الفصل 5

38 3 0
                                    

كبشر فإننا نحتمي خلف رابطة الدم المقدسة التي تنبثق مع استفاقتنا الأولى في هذا العالم ..
كان هناك .. في حيز ذي إنارة خافتة و ضوضاء الأفكار المتضاربة ، يقبع بين يدي جلاده وسط بركة الدماء القانية !
سيطرت أصوات التنهيدات المتألمة و اللهاث المرير على الصمت السادي في المكان ..
رفع جيرو يده بتثاقل شديد ليكمل سلسلة التعذيب الشنيعة على سوو المستسلم تماما إلا أن يدا إمتدت إليه حالت دون ذلك
صوت من الخلف صدح قائلا بنبرة جامدة " فل تتوقف عن هذا أيا يكن .. ! "
جف الدم في عروق جيرو عند سماعه صوتاً يألفه ليسقط السوط من يده محدثاً جلبة خفيفة .. استدار بشيء من عدم الثبات ليتكلم بنبرة غير واضحة " تشونان .. ما الذي تفعله هنا ؟ "
تقدم تشونان _ مديد القامة _ بخطوات ثابتة تتماشى مع مظهره الملفت جاعلا جيرو يقف وصاده .. رمقه بنظرات مرعبة تخللها شيء من العتاب الشديد
بعد لحظات قليلة ، سحب نظره ببطء مصوباً إياه على جسد سوو الدامي .. طالعه لثوان بملامح جامدة قبل أن يجثو على ركبتيه ملطخا سرواله بالدماء ..
ظهر بريق غريب في عيونه السوداء عكس لون شعره الأبيض ، أخذ ينفض الغبار الملتصق بجثة سوو إثر الدم المنبثق من جراحه بينما تمتم بصوت شبه مسموع قائلا بشيء من اللطف " ما الذي فعلته يا أخي .. أهكذا نعامل الخدم هنا ؟ "
أجفل جيرو لبرهة قبل أن يرد باهتياج تام " اخي .. أنسيت ما الذي قلته لي تلك المرة ؟ "
جذب تشونان ذراع سوو ليلقى بجسده المنكب على كتفه بينما رمق جيرو المستغرب بنظرات مفزعة ليرد بجفاء " ليست هذه هي الطريقة الواجب اتباعها للأخذ بانتقامك .. ! "
انتصب واقفا يكابد عناء حمل جسد سوو المرتخي ليكمل حديثه قائلا " انت عار على عائلة سوران جيرو !! "
******************************
جالت احاسيس مبعثرة على خواطر إيمي المرفقة بارتجاف غير مبرر لأطرافها فور ولوجها لقصر سوران المهول ..
أخذت تتبع خطوات السيد كراوزر تاركة بينهما مسافة لا بأس بها .. تجاوزا الحديقة الكبيرة وصولا لطريق ضيق برزت في نهايته بوابة القصر البنية بينما لا يزال الصمت المريب سيد الموقف !
آثرت إيمي السكوت التام على غرار السيد كراوزر الذي إفتتح المحادثة بسؤال عفوي قائلا " هل أعجبك بيتي يا آنسة .. تيفاس ؟ "
أثار هذا السؤال ذكرى غير بعيدة في ذاكرة إيمي ، إنه نفس السؤال الذي طرحه عليها السيد آرثر قبل ساعات قليلة ...
