نره ...
استدرت للخلف ، فإذا بأمي واقفة عند المدخل الرئيسي ، تنظر إلي !
" رغد ... ما ذا تفعلين ؟؟ "
اضطربت قليلا ، ثم قلت :
لا شيء ...
والدتي ابتسمت ، و قالت :
" لقد قال سامر إنه سيصل ليلا ! لا تُقلقي أعصابك ! "
شعرت بغصة في حلقي و كدت أختنق !
إنني لم أر سامر منذ أسابيع ... و أعلم أنه سيعود ليلا ... لكنني ... لكنني كنت أرتقب وليد !
كان هذا يوم الأربعاء ... ، و في هذا المساء سيتم عقد قران دانة ...
إنها مشغولة جدا هذا اليوم ، و كذلك هي أمي ... و الاضطراب يسود الأجواء ...
" تعالي و ساعدينا ! "
ألقيت نظرة على الباب الخارجي للمنزل ، و مضيت مذعنة لطلب أمي !
كانت دانة تجفف شعرها بمجفف الشعر الكهربائي المزعج ، قلت :
" فيم أساعدك ؟؟ "
و يبدو أن صوته الطاغي منعها من سماعي ، فكررت بصوت عال :
" دانة فيم أساعدك ؟؟ "
انتبهت لي أخيرا ، و قالت :
" تعالي رغد و جففي هذا المتعب ! "
دانة كان لها شعر طويل و كثيف مع بعض التموج ، على العكس من شعري القصير الأملس الناعم !
تناولت المجفف الساخن من يدها و بدأت العمل !
صوت هذا الجهاز قوي و أخشى أن يعيق أذني عن سماع صوت جرس الباب !
مرت الدقائق و أنا أحاول الإسراع من أجل العودة للفناء !
" رغد ! جففي بأمانة ! "
قالت ذلك دانة و هي تنظر إلي عبر المرآة ... فابتسمت !
فستان دانة كان جميلا و أنيقا جدا ، و موضوعا على سريرها بعناية
لدانة ذوق رائع جدا في اختيار الملابس و الحلي و أدوات التجميل !لدى عبور هذه الفكرة برأسي تذكرت طقم الحلي الذي رأيته ليلة الأمس و أثار إعجابي الشديد و أردت اقتنائه ، غير أن نقودي لم تكن كافية فأجلت الأمر لهذا اليوم
" يجب أن أذهب مع آبى لشراء ذلك الطقم قبل أن يحل الظلام ! "
" حقا ستشترينه ؟ إنه باهظ الثمن ! "
" طبعا سأشتريه ! ماذا سأضع هذه الليلة إذن ؟؟ "
" لم لا تضعين العقد الذي أهدتك إياه والدتي قبل أسابيع ؟؟ "
لم تعجبني الفكرة ، فلقد رأته لمياء ـ شقيقة نوّار ، خطيب دانة ـ يوم حفلة تخرجي !
إنها أمور نكترث لها نحن الفتيات !
أو على الأقل ، معظمنا !
قلت :
" بل سأشتري شيئا جديدا ! يليق بقرانك ! "
و ضحكنا !
لمحت والدتي مقبلة من ناحية الباب فأوقفت تشغيل الجهاز و قلت بسرعة :
" هل حضر ؟ "
ثم أضفت بسرعة ، تغطية على الحقيقة :
" أقصد والدي ؟ أريد أن يصحبني لسوق المجوهرات ! "
قالت والدتي :
" ماذا تودين من سوق المجوهرات ؟؟ "
" سأشتري عقدا جديدا أرتديه الليلة ! "
بدا على والدتي بعض الاستياء ... ثم قالت :
" أليس لديك ما يناسب ؟ سأعيرك مما عندي إن شئت "
عرفت من طريقة كلامها أنها لا تريد مني شراء المزيد .
أعدت تشغيل الجهاز و واصلت تجفيف شعر دانة الطويل حتى انتهيت ... بصمت ...
بعدها خرجت من الغرفة قاصدة الذهاب إلى غرفتي ، إذ أن بي شحنة استياء أريد إفراغها ...
