"من أين تأتي الفِكر؟"لإجابة هذا السؤال سنسافر إلى مدينة أثينا الإغريقية ثم إلى رينجتون الإنجليزية لنتفلسف قليلا.
يرى اليونانيّ أفلاطون، أبو الفلسفة، أن أصل المعرفة هو الذهن أي أن كل الفِكر والمعلومات متواجدة بالفعل في العقل الإنسانيّ وتحتاج فقط إلى حافز بسيط ليتذكرها.
أما البريطانيّ جون لوك، فيعتقد أن عقل الإنسان يولد صفحة بيضاء ثم تكتب عليها تجاربه في الحياة التي عايشها بحواسّه فتصير صورا ذهنية.
سواء آمنتَ أنّ مصدر الفِكر هو الذهن أو الواقع، فآلية استنباطها متشابهة -إن لم تكن متماثلة- وهي:
"التأمّل"
والتأمّل يكون إما خياليّا أو حسيّا. فما تقوم به من تصورّات لأسباب الوجود وتوقعات لمستقبلك قبل الخلود إلى النوم يسمى تأملا خياليّا، فالآلة التي تسمح بحدوثه هي ذهنك. أما تجوّلك في الواقع واعتمادك على أحاسيسك في التعرّف على الطبيعة فيُسمى تأملا حسيّا، لأنك تتّكِل فيه على حاسة السمع وغيرها.
لذا، بتعبير أبسط: حتى تجِد فكرة لروايتك، يجب أن تفكّر.
لا أن تنتظر وقوعها على رأسك من كوكب المرّيخ أو تأخذها من آخر كتاب رأيت فيه تفاعلا من قِبل القرّاء. فعندما تتريّثُ للحظة وتسمح لعقلك بالتأمّل سيتعوّد على التفكير المعمّق في حقائق الأمور وبالتالي ستتبادر الفِكر إليك تلقائيا.
وهنا يُطرح سؤال آخر:
"من أين تأتي الأفكار العظيمة؟"والإجابة ليست وصفة سحرية أو تقنية فضائية نادرة التداول بل هي فقط هذه النصيحة:
أكتب ما أنتَ شغوف به.فالكاتب في الأصل فنّان، أي أنه شخص لديه القدرة على تحويل شغفه بشيء ما إلى ما يمكن للآخرين الإحساس به والتضامن معه. مثلا إذا أخبرتُك أنني شغوفة بالـ «بان كيك» فلن تشعر فعلا بمقدار الحب الذي أكنّه لهذه التحلية، أما إن كتبتُ قصة عنها -لنقل أن حِصناً من البان كيك كان الحل الوحيد لإبعاد الغيلان عن مملكة الجنيات وإنقاذها، فالغيلان تكره رائحته الحلوة والعسل الذي يقطر منه- عندها ستفهم شعوري تجاهها ولن تراني غريبة أطوار.
إذا لتجد ما تكتب عنه، اطرح على نفسك هذا السؤال: ما هو شغفي؟
هل حيوانك المفضل هو الذئب؟ إذا يمكنك كتابة قصة عن تحوّلك فجأة إلى مستذئب.
تُحِبّ الماء وتسترخي مطوّلا فيه؟ فلتصبح في روايتك حوريّ بحر أو لتخض مغامرة في استكشاف أطلانتس، المدينة الضائعة.
لديك هوس بالتكنولوجيا والميكانيكيات الطائرة؟ أنت الآن بطل رواية خيال علميّ وصانع المركبة «تايفون» التي يمكنها الصمود داخل الثقوب السوداء.مهما كان شغفك، اعتمد عليه في كتابة رواية خيالية عظيمة.
لكن يبقى في طريق الكاتب عائق مألوف وهو الابتذال، أي توظيف ما هو مستعمل بكثرة ومألوف لدى القرّاء. هذا عائد لكون الأغلبية من البشر «خرفان»، يتبعون القطيع دون تشكيك في وجهتهم فيجدون أنفسهم إما بين أنياب الذئب أو في نفس المرعى الذي يقصدونه كل يوم. فهنا، أنياب الذئب تمثّل وصولهم لنهاية مسدودة لا يعرفون كيفية التقدّم منها لأنهم لم يختاروا فكرة يجيدون الكتابة فيها بل اختاروا آخر صيحة في الروايات فقط. والمرعى نفسه يُقصد به حبكة، شخصيات ونهاية مألوفة فلا شيء يميّز ما كتبه عن غيره.