شردت للحظة قبل أن تجيبه بنبرة جدية " أقل ما يمكن قوله عن هذا القصر أنه ساحر بحق .. "
إبتسم السيد كراوزر برضاً قبل أن يردف قائلا " لستُ من الناس الذين يفتخرون بالماضي أو بأجدادهم و آبائهم ، ستتأكدين من ذلك بعد أن أخبرك بأن هذا القصر شيدته بنفسي لكي يكون وفق ما اريد بالضبط .. "
لم تدرك إيمي ما المغزى من كلامه الفارغ هذا علاوة على الملل الشديد الذي إنتابها ، لكنها أرغمت نفسها على الرد بإبتسامة لطيفة قائلة " أوه .. هذا رائع جدا يا سيد .. "
أجابها سريعا " كراوزر سوران .. "
لم تعر اهتماما لذلك الشعور الذي خالجها و هي تسمع هذا الاسم ، بل إكتفت بالدخول في صلب الموضوع قائلة بشيء من الضجر بينما توقفت عن السير " سيد سوران .. ألا تظن بأن الوقت قد حان لتخبرني بمكان أختي ؟! "
اِلتمس السيد كراوزر بعضا من الشك و الارتياب في كلامها ، أمسك عن السير ليلتفت و قد كتف يديه للخلف
عدلت إيمي وقفتها بعد رؤيتها لملامح مريبة قد بدت على وجه مضيفها
قال السيد كراوزر " إن لي إبنا في نهاية مرحلة مراهقته و من حسن حظه أنه وقع في حب فتاة جميلة و يريدها للزواج .. و لأكون صريحا معك فإن زواجهما شبه مستحيل لأن الفتاة قاصر .. "
حاولت إيمي السيطرة على الغضب الذي اعتراها و المحافظة على تلك الصورة الناضجة لترد عليه بلباقة مصطنعة " اعذرني سيد سوران ، و لكني لا أظن أن هذا جواب عن السؤال الذي طرحته .. ! "
ارتسمت ابتسامة شيطانية على وجه كراوزر صرحت بأن هذا النقاش لن ينتهي على خير ..
قال بصوت عال " ألا تودين معرفة من تكون سعيدة الحظ ؟ "
تشابكت الأفكار داخل أسوار عقلها الفتي ، و أخذت تربط الأحداث بشكل عشوائي ..
أنبست قامتها الفارغة تترنح بينما أضحت رؤيتها ضبابية بعض الشيء ..
تقدمت بمشية غير متزنة نحو مضيفها الذي شرع في تأمل حركاتها الملتوية ، و فور وصولها إليه أمسكت بياقة سترته السوداء _ ذات الملمس الناعم _ لتزمجر في وجهه محطمة صورتها الناضجة قائلة بشيء من العدوانية " زواج ابنك .. فتاة قاصر .. ما شأني و شأن أختي بكل هذا أيها العجوز الخرف ؟!! "
واصل كراوزر التحديق في ملامحها العنيفة و عيونها المشتعلة دون أن ينبس ببنت شفة
أعطت ملامح وجهه تلميحا صادما لإيمي التي تراجعت بضع خطوات للخلف ..
عدل السيد ياقة سترته بهدوء بعد هذا الاشتباك القريب ليقول بشيء من الأسى " ظننت أنك ناضجة بما يكفي ، لكن يبدو أني كنت على خطأ "
صكت إيمي على أسنانها بقوة و حاولت الإندفاع لإكمال ما بدأته لكن صوتا طفوليا قاطعها قائلا بصبيانية مفرطة " ما الذي تحاولين فعله يا خالة ؟ "
جرفت هذه الجملة حركة إيمي للإنفلال المفاجىء ، عادت إلى وعيها بعد رؤيتها لذلك الجسد الواقف بمحاذاة السيد كراوزر .. شد إنتباهها لون بشرته الخمرية علاوة على الهالات السوداء المفزعة التي أحاطت بعيونه النيلية القاتمة ، خاصة و أن لها تناغماً أخاذاً مع شعره الحريري الأسود الذي إنتهى بربطة لطيفة
أخذت تتأمل تفاصيله الصغيرة التي وقعت في أسرها من أول نظرة .. حمرة شفاهه الشديدة مع تورد وجنتيه ختمتا قوانين الجمال ..
قاطع تأملها بنبرة تخللها الخوف قائلا بينما غطى وجهه بأكمام قميصه الطويلة " لما تنظرين إلي هكذا ؟ .. توقفِ فأنت تخيفينني كثيرا "
ربت كراوزر على رأسه قائلا بلطف " لا تخف يا سويكو "
تداركت إيمي موقفها المحرج لترفع نظرها من على ذلك الصبي و توجهه صوب كراوزر الذي إكتسحه الشعور بالملل .. قالت بحزم " بما انك لن تجيبني حتى أسألك ذلك السؤال الذي لا فائدة منه ، فلك ذلك .. من هي سعيدة الحظ ؟ "
أجابها سريعا بصوته الرخيم قائلا " تاتسو تيفاس .. أختك ! "
رفعت إيمي أحد حاجبيها كتعبير عن عدم استيعابها للموقف الحادث .. و ما هي إلا لحظات حتى أطلقت ضحكة عالية جعلت السيد كراوزر يشكك في أنها بكامل قواها العقلية
مسحت الدموع الهاربة من شدة الضحك لتردف قائلة بنبرة تشوبها الضحكات العشوائية " إن مزاحك ثقيل مثل دمك .. "
فجأة صدح سويكو بجملة جعلتها ترتعش ! ، قال بنبرة مرعبة " فل تتوقف عن إصدار هذه الضحكات المقرفة !! "
رفعت بصرها إليه لتجد أن ملامحه قد تغيرت بالكامل ، عيونه أضحت مفزعة بينما باتت الهالات حولها أكثر سوادا .. نظراته الخالية مخيفة لأقصى درجة !!
