الفصل 1

262 9 3
                                    

جالت أحاسيس ناعمة على خواطر إيمي ذات الشعر البندقي الطويل و العيون العسلية اللامعة .. تتأمل تفاصيل الفجر ذو الرائحة الربيعية المرفقة بإستفاق الطيور و تفتح
بتلات الأزهار الوردية
وخزت أختها تاتسو ثم اجفلت بإبتسامة مشرقة " انهضي ، انه ليس منظرا يمكن تفويته .."
اتكأت إيمي على جانب نافذة غرفتها ذات الطراز الياباني العتيق و اشرعت البصر لتأمل الطبيعة الفاتنة في مدينة "كيوتو" الواقعة على سهل يتوسط إقليما من الجبال العظيمة و مع اللمسة الأخيرة للمياه العذبة تصبح لوحة فنية بإمتياز ، أقصد بذلك نهرا "كاتسورا" و "كامو"
بعد لحظات نهضت تاتسو بجسدها الهزيل من على سريرها الذي هو في الأصل مجرد قطع من أغطية بالية تمت خياطتها مع بعضها البعض لتقف بجانب أختها الشاردة تماما .. حدقت بها
مع ملامح عابسة و مشمئزة لتقول بنبرة منخفضة " أهذا ما أيقظتني من أجله ؟ "
ردت إيمي بعد تنهيدة قصيرة " أجل .. أليس رائعا ؟ "
صمتت تاتسو لثوان و هي تفترس منظر الشروق بتحديقها الجامد حتى كسرت ذلك الصمت الخانق قائلة ببرود " ما المعنى من الفجر ؟ انه إشعار بأن حياتنا الأليمة ستستمر .. بأن البشرية ستواصل إراقة الدماء "
سكنت لثوان ثم اضافت بملامح بليدة " رغبتي الوحيدة هي ان تكون آخر مرة ارى فيها الفجر "
رفعت إيمي رأسها إلى تاتسو ببطء مبدية دهشة و خوفا شديدين ، لكن سرعان ما إبتسمت بعفوية و قالت " رغم أنني أكبر منك بأربع سنوات إلا أن أفكارك جنونية لدرجة الإعجاب ! "
قاطع حديثهما صوت الباب و هو يفتح ببطء مصدرا صريرا مزعجا .. إلتفتت إيمي لتهتف بمرح " أبي ، صباح الخير "
دخل الأب الخمسيني الغرفة محاولة عدم إظهار ضعفه و قال بابتسامة عريضة " إيمي ، تاتسو صباح الخيرات .. هل نمتما جيدا ؟ "
تقدمت منه إيمي و أمسكت يديه بحنان قائلة " أجل أبي لقد فعلنا "
مسح على رأسها بلطف و قال " هذا يسعدني .. أسرعا في ترتيب أسرتكما فقد حضرت الفطور "
ثم خرج بعد أن قال جملته الأخيرة التي جعلت الدموع تتلألأ في عيني إيمي ، مسحت دموعها بذراعها و همت في تنفيذ كلام والدها
*********************************
" في الجامعة أناس مقززون جدا " همست إيمي بينما تكافح للوصول إلى صفها بسبب الزحام في الرواق و عندما وصلت لقاعة المحاضرات وجدتها مكتضة جدا
تأففت بضجر قائلة " أهو يوم تسليم جوائز الحضور أم ماذا ؟ "
أخيرا وجدت مكانا حجزته لها صديقتها الوحيدة آكيمي صاحبة الشعر الأشقر القصير و عيونها الزرقاء التي تعتبر مميزة عن سائر من حولها
***********************************
في هذه الأثناء كانت تاتسو في الصف تعبث بأقلامها محدثة ضجة و إزعاجا لمن حولها ..
ضرب الأستاذ الشاب مكتبه بصفة مفاجئة تاركا خصلات غرته الرمادية القصير تتمايل ليدلك بعدها جبينه بينما يغمض عينيه و يقول " هل لي أن أعلم سبب ازعاجك لنا آنسة تيفاس "
حدقت تاتسو للأستاذ مواصلة طقطقة اقلامها ثم اجفلت بإشمئزاز واضح :" هذا ليس أقل ازعاجا من الحماقة التي ندرسها .."
