د_منى_مرشودالحلقة الثامنة و العشرون
" تتزوجيني ؟؟ "
أروى حملقت بي لبرهة ، ثم ابتسمت و نظرت إلى الأرض بخجل !
العرق صار يتصبب مني و ملابسي تحترق من حرارة جسدي.. أما لساني فانعقد تماما !
أي جنون هذا ؟؟
ظللنا واقفين فترة هكذا ، أنا لا أجرؤ على قول شيء و لا الانصراف ، و هي لا ترفع عينيها عن الأرض...
نفحات الهواء الباردة أخذت تصافح جسدي و تطفئ اشتعاله.. و هبّت على الوشاح الذي تلفه أروى حول رأسها فتطايرت أطرافه.. كاشفة عن خصلات ذهبية ملساء انطلقت تتراقص مع النسيم ..
غضضتُ بصري بسرعة ، و استدرت جانبا و قلت :
" أنا آسف "
" لم ؟؟ "
قالتها بتعجب ، فكساني تعجبها تعجبا !
أعدت النظر نحوها فوجدتها واقفة في مكانها و قد ضبطت الوشاح حول رأسها بإحكام...
و لا تزال تبتسم بخجل !
تشجعت حينها و قلت :
" ألا تمانعين من الزواج من رجل مثلي ؟ "
قالت دون أن تنظر إلي :
" مثلك .. يعني ماذا ؟؟ "
قلت :
" فقير.. مشرد.. خريج سجون.. عاطل ! "
قالت :
" لكنك .. رجل نبيل يا وليد "
ثم ألقت علي ّ نظرة خجولة ... و انصرفت مسرعة !
في صباح اليوم التالي ، كنا أنا و العم إلياس ننظم أغصان بعض الأشجار...و كان الموضوع يلعب برأسي منذ الأمس... و كنت أحاول التقاط أي خيط من الكلام لفتحه أمام العجوز ..
و ربما هو لاحظ ارتباكي إلا أنه لم يعلّق..
قلت :
" أليس لديكم أقارب آخرون يا عمي ؟ "
قال :
" هنا ؟ لا يوجد . إنني و أختي كما تعلم من خارج البلدة و لا أهل لنا هنا . نديم رحمه الله كان يقطن المدينة الساحلية هو و عائلته قبل استقراره هنا في هذه المدينة قبل زمن طويل .. و هو الآخر لم يكن لديه أقارب كثر "
و المدينة الساحلية هي مدينتي الأم
قلت :
" و ماذا عنك ؟ ألم يكن لديك زوجة و أبناء ؟ "
قال :
" زوجة رحمها الله. لم أرزق الأبناء بقضاء من الله. الحمد لله "
ثم أضاف :
" لذلك أحب ابنة أختي حبا جما .. و أسأل الله أن يرزقها زوجا صالحا أطمئن إلى تركها معه بعد فنائي "
قلت بسرعة :
" أطال الله في عمرك عمّاه "
قال :
" فقط إلى أن أزوّجها و أرتاح "
و غمز إلي بنظرة ذات معنى !
احمر وجهي خجلا.. فصمت ، أما هو.. فنظر بعيدا مفكرا و قال :
" أنا قلق عليها و على مستقبلها .. إنها فتاة بلا سند.. أريد أن أزوجها بسرعة لرجل جدير بالثقة.. أأتمنه عليها.. "
و نظر نحوي.... يقصدني !
قلت متلعثما :
" أأ أحقا لا تمانع من زواجها من.. من .. "
أتم العم الجملة :
" منك يا وليد ؟ مطلقا.. فأنت رجل خلوق و مهذّب . بارك الله فيك "
قلت مترددا :
" لكنني .. كما تعرف "
قاطعني :
" لا يهم ، فهاهي المزرعة أمامك اعمل بها عملا شريفا نظيفا و إن كان بسيطا.. و إن كنت تود العمل في مكان آخر فاسع يا بني و الله يرزقك "
طمأنني قوله كثيرا .. تماما كما كانت كلمات نديم رحمه الله تبعث في نفسي الطمأنينة في سني السجن ...
قلت أخيرا :
" لكنني.. خرجت من السجن "
قال :
" نديم كان في السجن أيضا ، و لم أر في حياتي من هو أشرف منه و لا أحسن خلقا "
ابتسمت .. للتقدير و الاحترام اللذين يكنهما هذا الرجل لي.. و اللذين رفعا من معنوياتي المحطمة بعد كلمات دانة الجارحة ...
العم ابتسم أيضا و قال و هو يصافح يدي :
" أ نقول على بركة الله ؟؟ "
~ ~ ~ ~ ~ ~
" ماذا عنّي أنا ؟؟ تتركيني وحدي ؟؟ "
سألتُ دانة التي تقف أمام المرآة تجرّب ارتداء فستان السهرة الجديد ، الذي اشترته لارتدائه في الحفلة البسيطة ... يوم الغد
لم تكن تعيريني أي اهتمام.. و خلال الأيام الماضية عوملت معاملة جافة من قبلها و قبل سامر .. بتهمة الخيانة !
" دانة أحدّثك ! ألا تسمعين ؟؟ "
" ماذا تريدين يا رغد ؟ "
" لا أريد البقاء وحدي هنا "
" سامر معك "
قلت باستياء :
" لا أريد البقاء مع سامر بمفردنا "
الآن التفتت إلي و قالت :
" إنه خطيبك .. فإن كنت لا تثقين به فهذه مشكلتك ! "
شعرت بضعف شديد و قلة حيلة .. فوليد ، الشخص الذي كان يقف إلى جانبي و يتولى الدفاع عني قد اختفى.. و لابد لي من الرضوخ لقدري أخيرا...