التفت لوالده ببطء ثم أردف بهدوء " هل هذه الخالة أخت زوجة أخي جيرو ؟ "
أومأ كراوزر بالإيجاب دون أن يزيح بصره عن إيمي المصدومة
أعاد سويكو التحديق بها و لكن مع إبتسامة صغيرة مرعبة و عيون ناعسة ، ثم كمل حديثه قائلا " إن تمزيق عنقها سيكون أسهل بكثير من محاولة إقناعها ! "
دب الخوف في أوصال إيمي التي أخذت ترتجف بوضوح ، تراجعت بضع خطوات إضافية للخلف قبل أن تحارب الشلل الذي انتاب شفاهها و تصرخ بوحشية زائدة " أنتم حقا عائلة مجانين !! .. اللعنة عليكم جميعا ! .. أريد أختي الصغيرة الآن ، أحضروها فورا ! "
إزداد تبسم سويكو بينما فتح عيونه على مصراعيها ليجيبها بنبرة هادئة " أنتم الفقراء مثيرون للشفقة .. تواصلون النواح مطالبين بحقوقكم المسلوبة غير مدركين بأنكم الحلقة الأضعف .. أرغب في سحقكم جميعا ! .. إنكم حقا مجرد حثالة و عاهة علينا نحن الأثرياء "
******************************
جو من الغرابة المحايدة إمتزج بمشاعر هائجة جعلت تلك الغرفة تنبض بالحياة بعد موتها ..
فور مرور لحظات الدهشة الصامتة ، انتصبت أماندا واقفة بينما راحت تشق طريقها نحو السيد آرثر و في داخلها رغبة جامحة في صفعه !
لكن صوتا مألوفا صدح قائلا " أماندا توقف الآن ! "
أجفلت لوهلة اثر سماع صوت لين الهادئة يعانق روحها من جديد ، استدارت بسرعة لتجيبه بعدوانية مصطنعة " ألا ترى أنه أصبح خطرا علينا بعد معرفته للحقيقة ؟ .. كان يجب أن لا تسمح له برؤيتك هكذا "
إبتسم لين بلطف بينما نهض من سريره _ الذي لازمه مدة لا بأس بها _ لينظر إلى آرثر مباشرة و يقول " إن آرثر أحد تلامذتي القدامى .. الأكثر اخلاصا و حكمة ، لا أظن أنه سيخالف كلامي إذا ما طلبت أن يبقي الأمر سرا .. أليس كذلك آرثر ؟ "
شعر السيد آرثر بحمل ثقيل يهوي على عاتقه ، لكنه التمس الأمان في كلمات معلمه ليبدي ذلك في صورة إبتسامة صغيرة
لم يرق لأماندا أن يشاطرها أحد غير لين في سرها .. ضربت الأرض بعنف شديد لتنتهي بقطع هذا اللقاء قائلة بضجر " مشاعركم مثيرة للاشمئزاز "
تقدم لين بخطوات متسارعة نحوها لينتهي برميها على الكرسي الخشبي خلفها و يقيد حركتها بكلتا يديه .. برزت على وجهها علامات الذعر المختلط بشيء من الدهشة بينما حاولت الإفلات من قبضته دون جدوى
أنبرت تسأله بنبرة متألمة " لين و لكن ما الذي تفعله بحق السماء ؟ "
إنقطعت أنفاسها لحظة رؤية الغضب المشتعل في عينيه .. سألته محاولت معرفة سبب هيجانه المفاجئ قائلة بارتباك " ما الذي فعلته لك هذه المرة ؟ "
في هذه الأثناء اغمض لين عينيه و تراجع ببطء للخلف تاركا لأماندا مساحة ضئيلة لالتقاط أنفاسها ، جلس على حافة السرير منحني الظهر بينما اكتسح الحزن تعابير وجهه
قال بصوت خافت " أماندا .. أتذكرين تلك الرسالة ؟ "
أجابته باهتمام بينما أخذت تدلك معصميها قائلة " اهي تلك التي أخبرتك فيها عن موعد قدومي ؟ "
شد لين على حافة السرير أكثر ثم أردف قائلا بنفس النبرة " هل لديك تبرير لما كتبته فيها ؟ "