أجاب الأستاذ بانزعاج " تفضلي الى مكتب المدير آنسة تيفاس "
نهضت من مقعدها و مرت بجانب الأستاذ فقط من أجل أن ترمي بشعرها الفحمي الطويل عليه بينما تخرج من الصف
بكبرياء ملفت .. هذه الفتاة لديها قاعدة جميلة " سأجعل خصمي يحسدني حتى على خسارتي "
***********************************
انتهت الحصص الجامعية لإيمي و كان يومها على وشك الانتهاء على خير .. حتى نطقت أكيمي بخبر جعل من هذا مستحيلا !!
أكيمي بتردد " لدي شيء لأخبرك به إيمي "
ردت إيمي و هي تتفحص أحد صفحات الفيس بوك على هاتفها " أها و ما هو ؟ "
إرتجفت شفاه أكيمي و هي تقول " لقد إتصل ب..بي شخص اليوم و قال أ..أنه يود التحدث إليك شخصيا "
أجابت إيمي بعد أن رفعت حاجبيها بإستهزاء " اوه لم أكن أعلم أني مشهورة لهذه الدرجة "
زاد ارتجاف أكيمي لتردف بتوتر " إنها .. والدتك إيمي "
توقفت إيمي عن السير و بدأ الشعور بالوهن يكتسح جسدها بالكامل ، إستجمعت ما تبقى من شجاعتها و ردت بإرتباك " أمي !! "
الصورة المقدسة للأم تبعث فيك الشعور بالراحة ، السلطة و العطف .. هي بمثابة سند لمن حولها ، أما بالنسبة لإيمي فهي مصدر تعاستها !!
وصلت إيمي في حدود الساعة الخامسة مساءا للبيت .. ولجت لغرفتها بهمجية ما زاد من صوت صرير الباب المزعج ، أخذت ترتجف كمن رآى شبحا و شعرها البندقي يتراقص على رأسها .. تخالجها أفكار سوداوية بينما تجلس على سريرها الذي لم يعد يسعها على أية حال
قاطعت تاتسو نوبة الهلع التي انتابت إيمي بصوتها الخافت " تعلمي البقاء هادئة بعيدا عن هذه الإنفعالات المزعجة يا إيمي "
رفعت إيمي رأسها بسرعة لتقول بنبرة مرتجفة " ت..تاتسو ، لم أنتبه لوجودك عندما دخلت ! "
تأملت إيمي أختها و كأنها تراها لأول مرة .. جالسة على حافة النافذة بجانبية و ترفع أقدامها لتتمكن من احتضان ركبتيها ، شعرها الأسود الطويل بالكاد تتمكن بضعة نسمات ربيعية دافئة تحريكه
إقتربت إيمي منها و قد زادت الدموع من لمعان عيونها العسلية لتردف بنبرة باكية " لن أدعها تأخذك مني أبدا ! "
أمسكت عن الكلام قليلا ثم أردفت بعدوانية " لن أسمح لها بذلك !! "
بقيت تاتسو تطالعها دون أن تنطق بحرف واحد
***********************************
" عليكم بالاحماء جيدا ، لا اريد لأي أحد منكم أن يصاب بشد عضلي "
صرخت إيمي بينما تراقب تلاميذها الذين تتراوح أعمارهم بين الخمس سنوات و العشرين سنة
و بينما هم يركضون همس أحد التلاميذ لصديقه " ألا تبدو المدربة غاضبة اليوم ؟ "
أجابه صديقه بتفكير " أجل بالفعل .. هل عاد إليها مرضها القديم أم ماذا ؟ "
زجرت إيمي بينما تحدق إليهما بغضب " لا يسمح بالثرثرة أثناء التدريب !! "
أجاب التلميذان بتوتر " آسفان يا مدربة "
تستعيد إيمي تيفاس كل قوتها و رغبتها في الحياة من هذا المكان .. "مركز التدريب للفنون القتالية" ، تعمل فيه منذ عامين فقد تم قبولها من أول يوم بسبب مهاراتها و خبرتها في الكونغ فو الذي تعلمته منذ صغرها على يدي والدها السيد لين
بعد لحظات توجهت إيمي الى غرفة المعدات لإحضار العصي الخاص بالتدريب ..