خرجت من غرفتها و ذهبت إلى غرفتي، و من هناك اتصلت بوالدي ّ و طلبت منهما أن يعودا بأي وسيلة.. لأنني وحيدة و تعيسة جدا..
و يا ليتني لم أفعل ...
بعد ذلك ، جاء سامر إلى غرفتي يحمل علبة هدّية ما ...
كان يبتسم .. اقترب مني و حاول التحدث معي بلطف و كرر الاعتذار عما بدر منه تلك الليلة ، إلا أنني صددته بجفاء.
" وفر هداياك يا سامر .. فأنا لن أقتنع بفكرة الزواج بهذا الشكل مطلقا.."
غضب سامر و تحوّل لطفه إلى خشونة و نعومة حديثه إلى قسوة..
قال :
" حين يعود والداي سيتم كل شيء "
قلت :
" حين يعود والداي سينتهي كل شيء "
سامر فقد السيطرة على أعصابه و زمجر بعنف :
" كل هذا من أجل وليد ؟؟ "
ونظرت إليه نظرة تحد ٍ لم يستطع تجاهلها..
أطبق علي بقسوة و قال :
" و إن تخليت ِ عني ، لن أسمح له بأخذك مطلقا .. أتفهمين ؟؟ "
" بل سأطلب منه أن يأتي لأخذي فأنا لن أعيش معك بمفردي "
" رغد لا تثيري جنوني.. لا تجعليني أؤذيك .. إنني أحبك .. أتفهمين معنى أحبك ؟ "
هتفت :
" لكني أحب وليد .. ألم تفهم بعد ؟؟ "
سامر دفع بي نحو السرير ، و تناول علبة الهدية و رطمها بالجدار بقوة ...
قال :
" ماذا تحبين فيه ؟ أخبريني ؟؟ ماذا رأيت منه جعل رأسك يدور هكذا ؟؟ "
ثم أقبل نحوي و هزني بعنف و هو يقول :
" أ تحبّين رجلا قاتلا ؟ مجرما ؟ سفاحا ؟؟ "
صرخت بفزع :
" ما الذي تقوله ؟؟ "
قال مندفعا :
" ألا تعلمين ؟؟ إنها الحقيقة أيتها المغفلة .. كنت ِ تظنين أنه سافر ليدرس في الخارج ..طوال تلك السنين .. أتعلمين أين كان وقتها ؟؟ أتعلمين ؟؟ "
كان الشرر يتطاير من عيني سامر .. المرة الأولى في حياتي التي أرى فيها عينيه بهذا الشكل ... أصابني الروع من نظراته و كلماته ..
أتم جملته :
" لقد كان في السجن "
صعقت ، و لم أصدّق ... هززت رأسي تكذيبا ، إلا أن سامر هزني و قال بحدة :
" نعم في السجن .. ثمان سنوات قضاها مرميا في السجن مع المجرمين و القتلة.. ألا تصدقين ؟ اسألي والدي ّ .. أو اسأليه هو.. في السجن يا رغد.. السجن.. و قد أخفينا الأمر عنكما أنت و دانة لصغر سنكما "
صرخت غير مصدقة ..
" كلا .. كلا .. أنت تكذب ! "
قال بحدّة :
" تأكدّي بنفسك.. و لسوف تندمين على صرف مشاعرك على قاتل متوحّش "
دفعت سامر بعيدا عني و ركضت مسرعة نحو غرفة دانة ، التي كانت لا تزال أمام المرآة ...
" دانة "
هتفت بقوة أجبرتها على الالتفات إلي بشيء من الدهشة و الخوف ...
قلت :
" وليد .. وليد... "
فزعت دانة ، قالت :
" ما به ؟؟"
قلت :
" كان في السجن ؟؟ "
دانة تحملق بي في دهشة و عدم استيعاب .. صرخت ُ :
" وليد كان في السجن ؟؟ أخبريني ؟؟ "
ظهر سامر من خلفي فنظرت إليه دانة
قال :
" أخبريها فهي لا تصدقني "
دانة جالت ببصرها بيننا ثم قالت :
" أجل... لثمان سنين .. "
صرخت :
" لا ! "
قالت :
" بلى ، و بجريمة قتل "
" مستحيل ! "
لم أشأ أن أسمع .. أن أفهم .. أن أصدق .. أن أدرك ..
دارت بي الدنيا و تراقصت الأرض و تمايلت الجدران.. و أظلمت الأنوار.. و لم أشعر بنفسي إلا و سامر يمسكني بسرعة و يجلسني أرضا ...
بدأت الأنوار تضاء.. و بدأت أسمع نداءاتهما و أرى أعينهما القلقة حولي.. و أحس بأيديهما الممسكة بي ...
" رغد حبيبتي تماسكي "
" رغد ماذا جرى لك ؟؟ "
" ابقي مسترخية "
" اسم الله يحفظك "
أنت تقرأ
انت الي
Rastgeleمن أروع الكتابات د. منى المرشود توفي عمي و زوجته في حادث مؤسف بل شهرين و تركا طفليهما الوحيده (رغد) والتي تقترب من ثالثة من عمرها... لتعيش يتيمه مدى الحياة. انا و اخواتي لا نزال صيغار و لأنني اكبرهم سناً فد تحولت فجأة إلى (رجل راشد و مسؤول). كنا...