استغربت أماندا سؤاله هذا و ما زاد الطين بلة هي تعابيره الحزينة .. نهضت من مكانها كردة فعل للاطمئنان عليه ، لكنه زمجر بحدة قائلا " لا تقترب مني أيتها الحقيرة !! .. لا تحلم بإكمال خطة انتقامك لموت ابننا !! .. لقد انتظرتك لمدة أربع سنوات .. اربع سنوات كاملة ريتما تنهيه مهمتك و تشفي من مشكلة الاصوات في رأسك ، لتتخلي عني في آخر المطاف ، كنت سأموت بسببك ! "
انتفضت أماندا بقوة بينما اعتلتها ملامح مصدومة .. أخذ جسدها المرهق يفقد توازنه لترد عليه باختناق " هل تعني بأنك اصبت بأزمة قلبية فعلا ؟! "
رفع رأسه لينظر إليها بحقد و يتابع كلامه قائلاً " إلى الجحيم أماندا !! "
  الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة للشخص الذي تحب .. ذلك الشعور الغريب عندما تحاول إرضاءه بأي ثمن ، حتى لو كان الثمن كرامتك !!
    بعد خسفة الستائر من جو الرياح العابس برزت تعابيره المتأوهة بعد إنسيابات دموعه الهاطلة
  أنبس السيد آرثر يسرع في خطواته متجهاً ناحية الكهل الباكي على سريره _ الذي أوشك على أن يصير تابوتاً له _ بينما أنمت مشيته المرتبكة عن قلق صريح ، أحكم قبضته على ذراع السيد لين تبعها بسؤال مختصر قائلا " هل تود الخروج ؟ "
    سحب لين ذراعه من بين يدي آرثر بفظاظة لينتصب قائلا بنبرة حادة " سأخرج وحدي ! "
    أبصر آرثر و لأول مرة ترنح مشية معلمه !.. ليتلاشى أثره بعد ثوان من تخطيه عتبة الباب
    غرق قلب أماندا بين أضلاعها في حين أنبر آرثر يطالعها بشيء من الغرابة ، لينتهي مضي كل شيء بإفتتاحية أضافها السيد آرثر قائلا بوقار " سيدة تيفاس .. ألا تودين إخباري بأي شيء ؟ "
لملمت أماندا شتات نفسها الممزقة لتجيبه بعد استقرارها على ذلك الكرسي القابع خلفها " بالمقابل ، الا تود اخباري بنواياك المختبئة خلف هذا السؤال ؟ "
    أطلق تنهيدة قصيرة مرفقة بابتسامة باهتة ثم رد قائلا " عندما يصير المعلم بمثابة الأب لتلميذه فإنه يصبح أولوية قصوى بالنسبة له .. "
أسندت ظهرها الى ظهر الكرسي تزامن معه رفع أحد حاجبيها باستهزاء واضح ثم قالت بنبرة مستفزة " ما الذي يستطيع شخص مثلك أن يفعله ؟ "
    أجابها سريعا بنبرة مقصودة " أكثر مما تستطيعين فعله في الوقت الراهن ! "
    ظهر انزعاج طفيف على تعابير وجهها الا انها تداركتها بابتسامة مصطنعة لتقول بعدها بلطف " هلا اختصرت الموضوع من فضلك يا سيد .. "
    أخذ آرثر يتحرك نحوها بخطاً متباطئة بينما أنبس يقول مع كل خطوة " لأكون صريحا معك فإني اود مساعدة المعلم لين ، و بما أني لن استطيع تقديم أي شيء اذا لم ارى المشكلة من كل جوانبها "
وقف على بعد خطوات قليلة منها و ما هي إلا لحظات حتى مد يده قائلا " هل توافقين على تقديم هذه الخدمة الجلية لي سيدتي ؟ "
    حملقت أماندا في تعابير وجهه الهادئة و من بين طيات هذا الجو الغريب احست بشعور غريب يعانق روحها
    تعكرت ملامحها في طرفة عين لتجيبه بعدوانية مصطنعة قائلة " هل تعد بالحفاظ على السر مهما يكن ؟! "
    تبسم آرثر بلطف ثم قال " وعد شرف .. "
قبل أن يأخذ مكان لين على حافة السرير و يعطيها إشارة البدء