و أنا أمر من والدتي قالت :
" رغد اذهبي للمطبخ و أتمي تحضير الكعك ، سأوافيك بعد قليل "
أذعنت للأمر ... و قضيت قرابة الساعة في عمل المطبخ الممل ، حتى أتت والدتي وتقاسمنا العمل ...
بعد فترة همت بالانصراف ، فبالي مشغول بانتظار وليد ، و حين رأتني أمي سائرة نحو الباب :
" إلى أين رغد ؟؟ "
" سأذهب للاستحمام ! "
" انتظري ! تعرفين ما من مساعد لي غيرك اليوم ... ! اغسلي الأطباق و الصواني و رتبي الأواني في أماكنها ، ثم تولي كي و طي الملابس ! العمل كثير هذا اليوم ! "
شعرت بالضيق ! لم أكن أحب العمل في المطبخ و كنت أتولى أقل من ثلث العمل المقسم بيننا نحن الثلاث ، أمي و دانة و أنا ، لكنني اليوم مضطرة للتضحية بنعومة يدي !
أثناء ترتيبي للأواني سمعت صوتا مقبلا من جهة مدخل المنزل الرئيسي
ربما يكون وليد !
أسرعت بوضع الأواني على عجل فانزلق من يدي بعضها و تحطم على الأرضية الملساء الصلبة !
" أوه رغد ! ماذا فعلت ! "
والدتي نظرت إلي بانزعاج ، فزاد ضيقي ..
" انزلقت من يدي ! "
و تركت كل شيء و هممت بالانصراف
" إلى أين ؟؟ "
" سأرى من عند الباب أمي ! "
و لم أكد أغادر ، إذ أن والدي قد وصل ، و دخل المطبخ يحمل الكثير من الأغراض
عدت إلى الأواني المحطمة أرفعها عن الأرض و أنظف الأرضية من شظايا الزجاج
ثم كان علي ترتيب الأغراض التي جلبها أبي في أماكنها المخصصة ... و الكثير الكثير قمت به فيما دانة في غرفتها ، تسرح شعرها و تتزين !
حالما انتهيت من جزء من عمل المطبخ ، قلت لوالدي و الذي كان يجلس على المقعد عند الطاولة يكتب بعض الملاحظات على ورقة صغيرة :
" أبي ... هل لا اصطحبتني إلى أحد محلات الحلي ؟ لي حاجة سأشتريها و أعود "
أمي نظرت إلي و قالت مباشرة :
" عدنا لذلك ؟ خذي ما تشائين من حليي و لا داعي لإضاعة المال و الوقت ! لدينا الكثير لنفعله الآن ! "
قلت :
" و لكن ... إنه جميل جدا و أريد أن أرتديه الليلة ! "
قالت :
" هيا يا رغد ! عوضا عن ذلك رتبي الملابس أو غرفة الضيوف و الصالة ... النهار يودعنا "
لم أناقش أمي ، بل نظرت إلى أبي و هو منهمك في تدوين كلمات على الورقة و قلت :
" أبي ... لن أتأخر ! سأشتريه و نعود فورا ! "
والدي قال دون أن يرفع عينيه عن الورقة :
" فيما بعد رغد ، لدي مهام أخرى أقوم بها الآن "
خرجت من المطبخ و أنا أشعر بالخيبة و الخذلان ... و ذهبت إلى الغرفة الخاصة بالملابس ، أكويها و أطويها و أرتبها ، و دمعة تتسلل من بين حدقتي من حين لآخر ...
كنت أكوي فستاني الجديد الذي سأرتديه الليلة بشرود و أسى ...
لماذا علي أن أعمل بهذا الشكل !؟
لماذا لا يجلب والدي خادمة للمنزل ؟؟
هنا سمعت صوت جرس الباب يقرع ...
لابد أنه وليد !
تركت كل شيء بإهمال و طرت نحو باب المخرج ، في نفس اللحظة التي أقبل فيها والدي نحو الباب ...
قال :
" اذهبي و ارتدي الحجاب ، قد يكون وليد ! "
رجعت فورا إلى غرفة الملابس و سحبت حجابا لي من كومة الملابس
( المجعدة ) و لبسته كيفما اتفق ، و هرعت نحو المدخل ...
فتحت باب المدخل لأطل على الفناء الخارجي ، و أرى أبي و وليد متعانقين عند البوابة الخارجية ...