هذا لا يعني بالضرورة أنه إذا تشاركت قصتان في نفس الفكرة فإحداهما أو كلاهما مبتذلة، فالفِكر ليست ملكيّة خاصة لعقل شخص ما؛ كما توصّل فلان إلى أن النجوم بعيدة عن الأرض فيُمكن لغيره التوصل إلى نفس الاستنتاج دون أن تربط بينهما أية علاقة. لكن ما يجعل القصتين تختلفان فعلا هو طريقة طرحهما.
لنعتمد مثال قصة الأميرة التي تنتظر فارسا يمتطي جواداً أبيضا ليُنقِذها من فكّ التنين أو قبضة الساحرة الشمطاء -ملخّص جميع قصص ديزني، إلا أننا أحببنا كلا منها بصفة خاصة-.
كاتب يهتمّ بالأوضاع الاجتماعية في بلده قد يطرح الفِكرة على أنها استضعاف للنساء ودليل أن القوة للرجال فقط، ثم من خلال قوس عاطفيّ -لنقل تكبّر الأمير عليها وتذكيره لها دوما بأنها لم تكن لتبقى حيّة من دونه- تصبح شخصيّة الأميرة أصلب وتأبى تقبّل استحقار أميرها لها فتعود إلى قصر التنين لتمتطيه ثم تحرق مملكة زوجها المُعادي للنسويّة، أو تأخذ تعويذة من كتاب الساحرة الشمطاء وتحوّله إلى امرأة حتى يفهم معاناتها.
أما كاتب مولعٌ بالتاريخ فسيربط بين الفِكرة وبين حدث تاريخيّ شهير. بعد هرب الأميرة من برج التنين يقوم نافث النيران بملاحقتها إلى مملكة أميرِها ويتركها رماداً تنثُره الرياح، وهنا احترقت مكتبة الإسكندرية العظيمة. أو أن الساحرة الشمطاء لعنت جيوش الأمير بالفشل فتمكّن 300 جنديّ فقط من هزيمتهم جميعهم كما في «معركة ثيرموپيلاي» بين الإغريق والفُرس.
فمجددا، شغف الكاتب هو ما يجعل كتابته عظيمة ويُميّزها عن غيرها التي قد تُشارِكها في الفكرة أو غيرها.
والسبيل لتجنّب الابتذال هو أن تكون عليما بالفئة التي تكتُب فيها، تعرِف الفِكر المتكررة وطرق طرحِها المختلفة حتى تستطيع الإتيان بما يُخالِف العادة والتقاليد. وهذا يتم بخطوة بسيطة ألا وهي: المُطالعة.
طالِع كل ما يقعُ بين يديك مهما كان مصدره وخاصة إن كان غير مألوف لك، كي تدرك أن كذا فكرة وكيفية معالجتها فعلا مبتذلة وأن أخرى فعلا حديثة وفريدة. لا أن تقرأ قصص الواتباد العربيّ المترجمة أو المأخوذة من الأفلام والرسوم المتحركة ثم تخبرني أن فلاناً كاتب عظيم جاء بفِكَره من بُعد آخر، بينما أنت في الحقيقة لا تفقه شيئا في تلك الفئة وما تراه جديدا هو فِكرة مُغتصبة من قِبل سبعٍ وسبعين مليون كاتب وكرتون.
لذا رجاء، قليل من التواضع يا كتّابنا الأعزاء وأقلّ من الجهل يا قراءنا الأحبّاء.
والآن، يمكنكم التمرّن على طرح الفِكر بطرق مميزة بأن تكتبوا قصة باستعمال إحدى الفِكر التي نشرناها لكم في كتابنا «أقلام فانتازية» وتنافسوا فيما بينكم -أيّ منكم يمكنه طرحها بأجمل كيفية وأكثرها تميّزاً؟-
إلى الفصل القادم، براونيز.💜🔮
عمّا تريدونه أن يكون؟