    عدلت أماندا جلستها العشوائية لتبدأ في سرد الأحداث قائلة " قبل تسعة عشر سنة كنت حاملا بطفلي الأول و بالتحديد في الشهر الثامن ، كنت على وشك مغادرة المشفى رفقة لين حين صدمني شاب متهور بدراجته النارية .. أعادوا ادخالي إلى المشفى بسرعة كبيرة على أمل أن ينقذون و طفلي .. لكن الأوان كان قد فات و خسرت صغيري "
اعتلتها بعض من ملامح الحزن لكنها أكملت بينما أضحت تكابد إرتجاف شفاهها قائلة " كل ما اتذكره هو وجه ذلك الشاب بينما كان يصيح قائلا بأنه بريء و لا ذنب له !! "
    همس آرثر بنبرة منكسرة قائلا " هذا قاس .. "
    أردفت أماندا بنبرة باكية " و في صباح اليوم التالي اصبحت أسمع أصوات بكاء طفلي رغم أنه غير موجود .. و شيئا فشيئا أصبح الصوت يزداد قوة ، حتى ذلك اليوم الذي ذهبت فيه إلى الطبيب لأكتشف أنني أصبحت مريضة بمتلازمة ( exploding head ) ، التي لن أشفى منها إلا بعد أن اتصالح مع المتسبب بها "
أمسكت عن الكلام لبرهة بينما أخذت تمسح دموعها المنسابة لتكمل قائلة " صارحت لين بكل شيء و أنني أود أن انتقم من ذلك الشاب ، فأخذ بالبحث عنه بدأ من مكتب شرطة المشفى _ لانه كان موقوفا لساعات عندهم _ و بالفعل احضر لي اسمه ( زين كورتيس ) إبن أحد المشرفين على فنون المسرح ... أخذ مني مدة أربعة عشر سنة لاصنع مكاني كممثلة بينما تقربت من أصدقائه و بعد اسبوع من عملي اعترف لي بحبه المزيف "
قاطعها آرثر بشكل مفاجئ قائلا " و لكنكما تعرفان بعضكما أليس كذلك ؟ .. أقصد ملامح الوجه ، حتى انك تعرفين إسمه "
ردت عليه بهدوء " أجل .. انا كنت أعرفه لكنني مثلت دور الفتاة البلهاء التي لا تعرف شيئا سوى الاعتناء بمظهرها و عملها ، حتى زين تعرف علي و لكن بما أنه لم يكن يعلم أني أعرف ملامح وجهه فقد كان يستغلني ، علاوة على أنه غير حرفا واحدا من اسمه ليصير شين "
طرح آرثر سؤالا عفويا آخر قائلاً " كيف كان يستغلك ؟ "
إبتسمت أماندا أكثر قبل أن تردف بنبرة خبيثة " إن أسئلتك كثيرة .. المهم ، كان يستغلني لكسب المال و كأنني بنك او شيء ما .. و ذلك لأن والده لم يرد أن يكون وسيطا له ليصير مخرجا "
نهضت من على الكرسي ثم أخذت تتمعن في تفاصيل السرير و طياته الكثيرة لتهمس بصوت مسموع قائلة " كان كل شيء يسير حسب الخطة ، إلا أنني لا أدري ما الذي حدث ليثور هكذا ؟ "
    تأمل آرثر عيونها العسلية الدامعة بينما انجرف وراء ذكريات لفتاة تملك نفس العيون ، لكنه أجابها بشيء من الحيرة قائلا " أظنني سمعت أن المعلم لين ذكر شيئا عن رسالة أو شيء ما "
انتفضت أماندا انتفاضة بسيطة دلت على تداخل غير مبرر لأفكارها المشتتة .. وضعت يدها على رقبتها بينما أضحى الوقوف أمرا مرهقاً جدا
    ترنحت بقوة ليمسك آرثر بذراعها قبل أن تقع ثم أردف بشيء من القلق " هل أنت بخير سيدتي ؟! "
    حاربت أماندا تراخي عضلاتها لتجيبه بنبرة منتهية " الرسالة .. "
******************************
    حل ظلام الليل .. غاص الكون في مادته السوداء ، و عم الصمت !