" و أخيرا وجدتها .. لما لا يكلفون أحدهم بتنظيف و ترتيب هذه الأغراض ، المكان فوضوي جدا هنا ؟! " قالت ذلك بينما توشك على الخروج من الغرفة و خلال ذلك قطع السيد آرثر _ و هو رجل في حدود عمر السيد لين _ طريقها بأسلوبه الفظ و ملامحه العابسة ليقول بنرة مخيفة " لديك إتصال يا آنسة .. تيفاس "
صرخت إيمي و اتخدت وضعية دفاعية ثم قالت بغضب " سيد آرثر في المرة المقبلة التي تفعل فيها هذا أرجوك ضع جرسا حول عنقك أو معصمك .. لو سمحت !! "
رمقها بنظرة مخيفة ثم إقترب منها ليقول " إياك و أن تملي علي ما أفعل آنسة تيفاس .. فهذا إجرام في حق نفسك !! "
حاولت إيمي جاهدة إخفاء خوفها لكن مع شفاهها و يديها المرتجفة فقد بات هذا مستحيلا
رمى آرثر نظره الى يديها المرتعشة ثم قال " يبدو أن عليك زيارة ا لطبيب .. فكما تعلمين المركز لا يقبل أي مرضى "
ثم ذهب بهدوء و سلاسة بعد أن عادة إليه ملامحه العابسة ، انحنت إيمي لتهمس بينما تلتقط العصي التي وقعت منها " السيد آرثر سيسبب لي صدمة قلبية ، أنا واثقة "
***********************************
واقف على حافة الرصيف و يرفع يده اليسرى ليستقل سيارة أجرة .. و بعد طول انتظار توقفت سيارة عنده فقال بصوت باهت " مساء الخير سيدي ، بكم تأخذني إلى مستشفى الأمراض المستعصية ؟ "
ألقى السائق نظرة فاحصة على هيئة الرجل الواقف أمامه .. ثياب بالية ، صحة متدهورة و لا يملك حتى محفظة لوضع نقوده فهو يحملها في كفه
بعدها قال بإستهزاء " و كم يمكنك أن تدفع أيها العجوز ؟ "
أخذ السيد لين بحساب العملات التي بين يديه تحت أنظار السائق المستفزة ثم قال " هل أربع عملات تكفي ؟ "
صرخ السائق بغضب " أربعة ين !! هل تستهزء بي أم ماذا أيها العجوز ؟ "
رد السيد لين بنبرة مرتجفة " هذا كل ما أملك .. أرجوك هل تستطيع أخذي ؟ "
رد السائق بثقة مقرفة " أنصحك بالذهاب لدار العجزة فهذه الحياة لن ترحم عجوزا ضعيفا مثلك !! "
ثم انطلق بسرعة ليغرق السيد لين في سحابة من الغبار .. أخذ يسعل بشدة واضعا يده على فمه ثم نظر لعملاته و همس بيأس " كنت أريد أن أبقي على ين واحد لأكرمه به "
تنهد بعمق ثم حدق بالطريق الطويلة أمام و أكمل " يبدو أني سأذهب سيرا على الاقدام .. مرة أخرى "
********************************** تتمشى بثقة و كبرياء بينما تحدق للفراغ بعيونها البنية الممزوجة بخيوط صفراء و كأنها شظايا قنبلة استقرت هناك .. تفضل دائما أن تمشي بجانب ضفة نهر " كامو " فهو المكان الوحيد المنعزل عن ضجة الجنس البشري ..
