زميلتي في القطار ، تعشق مقطوعات موزارت ...
بمجرد أن تطأ قدميها عتبة القطار ، تضع السماعات، و تحلق إلى عالم الألحان ...
و أنا المغلوب على أمري الغلبان ، يتراقص نبض قلبي مع كل همهمةٍ ، و دندنةٍ تخرج من ذاك الفم الفتان ...
و لأن من أعجبتُ بها تعشق تلون الطبيعة ، بتلون المناخ ...
مقطوعتها المفضلة، كانت الفصول الأربعة، و لا تحتاج للذكاء لتخمن الجواب ...
كان أول لقاءٍ لنا في فصل الشتاء، حيث تنتشر المروج البيضاء ، و يسدل السواد ستائره على زرقة السماء ...
و لأنني أخشى على حلوتي من لسعات برد الشتاء عند هطول الأمطار ، كنتُ أعيرها مظلتي في كل صباح ، فهي كثيرة النسيان ...
و لما حل فصل الربيع بألوان الزهر و الشجر البهيج ...
لم أجد حججاً لخطف الكلمات من شفتيها، إلا أن اتنازل عن مقعدي بالحافلة المزدحمة لأجلها هي ...
و لا أنكر أني كنتُ استمتع بتلك اللحظات ، حيث تجلس جميلتي بمحط نظر مقلتاي، لأسرق بسهولة عدة نظرات ، اشبع بها القلب المشتاق ...
و في حلول فصل الصيف ، حيث يذيب بحره الجليد و يزيل البرد و الصقيع...
ذاب قلب المنشودة ، و لكن ليس لهذا الملتاع ، بل لزميلي الذي جلس إلى جوارها طول فصل الألوان، أفلا أستحق الضرب لاتاحتي لهما فرص اللقاء ...
لأقضي فصل الصيف الطويل ، بمشاهدة غزَّل العصافير ، في رحلة الحافلة التي خلتها تستغرق عشر سنين بدلاً من العشرة دقائق ، للهبوط عند الرصيف ...
و بحلول فصل الخريف حيث بهتتْ الألوان ، و تساقطت الأوراق حزناً على قلبي الملتاع ، و سوء حظي الذي لا يطاق ...
فوتتْ بعيدة المنال ركوب الحافلة ليس لمرة بل لعدة مرات ، فهل تزوجا من وراء ظهري دون حتى أن اتلقى بطاقة الزفاف ؟
و لما طال المطال ، و قد ضقتُ ذرعاً من الانتظار ، قررتُ البحث عنها في الأرجاء ...
و لأجلها جربتُ ركوب كل الحافلات ، و لم أجد لها أي أثرٍ لا هنا و لا هناك ...
و لما يئستُ ، و قد بدأ برد الشتاء بالطرق على الأبواب ، قررتُ مقاطعة الحافلة ، و قد كرهتُ رؤية صرير بابها الذي لا يطاق ...
رأيتها هناك عند الرصيف ، تجلس عابسة الوجه ، و الدمع ينسدل على وجنتيها المتوردتين ...
و إذ بزوجي الحمام المتحابان ينفصلان قبل حلول الشتاء ، و كأن الشتاء قد منحني هذه الفرصة كهدية لعيد الميلاد ...
لأخرج سماعتي و أضع مقطوعة الفصول الأربعة لموزارت ،و على قارعة الطريق جلست الى جوارها ...
استمعنا إلى المقطوعة دون أن ننطق بالكلمات لعدة ساعات ، فقط تشاركنا السماعات ، و قد تشابكت القلوب ، و الأصابع معلنةً بداية الود و الوئام ...
و من يدري قد نصل إلى الهيام بحلول فصل الشتاء ، و تساقط الثلج على مدينة الضباب ...
٩/١/٢٠٢٠