    تلقت إيمي طعنات أكثر من اللازم هذا اليوم .. بدءا من سائق حقير وصولا لطفل لا يتعدى الثالث عشرة من عمره يرمي عبارات مرعبة !!
    إنعكست أضواء أعمدة الإنارة على شعرها البندقي و عيونها العسلية المتلألئة لتبرز تفاصيلها الدقيقة برمي ظلالها عليها ..
    إستمر الوقت بالغرق في فراغ إلى أن قطعه سويكو بتثاؤب لطيف أعلن عن اقتراب موعد نومه .. إستدار بعفوية مغادرا رقعة الضوء بينما همس قائلا " تصبحون على خير .. "
    انسحب بهدوء تاركا لوالده المساحة الكافية لإقناع إيمي
    صدح السيد كراوزر قائلا بعد ثوان من الصمت المريب " المختصر المفيد هو أني أريد موافقة منك على أن يتم هذا الزواج ، بما انك الوصية عليها .. سيسهل ذلك بإبعاد أمك لأنها مطلقة و كذلك والدك بسبب حالته الصحية المزمنة "
     أوشكت إيمي على تشويه تقاسيم وجهه المهيبة ، لكنها توقفت بشكل مفاجئ بعد أن رفع يده قائلا بخبث صريح " ألا تودين لأختك أن تبقى هنا دائما ؟ معك و بقربك ؟ "
    أجفلت لوهلة قبل أن تتغير ملامحها الجامحة لأخرى باهتة و تجيبه قائلة بعدوانية أقل " ما المغزى من كلامك هذا ؟ "
    ارتسمت ابتسامة شيطانية على محياه ليردف قائلا بصوته الرخيم " أعلم أن امك تود أخذ اختك بعيدا .. بعيدا جدا ، الا أنني أود أن ابقيها بجانبك و ذلك بإتمام هذا الزواج و بهذا لن تستطيع أماندا أن تأخذها منك !! إضافة إلى أنها ستكون أميرة قصر سوران .. "
    اجتمع المنطق و اللامنطق في كلامه بشكل لا يصدق !! .. تداخلت المشاعر بصورة غير مباشرة ، أخذ الشعور بالوهن يزيد الوضع سوءا حتى أنها كادت تسقط أرضا
    لكن صوتا مألوفا انتشلها من زوبعة الغرابة هذه .. صوت اشتاقت إليه كثيرا !
    أطلت تاتسو من جانبها المعتّم.. سارت بتأني لتُفشي انارة العمود عن ملامحها ،، أخذت تتقدّم بسكون أقرب للإنبهار فكشف لمعان عينيها عن أحاسيس طليقة  تعذّر حبسها... خطواتها البطيئة نحو اختها أسفل رقعة الضوء ،، تلك لحظات كانت اجمل من ان تستطيع تاتسو ردع انهمار دموعها
    " هذا مجرد وهم .. أنا بالتأكيد أتخيل " قالت إيمي ذلك بصوت شبه مسموع ، هي لم تصدق بعد أنها ترى أختها من جديد .. فقط كانت تقنع عقلها الفتي بعدم إظهاره مثل هذه الاوهام الحساسة لها !!
لكن جسدها المنهك خالفها الرأي تماما .. تحركت قدماها بوتيرة متسارعة ، أخذت تشق طريقها وصولا لحضن تاتسو ..
أنبست تعانقها بعنف لعل النار المشتعلة بين ضلوعها تنطفىء ، بينما أخذ نواحها يعلو محتلا أكبر مساحة ممكنة ..
    اندفعت تاتسو في حضن ايمي مكتتمة نحيلها الطفولي.. ثواني العناق جعلتها تشعر بالأمان حتى لو كان باهتا... بكاؤها الذي أخفته إحتراما لكبريائها كان كافيا لجعلها تسترجع قوتها و همجيّتها دفعة واحدة..!!
    إبتعدت إيمي ببطء لتشرع في تأمل قسمات وجه تاتسو الناعمة بعيون دامعة و تعابير متشنجة ..