في هذه الاثناء سمعت تاتسو شيئا عكر صفو الهدوء المخيم على المكان .. صوت شاب يتكلم بنبرة متبجحة مع رشة من الغرور " أظن أن هذا المكان مناسب جدا لالتقاط صورة لي .. أليس كذلك يا سوو "
إستدارت تاتسو محدقة الى الشاب طوال ثواني الصمت الخانق ثم اجفلت بإستياء واضح :" إبحث عن مكان آخر لأخذ صورتك الغبية .. هذه منطقتي الخاصة "
***********************************
في هذا الوقت دخلت إيمي الى غرفة الاستعلامات لتقول بنبرة جامدة " من أين جاءني الإتصال الهاتفي "
كانت الغرفة مليئة بالضجة و ثرثرة الموظفين التي لا تنتهي ، تجاهلها الكثير و لكن أحدهم لوح لها و صاح قائلا " هنا .. هنا الاتصال يا آنسة "
اتجهت ناحيته ثم حملت الهاتف و قالت مشيرة لآخر رقم " أهذا هو ؟ "
أومأ بالإيجاب فاتصلت عليه ..
بعد ثوان سمعت صوت إمرأة أنثويا للغاية يقول بجدية " مرحبا .. هل الآنسة إيمي تيفاس موجودة ؟ "
ردت إيمي بعدم اهتمام " أجل .. أنا هي ، من أنت ؟ "
صمتت السيدة قليلا لتقول بصوت خافت متقطع " أنا أماندا .. أماندا تيفاس "
ارتجفت فرائص إيمي و إستندت على المكتب لتقاوم الضعف الرهيب الذي انتابها لتهمس بإرتباك " أ..أمي !! "
************************************
إلتفت الشاب الوسيم ذو الملابس الراقية و ربطة العنق الرسمية مع شعره البني المسرح للخلف بدقة و عيونه المستوحاة من لون السماء ليرى أمامه فتاة متمردة ، في عيونها شرارة نار متوهجة أما ملامحها فقد إكتسحها الغضب بالكامل
إبتسم الشاب بسخرية ثم قال بينما يرفع أحد حاجبيه " أخبرني سوو , هل ترى أي لافتة تشير إلى أن المكان ملك لأحد ؟ "
أجابه مرافقه الشاب ذو الشعر الرمادي الذي يصل إلى رقبته و العيون الصفراء المتوهجة كالشمس بعد أن انحنى إنحناءة بسيطة " لا سيد جيرو.. لا توجد لافتة كهذه "
قامت تاتسو بهدوء مقتربة من الشابين ذوي الثياب الأنيقة و دفعت المدعو جيرو بلكمة عنيفة ثم صاحت :" سافلان !! ابتعدا عن منطقتي !"
تحسس جيرو الجرح الذي أحدثته تاتسو في شفته السفلى ليكتم غضبه ثم يقول " سوو فل تلقن هذه المتوحشة درسا ! "
نظر سوو الى سيده مطولا ثم حول نظره لتاتسو .. فجأة إنحني أمامها تاركا خصلات شعره الرمادية تنحني معه ثم قال بنبرة أسرت قلب تاتسو للحظات " أعتذر نيابة عني و عن سيدي على إقتحام أراضيك .. إسمحي لنا بالمغادرة الآن "
رمقه جيرو بنظرة استغراب لتتحول بعدها لنظرات عتاب شديد
بعد لحظات رفع سوو رأسه ليرمي بنظرة خاطفة على تاتسو التي تراجعت للخلف من شدة الغرابة
أخذ جيرو يعاتب مرافقه لعصيان أوامره و شيئا فشيئا إختفى أثرهما في الأفق مع ظهور شفق الغروب..
رمت تاتسو حقيبتها المدرسية بغضب ثم اردفت بإستهزاء مقترن بشيء من الهستيرية :" تعال الي ايها الأخ !! أرني عضلاتك !"
***********************************
في مستشفى الامراض المستعصيه ، كان السيد لين يقف محتارا أمام غرفة الفحص بينما يضع يده اليسرى على صدره _ تماما في موضع القلب _ فكر كثيرا و في الاخير قرر ان يدخل الى الغرفه .. طرق الباب بهدوء و لباقة شديدن ليجيبه صوت من الداخل يقول " تفضل "
فتح السيد لين الباب ليشاهد امامه طبيبا في نفس عمره تقريبا .. ظهر بعض الشعر الابيض على مقدمة راسه لكنه لم يزده الا جاذبية و هيبة ..