أقبلت أمي مسرعة و فتحت الباب و خرجت مهرولة إلى وليد ...
وقفت أنا عند الباب الداخلي أنظر و دموعي تفيض من عيني رغما عنها ...
لقد كان وليد واقفا بطوله و عرضه و جسده العظيم ، يحجب أشعة الغروب عن وداع ما غطاه ظله الكبير ، يضم والديه إلى صدره و ينهال برأسه البارز على رأسيهما بالقبل ...
وقفت أراقب ... و أنتظر ...
لقد طال العناق و الترحيب ... و لم يلتفت أو لم ينتبه إلي !
و فيما أنا كذلك ، و إذا بالباب يفتح ، و تنطلق منه دانة مسرعة كالقذيفة الموجهة نحو وليد !
تعانقا عناقا حميما جدا ، و دانة تقول بفرح :
" كنت واثقة من أنك ستحضر ! كنت واثقة من ذلك "
و وليد يضمها إلى صدره ثم يقبل جبينها و يقول :
" طبعا سآتي ! كم شقيقة لدي ؟؟ ... ألف مبروك عزيزتي "
كل هذه الحرارة المنبعثة من اللقاء الحميم أمام عيني جعلتني أنصهر !
و بدا أن دموعي على وشك التبخر من فرط حرارة خدي ّ
وليد !
من أي طينة خلقت أنت ؟؟ و لماذا تنبعث منك حرارة حارقة بهذا الشكل !
ألا تحس الأشجار أن الشمس قد ارتفعت بعد الغروب !؟
و أخيرا ، تحرك الثلاثة مقبلين نحوي ... نحو المدخل ...
أخيرا لامست نظراتي الجمرتين المتقدتين ، المتمركزتين أعلى ذلك الرأس ... مفصولتين بمعقوف حاد ، يزيدهما شرارا ... و حدة ... و اشتعالا !
توهج وجهي احمرارا و تلعثم قلبي في نطق دقاته المتراكضة ... و شعرت بجريان الأشياء الغريبة في داخلي ...
الدماء
سيالات الأعصاب
و الأنفاس !
و هو يخطو مقتربا ، و حجمه يزداد ... و رأسه يعلو ... و عنقي يرتفع !
سقطت أنظاري فجأة أرضا و كأن عضلات عيني قد شلت ! لم أستطع رفعهما للأعلى لحظتها ...
و جاء صوته أخيرا يدق طبلتي أذني ...
بل يكاد يمزقهما !
" كيف حالك صغيرتي ؟؟ "
و كلمة صغيرتي هذه تجعلني أحس أكثر و أكثر بصغر حجمي و ضآلتي أمام هذا العملاق الحارق !
رفعت عيني أخيرا ببعض الجهد و أنا أضم شفتي مع بعضهما البعض استعدادا للنطق !
" بخير ... "
و لكن ... حين وصلت عيناي إلى جمرتيه ، كانتا قد ابتعدتا ...
لم يكن وليد ينظر إلي ، و لا حتى ينتظر جوابي !
لقد ألقى سؤاله بشكل عابر و أشاح بوجهه عني قبل أن يسمع حتى الإجابة ... و هاهي دانة تفتح الباب ... و هاهو يدخل من بعدها ... و يدخل والداي من بعده ... و ينغلق الباب من بعدهم !
وقفت متحجرة في مكاني لا شيء بي يتحرك ... حتى عيناي بقيتا معلقتين في النقطة التي ظنتا أنهما ستقابلان عيني وليد عندها ...
مرت برهة ... و أنا أحدق في الفراغ !
هل كان وليد هنا ؟؟
هل مر وليد من هنا ؟؟
هل رأته عيناي حقا ؟؟؟
لم أجد جوابا حقيقيا ...
بدا كل شيء كالوهم و الخيال !
أنت تقرأ
انت الي
Nezařaditelnéمن أروع الكتابات د. منى المرشود توفي عمي و زوجته في حادث مؤسف بل شهرين و تركا طفليهما الوحيده (رغد) والتي تقترب من ثالثة من عمرها... لتعيش يتيمه مدى الحياة. انا و اخواتي لا نزال صيغار و لأنني اكبرهم سناً فد تحولت فجأة إلى (رجل راشد و مسؤول). كنا...