رفعت تاتسو رأسها لتجفل بنبرة صارمة تنافي تعابيرها :" ما المعنى من هذا ؟.. لماذا انا هنا مع هؤلاء المجانين الأثرياء ؟.."
   انعقد لسان إيمي و تشتتت أفكارها بينما تقيدت حركتها كليا ..
بات النطق بحرف واحد أصعب من تجرع كأس شوكران
رفعت نظرها للسيد كراوزر ليقابلها بابتسامة ماكرة جعلت من مهمتها أصعب !!
******************************
    داخل أسوار تلك الغرفة المترفة ، و بين احضان السرير الواسع ..ذلك السرير الاسود !
    كان سوو ينعم بنوم هادئ و مريح ، غارقا في بحر من الاحلام البهية .. قابعا تحت نظرات الاخوان الحارقة
أسند جيرو ظهره إلى الجدار الأبيض خلفه بينما ارتسمت على وجهه تعابير الغيرة المقترنة بشيء من الحقد الدفين ، قَلَبَ عيونه الزرقاء بضجر ثم قال بإستياء تام " ما السبب الذي دفعك لفعل شيء كهذا ؟ "
    تابع تشونان التمعن في ملامح سوو المتعبة بعيونه السوداء الناعسة و تعابير وجهه البليدة دون أن ينبس ببنت شفة ، بل آثر التأمل في صمت محايد
    اوشك جيرو على المغادرة بعد انتظار طويل ، لكن يدا أمسكت به ثبطت حركته
استدار إليه ليلمح نفس الملامح البليدة و العيون البريئة .. شعر جيرو بليونة قلب أخيه الأكبر ، قرر استئناف الحديث مجددا قائلة بنفس النبرة " انا لا افهم ما الذي يحدث معك اليوم يا اخي ! "
   أنبر تشونان يرد على كلامه دون توقف بينما أخذ يعتصر ذراع جيرو بقوة " كما الدجاج طائر لكنه لا يطير ، فانا انسان لكني بلا احاسيس .. إظهاري لجانب عاطفي مني كي يخدم مصلحة ما ، فهذا لا يعني بأني صرت امتلك مشاعر دافئة ! "
قفز بنظره إلى سوو النائم ليكمل حديثه بملامح مختلفة تماما .. عيونه باتت جاحظة و تعابيره أضحت خالية ! _ أشبه بوجه سفاح مهووس _ ، قال بصوت باهت " ليس من العدل أن يموت هكذا ، هو لم يأخذ حصته من التعذيب كاملة .. "
    إبتسم بعفوية بينما برزت ملامح دافئة على وجهه ، ثم قال بشغف " أحرمه من حقه ! ، هه.. تشونان ليس سادي لهذه الدرجة "
    الإحساس بالهلع المختلط بشيء من البهتان طغى على شعور جيرو بألم ذراعه ..
    إرتجاف جسده كان تعبيرا عن الارتباك المحيط به في هذه اللحظة ، سحب ذراعه ببطء من قبضة أخيه المحكمة ليرد قائلا بتلعثم " أفهم من كلامك أنه يجب إبقاءه حيا لحين زواجي من تاتسو .. "
    مشى تشونان بخطوات بسيطة بينما كتف يديه ببعضهما ، توقف على بعد خطوة واحدة من السرير الأسود و شرع في تأمل تفاصيل وجه سوو مرة أخرى ..
    في هذه الأثناء بدأ بمحاولة تجسيد أفكاره و تبسيطها لأخيه قائلا " ( موعد موته ) هذه الفكرة ستكون هاجسه الأول و الأخير ، الإبقاء عليها مخفية سيجعل تفكيره مشتتاً و هذا ما سيرغمه على نسيان تلك الفتاة تدريجيا .. "
    أطال النظر في الفراغ المحيط به قبل أن يلتفت مغادرا بينما أردف بلهجة متألمة " إن رابطة الدم التي بيننا يا جيرو ، تحتم علي مساعدتك رغم أني لا اطيق ذلك .. لو كان سوو أخي لاختلف الأمر كثيرا بالنسبة لي "
******************************
     أحنى قامته الفارغة ليحجب ضوء الاعمدة عنها .. أطل بعفوية على تلك المراهقة المسلقية فوق العشب الأخضر ، بشكله الطفولي و نظراته الحائرة أخذ يطالعها ..
