وظل الأمر كله معلقا في سقف أيامهما ولياليهما طوال أسبوع .
يأكلانه مع طعامهما ويعلكانه وينامان معه ولكنهما لم يتكلما حوله أبدا ، وليله أمس فقط قال لها : "-لنذهب غدا الى حيفا ، نتفرج عليها على الأقل ، وقد نمر قرب بيتنا هناك .
أنا أعرف أنهم سيصدرون قريبا قرار يمنع ذلك كله . فحساباتهم لم تكن صحيحه ."
وصمت قليلا ، وليس يدري إن كان راغبا حقا في تغيير الموضوع ، إذ سمع نفسه يمضي في كلام آخر : "-في القدس ونابلس وهنا يتحدث الناس كل يوم عن نتائج زياراتهم الى يافا وعكا وتل أبيب وحيفا وصفد وقرى الجليل والمثلث .
كلهم يقولون كلاما متشابها ويبدو أن أفكار كل منهم كانت أحسن مما رأوا بأم أعينهم . جميعهم عادوا يحملون خيبة كبيرة .
إن المعجزة التي يتحدث عنها اليهود لم تكن إلا وهما .
في البلد هنا ردة فعل سيئه جدا ، وهو عكس ما أرادوه حين فتحوا حدودهم أمامنا . لذلك فأنا أتوقع يا صفية أن يلغوا ذلك القرار قريبا جدا ، وهكذا قلت لنفسي لماذا لا نقتنص الفرصة ونذهب؟ ."
وحين نظر إلى صفية رآها ترتجف ، وشهد وجهها يميل بوضوح للاصفرار ، فخرج من الغرفة ، إذ أحس هو الآخر بدموع حارقه تسد حلقه .
ومنذ تلك اللحظة لم يكف اسم " خلدون" عن الدق في رأسه ، تماما مثلما كان قبل عشرين سنة حين سمعه يدق المرة تلو الأخرى فوق الزحام المتدفق أمام مياه الميناء الباكية.
ولا شك أنه كان كذلك بالنسبة لصفية ، وقد تحدثا طوال الطريق عن كل شيء ، إلا عن خلدون .
وقرب " بيت غاليم " فقط التزما الصمت ، وها هما الآن ينظران صامتين إلى الطريق التي يعرفانها جيدا والملتصقة في رأسيهما كقطع من لحمهما وعظامهما .
ومثلما كان يفعل قبل عشرين سنة تماما خفف سرعة سيارته إلى حدها الأدنى قبل أن يصل إلى ذلك المنعطف ، الذي كان يعرف أن سفحا صعبا يكمن وراءه .
وانعطف بسيارته كما كان يفعل دائما وتسلق السفح محتفظا بالموقع الصحيح في الطريق الذي أخذ يضيق .
وكانت أشجار السرو الثلاث التي تنحني قليلا فوق الشارع قد مدت أغصانا جديده ، ورغب أن يتوقف لحظه كي يقرأ على جذوعها أسماء محفورة منذ زمن ، ويكاد يتذكرها واحدا واحداً ، ولكنه لم يفعل .
وليس يدري كيف حدث الأمر ، ولكنه بصورة ما تذكر حين مر قرب باب يعرفه ، شخصا من بيت الخوري كان يسكن هناك ، وكانت عائلته تمتلك بناية كبيرة جنوب طريق ستانتون ، قرب شارع الملوك .
وفي تلك البناية -يوم الفرار - تمترس المقاتلون العرب وقاتلوا حتى آخر رصاصة وربما آخر رجل.