سرعان ما نهض من مكتبه فور رؤيته لضيفه و قد ارتسمت ابتسامة عريضة على محياه ، صافح يد السيد لين ليقول مرحبا بحرارة " أهلا أهلا سيد لين ، لم أرك منذ مدة طويلة "
أشار إلى الكرسي بجانب المكتب ثم أكمل " إجلس هنا و دعنا نتحدث "
جلس السيد لين و قال بنبره خجولة " اه ايها الطبيب لقد اشتقت لتبادل اطراف الحديث معك "
ابتسم الطبيب اكثر ثم قال بنبرة مرحة " أنت من أطال الغياب عني هذه المرة "
عبس السيد لين بعد سماعه لكلمات الطبيب التي لامست قلبه .. أكمل الطبيب قائلا و قد تغيرت نبرة صوته " اسمعني جيدا .. انت مصاب بمرض القلب التاجي و هذا يعني ان لديك ضعفا في الدورة التاجية او الدورة الدموية ، لهذا المرض انعكاسات سلبية كثيرة على صحتك وعلى جسدك .. اذا لم تبدأ بالعلاج فورا فانا لن اضمن لك ما سيحدث و أنت تعلم هذا جيدا "
تنهد المريض بعمق ثم قال بيأس " و أنت أيضا تعلم جيدا أنني لن اتحمل تكاليف العلاج أيها الطبيب ، بالكاد أستطيع تدبير ثمن بعض الأدوية إضافة إلى فواتير الكهرباء و الماء "
أجاب الطبيب بنبرة معاتبة " أخبرتك أنني من سؤجري لك عملية القلب المفتوح مجانا و سأتكفل كذلك بأدويتك "
رد السيد لين مبديا ثقة كبيرة " تعلم جيدا أنه سيبقى دينا علي حتى أموت ، لن أخاطر بقبوله مع علمي أني لن أتمكن من تسديده فأنا لا أملك وظيفة مستقرة "
تنهد الطبيب و جال ببصره في السقف بينما يردد في نفسه " لم أرى في حياتي عزة نفس كالتي عند هذا الرجل "
***********************************
" ألو .. ألو .. إيمي ! هل مازلت معي ؟ " رددت السيدة أماندا هذه العبارة عدة مرات بينما تكاد إيمي تغرق في عرقها المتصبب من جبهتها و رقبتها
بعد مضي دقيقة واحدة فقط .. تغيرت ملامح إيمي ، صكت على أسنانها و إعتلتها علامات الغضب العارم لتخرج أخيرا تلك الصيحة المكبوتة منذ سنوات
صرخت قائلة بعدوانية " لا أريد سماع صوتك مجددا .. أنا أكرهك !! "
وضعت الهاتف على المكتب بعنف شديد ثم أخذت تتنفس بسرعة كبيرة و كأنها كانت في سباق ليعم الصمت المكان بعدها ، تعلقت عيون كل الموظفين على هذا المشهد الغريب و كل واحد منهم يتملكه فضول أكثر من الآخر
بعد ثوان معدودة هدأت إيمي و عادة لطبيعتها اللامبالية .. تنهدت ثم رمت شعرها البندقي الى الخلف لتخرج بعدها من غرفة الاستعلامات متجهة لأداء عملها
مشت في الرواق القصير بعدم إتزان و العرق لا يزال يتصبب منها .. في لحظة من الزمن قطع السيد آرثر طريقها بنفس الاسلوب الفظ ليقول بنبرة متسائلة " آنسة تيفاس ؟ "