    إعتدلت تاتسو في جلوسها ثم إلتفتت بنظرها نحوه... قاطعت ثواني الصمت قائلة :" ماذا كان إسمك مرّة أخرى؟ "
    أحنى ركبتيه مواصلا التحديق في ملامحها المستاءة ليجيبها بنبرة هادئة " سويكو ، و أنت ؟ "
إرتدّت تاتسو عن انزعاجها و أجابت بتبسّم باهت :" نادني تاتسو "
    تفاجأ سويكو للحظة قبل أن يقترب منها و يصيح في وجهها قائلا بلهفة " إذا أنت هي زوجة أخي جيرو !! "
    إبتعد ببطء بينما أخذ يبتسم بشيء من الغرابة ليردف بهدوء " لا تبدين همجية كأختك ، لذلك سأعاملك بلطف "
ارتدعت تاتسو عن لطافة تعابيرها لتزمجر بعدوانية :" لا تنادني بزوجة ذلك الأخرق..!! و لا تتكلّم عن اختي و إلا حطّمت وجهك..!!"
    فتح عيونه النيلية على مصراعيها في حين ارتسمت ابتسامة شيطانية على وجهه .. أمال برأسه قليلا قبل أن يردف قائلا بنبرة مشبوهة " إن التعامل بلطف معكم أنتم الفقراء خطأ جسيم .. اذن يا آنسة تاتسو ، هل تودين رؤية وجهي الآخر من أول لقاء ؟ "
    أخفض رأسه بسرعة تاركا خصلات غرته تغطي نصف وجهه قبل أن يقول بنبرة هادئة " أيضا ، كيف لك أن .. "
رفع رأسه لتتضح تعابير طفولية بريئة تزامن معها بروز لون وجنتيه المتوردة و شفاهه الشديدة الإحمرار ليكمل حديثه قائلا " تحطمي وجها بريئا كهذا ؟ "
    إضطربت تاتسو أثناء ثواني تقلّبات سويكو.. بعد نظال طويل لتشوّش تفكيرها أنبست بلهجة صارمة محاولة كتم توتّرها :" لا أمزح حيال هذا.. إيّاك التكلّم عن ايمي مرة أخرى "
    أطلق تنهيدة قصيرة مع إبداء سأم صريح ، انتصب ليرد عليها بجمود تام " رغم محاولاتي الكثيرة لفهم رابطة الأخوة ، إلا أني انجرف للشعور بخيبة الأمل دائما ! .. تاتسو "
    ضحكت تاتسو بشيء من السخرية.. ردّت بنبرة إستفزاز واضحة :" الأخوة أمر أقدس من أن تنعم به عائلة مثلكم.. إن قلقي على أختي وحده كاف لجعلي أتمسّك بالحياة..!!"
    أطال سويكو النظر إليها قبل أن يطرح عليها أسئلة عفوية نابعة من مشاعر ضبابية ، قال بصوت خافت " عائلة مثلنا ؟ .. حسنا و أين عائلتك الآن ؟ .. لما لم يأتوا لأخذك ؟ .. هل بحثوا عنك أصلا ؟ "
    ردت تاتسو بلهجة إستفزازية أفظع :" اسمع أيها الرّضيع.. عائلتي تكترث لأمري.. أختي قد هرولت ورائي عندما خطفني والدك المجنون و أخوك الأخرق... ألا تظن ان هذه المشاعر كافية لجعلنا أسرة ؟"
    ما هي إلا ثوان حتى أطلق ضحكة عالية جعلتها تجزع ، قال بنبرة تشوبها الضحكات الطفولية " إن الحديث معك مسل جدا .. آمل أن نتحدث هكذا كل يوم "
ضم جسده بذراعيه في حركة متألمة ليكمل بلهجة دافئة " أود معرفة المزيد عن هذه المشاعر الفانية "
إنتهى إضطرابها الشديد للإحساس بنوع ما من التّفهم.. سويكو و على الرّغم من أساليبه الملتوية في الحديث إلا أنها أحبّت التّكلّم إليه
   خمد إهتياجها أخيرا لتردف بإبتسامة دافئة :" الأمر ليس معقدا.. ليس عليك ان تجهد نفسك في الفهم فما يجعل المشاعر حقيقية هو بساطتها.. سويكو "

يتبع

تيفاس ✨( مكتملة )حيث تعيش القصص. اكتشف الآن