لم تتوقف ٱيمي عن السير بل تابعته كما لو أنها لم تره ، فجأة أمسك آرثر بمعصمها كرد فعل لإيقاف حركتها لكنها إلتفتت اليه بسرعة مجهزة لكمة تشق طريقها بإتجاه وجهه تماما لكنه أمسك قبضتها في آخر لحظة و لم تتغير ملامح وجهه العابسة
و بينما كلتا يدي إيمي في قبضتي آرثر صرخت قائلة " اااه ماذا تريد مني ، قل ؟ "
بعد لحظات رد آرثر بنبرة عادية هذه المرة " شفتاك "
تفاجأة إيمي و إحمرت وجنتاها لتصرخ في وجهه بشيء من الخجل " ماذا !! "
أجاب آرثر بسرعة " إن شفتاك مازالتا ترتعشان .. قولي الحقيقة آنسة تيفاس ، هل عاد مرضك القديم ؟ "
إزدادت وتيرة تنفس إيمي لتقول بصوت خافت " هاه .. لم يعد و لن يعود ! "
و بعد آخر حرف خارت قواها و سقطت كالزهرة الذابلة بين يدي السيد آرثر
حل ظلام الليل و ظهرت السماء بشكلها الحقيقي " سوداء حالكة " لا يرى فيها أي ضوء عدا ضياء البدر المكتمل
في هذا الوقت عاد السيد لين لبيته _الذي كان شبيها بثقب أسود صغير_ و منظره يوحي بأنه قد استنزف كل قواه في شق طريقه الطويل
اقترب من الباب ليدخل فوقع بصره على شيئا ما مرمي على الأرضية الخشبية المهترئة .. انحنى ليلتقطه و لكن الآلام في مفاصله جعلت من العملية أصعب ..
بعد عناء أمسك به فوجده ظرفا بريديا ، هنا بدأت أفكار و تساؤلات كثيرة تدور في رأسه بينما يخاطب نفسه قائلا " من قد يرسل لنا رسائل غير شركات المياه و الكهرباء و الغاز ؟ .. أيعقل أنني رسوت بقارب الصيد في مكان مخالف ؟ " .. لكن كل هذا تلاشى عندما قام بقلب الظرف للجهة الأخرى و رآى إسم المرسل ، مكتوبا بالأحرف اللاتينية " AMANDA " .. في تلك اللحظة شعر بقلبه يوشك على إختراق عظام صدره ، زيادة ضربات قلبه خطر على صحته لكن ما باليد حيلة فالسعادة التي يشعر بها الآن تكفي لاحتضان هذا العالم !
فتح الظرف في إستعجال و هو يردد بإبتسامة بلهاء " هل إشتاقت الي .. هل تود أن نرتبط من جديد .. ربما ستقول *عزيزي لين لم استطع الاعتياد على العيش من دونك بعد طلاقنا * اووه كم انتظرت هذه اللحظة "
لكن الحياة ليست وردية كما يظن هذا الرجل ..
إختفت إبتسامته من وجهه _الذي بدأ الدهر يرسم معالمه عليه_ بعد أن قرأ الرسالة _بمساعدة ضوء القمر_ التي جعلت كلماتها قلبه يتوقف عن النبض جيدا .. إعتصره الألم في حين كان شبح الموت يحلق في الأفق ليسقط بعدها على تلك الأرضية الخشبية !!
***********************************
رفعت إيمي ستار أجفانها لتكشف عن عيون عسلية براقة .. جالت ببصرها في ذلك السقف الأبيض الذي قابلها بشكل مفاجئ ثم تنهدت بألم لتنتهي بقول كلمة لم تتوقعها " أمي .. "
فور إنتهاءها من نطق هذه الكلمة نهضت بسرعة كبيرة تتبعها خصلات شعرها البندقي المبعثرة .. أحست بشيء يعيق حركتها فإذا هي أنابيب موصولة بذراعها اليسرى .. إعتلاها الغضب و أوشكت على نزع كل تلك الخيوط المغروزة فيها لكن صوتا مألوفا قاطعها قائلا بنبرته الجامدة " لا أنصحك بفعل هذا آنسة .. تيفاس "
سكنت إيمي لوهلة ثم رفعت رأسها لتقول بإشمئزاز " تبا لحظي العثر .. لو سقطت على الأرض القذرة لكان أفضل من السقوط بين ذراعيك "
حاول آرثر إخفاء إبتسامته بينما يتكئ على الجدار المقابل لسرير إيمي ، إقترب منها بخطا واثقة و قال بخشونة " مرض الفيبروميالجيا "
توسعت حدقتا أعينها و إبتلعت ريقها بصعوبة بالغة لتقول بتلعثم " ك..كيف عرفت ه..هذا ؟!!! "
أشرع السيد آرثر البصر خلال النافذة بجوار السرير ليقول بنبرة حزينة " اذن هذا هو المرض الذي منعك من العمل لمدة ثلاثة أشهر و يسبب لك شللا مؤقتا "
غضبت إيمي و زمجرت في وجهه بعدوانية " إياك و التكلم بنفس نبرة الحزن تلك .. لست بحاجة لشفقتك !! "
نظر آرثر إليها بإشمئزاز ليقول من بين شفتيه " مقرفة "
ازداد غضب إيمي كثيرا و إنطلقت شرارات لهيب مشتعل من عينيها لتصيح قائلة " من أنت أيها الوغد لتكلمني بهذه الطريقة الوقحة .. أيعقل لموظف بسيط مثلك أن يتحدث لمدربة .. "
فجأة توقفت عن جنونها لأنها لمحت آرثر و لأول مرة ، يبتسم .. و إستغل فرصة إرتباكها ليحتضنها 💙
تجمدت إيمي في مكانها لتتمكن من إستيعاب ما يحدث بينما همس آرثر بصوت خافت قائلا " يبدو أننا متشابهان يا إيمي "
في تلك اللحظة تدفقت داخلها أحاسيس و مشاعر ظنت بأنها قد ماتت منذ زمن ، غرقت عيونها بالدموع و إحمرت بشرتها البيضاء لتصبح أشبه بالدمى الصغيرة
و ما هي إلا لحظات حتى أجهشت بالبكاء و قد زاد تعلقها بسترة آرثر
**********************************
في هذا الوقت كانت تاتسو عائدة للبيت بينما تحاول عدم التفكير في الشابان الغريبان اللذان أغضباها قبل قليل .. لكنها ما لبثت أن رأت شيئا ما عند عتبة باب منزلهم لتقول في نفسها بحيرة " ما هذا يا ترى ؟!! "
إقتربت أكثر لتتمكن من رؤية ذاك الجسد الملقى على الأرض .. ظهرت علامات الذهول و الذعر على محياها لتطلق صيحة مدوية ، تراجعت للخلف قليلا لكنها سرعان ما سقطت على ركبتيها بينما تحاول إيقاظ السيد لين بلا جدوى " أبي ! ابي ! .. ماذا جرى لك .. أنهض !!! "
بدأ الجيران بالالتفاف حولها و قد اتصل أحدهم بالإسعاف .. صبغت ألوان أضوائها الحمراء المكان و تحت أنظار تاتسو المصدومة أدخلوا والدها إلى السيارة لتنطلق من جديد
حتى مع مضي عدة دقائق لم تستطع تاتسو الحراك من مكانها .. و بينما لاتزال جالسة لمحت الظرف البريدي .. نظرت إليه بإستغراب ثم مسحت دموعها يظهر كفها لتلتقط ذاك الظرف و تبدأ بقراءة الرسالة
" السيد لين تيفاس .. أنا طليقتك أماندا ، أحببت أن أخبرك أني سأعود لمدينة كيوتو في غضون الأيام القادمة .. لا تفرح كثيرا فأنا لست آتية من اجلك بل لأخذ تاتسو كما إتفقنا منذ أربع سنوات ، ستعيش معي برفاهية عكس عيشة الذل و الفقر التي تعيشونها الآن ، و لأكون عادلة فسأترك لك العنيدة الهمجية إيمي .. سآخذ أول طائرة من لندن إلى اليابان .. كن مستعداً لإستقبالي مع زوجي شين .. "

يتبع...

تيفاس ✨( مكتملة )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن