الفصل الرابع

3.3K 69 0
                                    

النظرات لا تقتل ..
كان يوم زاكاري سيئا فقد جافاه النوم معظم الليل . لكنه اعتاد ذلك . فهو غالبا ما يتجنب النوم مخافة ان تراوده الاحلام المزعجه مجددا . اذ ما انفك يسترجع حادثة الاصطدام مرارا وتكرار منذ حصولها . ويتذكر صدمته حين رأى السيارة الاخرى تنقض عليه لتصطدم بسيارته وتندلع النيران من حوله .
وتعمد استعادة ذكريات اخرى , كي يحول ذهنه , فاستلقى في سريره يفكر في الفتاه التي راها قبل الحادث , تلك الفتاه ذات الثوب الابيض في الحديقة عند الغروب , لم ينسها قط . وفي تلك الشهور الصعبة التي امضاها طريح الفراش .
كانت ذكراها تروح عنه في احلك الساعات , تمنى لو عثر عليها ولكن , منذ الحادث , اصبحت فكرة قيادة السيارة تملؤه رعبا , فاذا اراد الخروج طلب سيارة اجرة .
عندما يتغلب على مخاوفه سيخرج للبحث عنها . كان يعلم انه سيجدها يوما ما , كما كان يؤمن انها في انتظاره في مكان ما .
نهض باكرا في ذلك الصباح وحضر قهوته . شربها وهو يقف عند النافذه يتأمل شروق الشمس ويصغي الى صوت طيور النورس الحزين .
ثم قصد محترفه حيث كان البرد قارسا . اذ نسي تشغيل جهاز التدفئة المركزية . وراح ينظر الى القماشة التي ثبتها على المسند يوم عاد من المستشفى .
لم يكن عليها خط واحد لأنه لم يرسم منذ حصول الحادث . لكنه تظاهر بأنه استعاد قدرته على الرسم . وان الامور عادت الى نصابها , وان حياته عادت الى سابق عهدها .
اشاح بوجهه عن القماش العاري ثم اخذ يمزج الوانه بحركات بطيئة مدروسة .
التقط دفتر رسومه واخذ يتصفحه وكأنه يبحث عن منظر طبيعي ينقله الى القماش . كان بعض الرسوم قديما , وبعضها منته مليء بالتفاصيل , كرسمة عاصفة فوق البحر , وطيور النورس فوق حقل محروث والاشجار الجرداء والشمس تشرق من خلفها .
فيما كان البعض الاخر مجرد خطوط رسم بسرعة ومن ثم تركت.ولم ير ما يثير رغبته في الرسم .
التقط الفرشاة بغضب وقنوط وانكب على القماش ثائرا يغمسه باللون الاحمر حتى لم يعد يرى فيه بياضا.
ألقى بفرشاته لاهثا وسار الى النافذه بخطوات غير ثابته ثم فتحها ليتنشق هواء شهر كانون الاول البارد متأملا انفاسه التي استاحالت امامه ضبابا .
رأى عصفورا جاثما على غصن يراقبه فأخذ زاكاري يراقبه ايضا . اعتاد في ما مضى ان يأخذ دفتر ليرسم هذا المشهد , اما اليوم فاكتفى بالتحديق فيه , ثم اشاح بنظره عنه .
توجه الى المطبخ حيث حضركوبا اخر من القهوة فيما كان يرتشفه , رن جرس الهاتف فأجاب مكرها , بعد ان ساورته رغبته في تجاهله .
- نعم ؟
- هل ستحضر في الاسبوع القادم ام لا ؟
عرف هذا الصوت المتعجرف, صوت اخته فلورا . تعيش اخته الكبرى في فرنسا مع زوجها ايقز , وهو رجل صبور للغاية , حلو الحديث بحسب رأي زاكاري , والا لما احتمل الحياة مع فلورا المتسلطه منذ 10 سنوات .
واسرع زاكاري يقول:
- قلت لك ...
لكن فلورا لم تدعه ينهي حديثه كالعاده اذ اعتبرت ان فرق السن بينهما يسح لها بمقاطعته واعطائه النصائح والتدخل في حياته متى شاءت .
- لا يمكنك البقاء وحيدا ايام العيد ! فالبرد قارس في الكوخ . ولا اظنك تملك ما يكفي من الطعام في ذلك المكان . فالمتاجر تقفل ايام العطلات . ويفترض ان تمضي العيد مع اسرتك . فما معنى العيد من دون الاولاد ؟
فأجاب بكسل :
- هادئ مسالم .
- سأقطع لك تذكرة سفر الى مارسيليا. يمكنك ان تأخذها من مطار هيثرو في لندن . يفضل ان تأتي في الثالث والعشرون . اذا كنت ترغب في قضاء ليلة الميلاد معنا .
- لكنني لا ارغب في ذلك . لن اسافر يا فلورا . فلا تضعي نقودك على تذكرة سفر لن استعملها .
- والآن , اصغ اليّ , يا زاكا...
- لا يافلورا , لن اسافر .
اسكتهاصوته الغاضب لحظة فأكمل بصوت الطف :
- اسمعي اشكرك على دعوتك هذه , لكن مزاجي لا يسمح لي بأن ألعب دور الخال اللطيف اما سام وكلود ... سأفسد عليكم عيدكم وهذا ما لا اريده .عيدا سعيدا اذن , وبلغي تمنياتي الطيبه لزوجك واسرته وللطفلين وسأراكم ... .
قاطعته بسرعة قبل ان يقفل السماعة :
- ستمكث دانا مع ابويها , اخبرتها انك ستحضر . انها تتحق شوقا لرؤيتك من جديد , رغم قسوتك عندما حاولت ان تراك في الستشفى . انها فتاة طيبة. قالت انها تفهم السبب الذي جعلك لا تحتمل ان تراك حينذاك وهي مستعدة لمنحك فرصة اخرى . لذا سأبدو غبية ان لم تحضر .
- فلورا , كفي عن التدخل في حياتي . هل لك ان تدعيني وشأني ؟
واقفل السماعة بعنف , ثم حمل فنجانه وسار الى محترفه ليطيل النظر مقطبا الى الصباغ الاحمر الذي لطخ به القماش . لقد عبر هذا اللون عن مزاجه افضل تعبير.
ها هي فلورا تحاول الجمع بينه وبين دانا مجددا . وتمنى لو تتوقف اخته عن التدخل في حياته . لكنها دأبت على هذا منذ مدة طويلة انها لم تفكر يوما في ما يريده هو . فهي تظن انها تعرف مصلحته , ولم تفهم بعد سبب قطع علاقته بدانا .
كانت شقراء خلابه مغنية ناجحة تكسب الكثير من المال . فأعجب الامر فلورا صاحبة التفكير العملي والتي ما فتأت تسأله :
لما قطعت علاقتك بها ؟
لكن زاكاري لم يجب قط فهو لا يطلع اخته على اموره .
اما الحقيقة فهي ان شجارا عنيفا نشب بينه وبين دانا حين علم بعلاقاتها مع رجل اخر . فقطع علاقته بها نهائيا . ورفض رؤيتها مجددا .
لكن فلورا صممت على التدخل وبعد ان اجريت له اولى عملياته التجميليلة اتصلت دانا فزارته هذه الاخيرة في المستشفى .
حاولت ان تحافظ على رباطة جأشها عندما رأته للمرة الاولى , لكن زاكاري لاحظ الصدمه والرعب في عينيها حتى وهي تحاول الابتسام .
قالت له بصوت شجي :
- كيف حالك ياعزيزي المسكين . لقد جئت من قبل لكن فلورا قالت انك لا تستطيع رؤية احد بعد . حالما اتصلت بي لتقول ان بأمكاني الحضور , اسرعت لرؤيتك .
كان يحدق فيها وهي تثرثر لتخفي رعبها . لكنها لم تنجح سوى في تأكيده .
- يالها من غرفة صغيرة مريحه ..تبدو رائعا .. رائعا جدا. يا حبيبي . متى ستخرج من المستشفى بحسب رأيك؟
فقال واجما :
- ليس لدي ادنى فكرة. من الافضل ان ترحلي, يا دانا . ماكان على فلورا ان تطلب منك الحضور . لا اريد زوارا .
اسبغت شمس الخريف على شعرها وبشرتها هاله ذهبيه , وجعلت عينيها الخضراوين تتألقان . كانت قد ارتدت ملابس بسيطة , ثوب ازرق حريري قصير يكشف عن ساقيها الطويلتين اللتين اكتسبتا لونا اسمر خلاب من جراء تعرضهما للشمس . لكن جمالها لم يثر فيه أي شعور , فقد اكتشفت المرأة الحقيقية في تلك الصدفة الجميلة , ولم يعد يبالي بها .
تجاهلت جفاءه وجلست على طرف سريره تبتسم له ابتسامة لعوب . اسبلت اهدابها المكحله فوق عينيها الخضراوين . وقالت بغنج :
- حبيبي , ألست مسرورا لرؤيتي ولو قليلا ؟ حتى انك لم تعانقني !
فشحب وجهه غضبا وصرخ بها :
- هل انت صماء ؟ اخرجي من هنا ! اخرجي عليك اللعنة اخرجي !
عند ذلك انفتح الباب واندفعت منه ممرضه قائلة :
- سيد ويست صوتك مسموع في ارجاء المستشفى كلها . ارجوك ان تكف عن الصراخ .
رد بحده :
- اخرجيها من هنا .
فما كان من دانا الا ان نزلت عن السرير وهربت مبتعده . وهي تتظاهر بالحزن وخيبة الامل . وعندما اقفل الباب خلفها , راح زاكاري يضحك من دون توقف .
فظنت الممرضة انه سيصاب بانهيار عصبي لذا استدعت الطبيب .
حين وصل هذا الاخير طمأنه زاكاري قائلا :
- لا تقلق يا دكتور . انا بخير . كل مافي الامر ان امرأة زارتني ولم استطع ان اتحمل قبلة ضفدع خشية الا يتحول الى امير احلامها الجميل .
علق على ما جرى مازحا ساخرا لكن ردة فعل دانا انطبعت في اعماقه وجعلته يدرك حقيقة مظهره.فزائراته من النساء اقتصرن على فلورا وبعض اقربائه . والممرضات اللاتي تدربن على عدم اظهار مشاعرهن ازاء اصابات كهذه . لقد عكست دانا مشاعر معظم النساء حيال شكله .
ربما هذا هو السبب الذي منعه من البحث عن فتاته ذات الرداء الابيض .. اذ خاف ان يتملكها الرعب من آثار الجروح والحروق في وجهه ان عثر عليها .
وليكف عن التفكير في ذلك . لبس كنزة وسترة قديمة وخرج الى الحديقة ليقطع الحطب .
بعد دقائق سمع صوت سيارة . وكان نادرا ما يزوره احد . اضطرب لهذه المقاطعه ولم يسره الامر . ثم توجه الى البوابة ليرى امرأة تقف امامها .
وقف يتأملها للحظة وتملكه شعور غريب بأن وجهها مألوف . لكن وبعد امعان النظر فيها لم يتذكر اين رآها من قبل . كان وجهها الرقيق الملامح شاحبا بعض الشيء
وقد ابرزت تقاطيعه تسريحه شعرها المشدود الى الخلف .
كان اخر زائر للكوخ صحافيا يسعى وراء قصة يكتبها . لكن زاكاري طرده واكد له انه سيدق عنقه ان عاد مجددا .
اترى هذه المرآة صحافيه , هي ايضا ؟ اخذ يتسائل عن ذلك وهو مقطب الجبين :
- من انت ؟ ماذا تريدين ؟
لم يحاول اخفاء ضيقه وعدائيته وهو يطرح اسئلته عليها .
وعندما ذكرت انها ممرضة من مستشفى ونبري. ادرك فجأه انه تذكرها رغم مرور الايام وقصر المدة التي امضاها هناك .
لم يحبها عندما كان في المستشفى فقد كانت بارده رسمية المظهر.
وكانت ملابس التمريض التي ترتديها تصدر صوتا مزعجا حين تنتقل في القسم . كان يكره هذا النوع من النساء , فهي متسلطة كأخته مشغولة دوما , منظمة .
وقد دأبت دوما على التحدث اليه بصوت يرتفع وينخفض مهدئا مسترضيا وكأنه طفل يتدلل , فيما عيناها تعكسان الاسى الذي يعتصرها .
وما كان زاكاري ليحتمل ذلك . فهو يرفض شفقة الناس , ويفضل ان يهينهم . او يمنعهم من الاشفاق عليه على الاقل .
لهذا تظاهر بالاعتقاد بأنها جاءت لتراه لفرط جاذبيته . مع انه يعلم ان الانجذاب هو طبعا اخر ما تشعر به . وقد ادرك ذلك من نظراتها التي رمقتها به .
اذ عكست عينيها مشاعر لا يمكن ان تفسر سوى الرعب . لابد انها اعتقدت ان وجهه اصبح طبيعيا تقريبا بعد عمليات التجميل الباهضة التكاليف التي خضع لها
لكن زاكاري كان يعلم ان الحقيقة خلاف ذلك . فقد اعلمه الجراح انه يحتاج لعمليات اخرى كي يعود مظهره كما كان نسبيا .
وهكذا سخر منها وامسك بها يعانقها . فتهاوى جسمها وسقطت جاثمة على ركبتيها فما كان منه الا ان هرع يحضر لها شرابا ينعشها .
وعندما عاد وجدها قد تمالكت نفسها وتوهج وجهها احمرارا من شدة الارتباك .
- آسفه , ماذا ستظن بي ؟ لا ادري ما الذي حدث لي ...
فقال باختصار , وهو يضع الشراب بين يديها :
- ما كان علي ان اعانقك .
راحت تنظر الى الشراب وكأنه سم . لإامسك بمعصمها وارغمها على رفع الكأس الى شفتيها .
ابتلعت جرعه بالرغم عنها وهي ترتجف . فترك زاكاري يدها , وجذب كرسيا جلس عليه قبالتها :
- والآن , ماذا تريدين يا سيدتي ؟
- اسمي جيلبي.. وانا .. ابي هو هاري جيلبي .
سكتت ورفعت نظرها اليه وكأنها تتوقع منه ان يبدي ردة فعل لذكر اسم ابيها . لكن زاكاري نظر اليها من دون ان يرف طرفه.
- هل سبق وتعرفت اليه من قبل ؟ آسف , ولكن ...
- كان ابي في السيارة الاخرى .
مضت لحظة لم يكن متاكدا فيها مما تعنيه , فحدق فيها مقطبا جبينه .
- السيارة الاخرى ؟
نظرت في عينيه بثبات عندما بدأت الحقيقه تتجلى له . ثم أومأت برأسها .
فقال بصوت اجش :
- هو ... هل كان هو ... السائق الاخر ؟
عادت تومئ برأسها , وقد شحب وجهها .
واطلق زاكاري سيلا من الشتائم , فاضطربت قائلة :
- لم يكن ذلك من طبعه يا سيد ويست . لم يكن غافيا وليس سائقا متهورا . لقد كان .. كان يعاني من توتر.. انا لا احاول اختلاق اعذار له , ولكن ... .
- ان لم تكن هذه اعذارا فما هي اذن ؟
ورأها تعض شفتها السفلى , فتنبه لشكل فمها الكبير وشفتها السفلى الممتلئة التي تتناقض مع تسريحة شعرها المتزمته وسلوكها المحافظ .
- اردت فقط ان اوضح لك الامر , كي اجعلك تفهم سبب ما حدث .
- هل كنت في السيارة معه ؟
- يا ليتني كنت , والا لما حدث ما حدث .
- كان يتقدم نحوي بسرعة جنونية عند المنعطف , فلم لم اتمكن من تجنبه ... هل اخبرك بهذا ؟
- نعم لقد اخبرني . انه يلوم نفسه على ما حصل ويكاد الندم يقتله صدقني !
- عظيم ! هل اصيب هو ايضا ؟
- قليلا ...
- ماذا يعني هذا بالضبط ؟
فهمست :
- رضوض وصدمه .
- وكم مكث في المستشفى ؟
فأجابت مكرهة :
- ليلة واحده .
- منذ ذلك الحين وانا اتردد الى المستشفى .
- اعلم ذلك . وانا اسفة جدا لما حدث لك . يا سيد ويست . وكذلك ابي . ارجو ان تصدقني , انه يدرك سوء فعلته وهذا يثقل عليه للغاية .
واكمل قائلا :
- لماذا جئت , على اية حال ؟ وماذا تريدين ؟
وقفت بدورها ووضعت كأس العصير على المنضده بجانبها :
- جأت اتضرع اليك ... اعلم ان اللوم يقع على ابي , وهو لا يعترف بذلك ولكنك .. ستشفى تماما يا سيد ويست , صدقني . لدي خبرة واسعة في هذا المجال . بالرغم من ان التحسن بطئ الا انك ستعود في النهاية كما كنت .
- لن يكون وجهي طبيعيا ابدا .
بل زاكاري ذروته . ورفع قبضته وكأنه يهم بضربها . سكتت قليلا مقطبة ثم قالت بصوت بطئ جاد :
- انت مخطئ . يمكنني ان افهم السبب ولكنك مخطئ يا سيد ويست . سيستغرق الامر سنه او نحو ذلك , لكن الجراحه التجميلية تقوم بالمعجزات , لا سيما ان كنت بين يدي اخصائي لامع , وانا اعلم انك كذلك . انه جراح ممتاز ذائع الصيت في البلاد .
- ومع ذلك لم يزعم انه سيتمكن من ان يعيد الي وجهي كما كان !
وضحك زاكاري فجأة حين تذكر دانا , واضاف :
- كان يجب ان تري وجه اخر صديقه لي حين زارتني بعد عمليتي الاخيرة ! ظننت انه سيغمى عليها .
اضطربت لويزا وازداد شحوبها وهي تحدق فيه بثبات :
- انا واثقة من انها كانت قلقة عليك . انا لا انكر ان العلاج سيكون بطيئا لكنني اؤكد لك انك مع الوقت ستستعيد وجهك القديم .
- لا تكذبي عليّ. انا اعرف ما اراه في المرآة فبشاعتي لا تضاهى , وسأبقى هكذا الى الابد . لن يغمى على امرأة حين تراني الا رعبا كما حدث لك .
احمر وجهها وحولت نظراتها عنه :
- انا لم ...
- بلى . فقد توهج وجهك حين عانقتك فاضطررت لحملك الى هنا .
- لم يكن هذا بسبب ...
ضحك زاكاري غاضبا , وقال :
- بل كان , فلا تزعجي نفسك بالتظاهر بالعكس . انني اعرف سبب اغمائك .
اسبلت اهدابها وتوقفت عن الاجتجاج واخذ ينظر اليها بسخرية.
ليقول اخيرا بايجاز :
- انا لا الومك , فأنا اتأمل وجهي في المرأة يوميا . ويمكنني ان اتفهم سبب شعورك بالغثيان حين لمستك.
فانفجرت قائلة :
- لا .
ورفعت نحوه عينين يفيض منهما كدر وأسى واضحين لم يستطع الشك في صدقهما :
- ارجو صدقني . لم يكن ذلك شعوري , على الاطلاق .
تعب زاكاري من هذا الحديث . فهو يفضل نسيان ماحدث له . وكان يحاول جاهدا ان يستعيد حياته الطبيعية ز وهكذا قال بصبر فارغ :
- لا بأس فلتنس ذلك . ولنعد الى حضورك , والذي تريدينه مني , يا اخت جيلبي؟
- انا لست واثقة من ...
وتلعثمت ثم تنهدت :
- هل اخبرك محاميك ... هل تعلم ... ؟
- تكلمي ,هيا .
- نسي ابي ان يجدد بوليصة التأمين ضد الحوادث .
حدق فيها غير مصدق . لقد امضى في المستشفى فترة طويلة ترك اثناءها تفاصيل الاجراءات القضائية لمحاميه . ورفض ان يناقش الامر معه بل اكتفى برواية ما حدث . لذا لم يعلم ان تأمين هاري جيلبي لا يغطي الحادث .
فرد قائلا :
- انك تمزحين !
هزت رأسها لكنها بقيت عاجزة عن النطق .
- حدق زاكاري في عينيها , في البحيرتين الزرقاوين العميقتين , لم يسبق له ان ان رأى عينين بمثل هذه الزرقة , وقد زاد من تألق لونهما شحوب وجهها . زرقة قاتمة على بياض ... ولطالما عشق التناقض .
ثم اخذ يفكر في ان شحوب وجهها طبيعي وقلقها مبرر, وان لا عجب في انها هنا تتوسل اليه ! أي نوع من الرجال هو ابوها ؟ ولماذا ارسلها تتضرع اليه بدلا من ان يحضر هو شخصيا , او يرسل محاميه ؟
وقال بصوت مرتفع :
- ما الذي جعله عديم المسؤولية بهذا الشكل ؟
ابتلعت ريقها وبدا التشنج على عنقها الطويل الناصع البياض .
- كان متوترا للغاية وما زال .. فهو يعاني من صعوبات مالية لم يجب مخرجا لها , لذا نسي ان يجدد بوليصة التأمين . كان ينوي ذلك ولكن ... اعلم ان هذا غباء , ولكن ....
- الغباء ليس عذرا !
- انا لا اطلب منك ان تعفيه ...
- هذا حسن لأنني لن افعل . ولمَ افعل ؟
اشاحت بوجهها عنه ولاحظ عينيها المغرورقتين بالدموع .
- ستتحطم حياته اذا ما اضطر للدفع على الفور . ان بيته مرهون وكذلك مصنعه ... وليس لديه اوال في حسابه المصرفي . سيتوجب عليه بيع بيته وربما شركته ايضا . ان حكمت لك المحكمة بتعويض ضخم .
- هذه مشكلة لا تعنيني , بل تعنيه هو ! كما ان الحادث ذنبه , وكذلك نتائجه .
وحدق فيها ثم اكمل كلامه ساخرا :
- لابد انك ساذجه جدا او متفائلة جدا ! فإن جئت راجيه ان اتنازل عن حقي في التعويض لمجرد انك رويت لي قصه حزينه عن تحطم حياة ابيك ...!
- ظننت فقط ان ...
فقاطعها بصوت حازم :
- لا يهمني سوى حياتي انا , وقد دمرها ابوك في الربيع الماضي .
فرخت بصوت معذب :
- اعرف مقدار سوء اصابتك , ولكنك ستشفى وبعد سنه ستعود الى ماكنت عليه .
- واكون قد خسرت سنوات من عمري ! فقد دمر ذلك الحادث العمل الذي امضيت سنوات في انجازه . كما عانيت الآم مبرحه منذ ذلك الحين , ولن تنتهي عاناتي قبل وقت طويل . حتى انني لم اعد قادرا على العمل . فأنا لم ارسم شيئا منذ الحادث . حاولت جاهدا الرسم لكن يبدو ان الحادث قتل حافزي , وفي كل مرة امسك الفرشاة اشعر وكأن يده منفصلة عن ذهني ... هل لديك ادنى فكرة عن هذا الشعور ؟ فعدم القدرة على الرسم يعني بالنسبة لي , الشلل , بل الموت .
كانت تصغي اليه وكأنها استحالت حجرا , اما هو فكان الشرر يتطاير من عينيه . فكل هذا الاستياء والغضب كان يغلي في داخله منذ الحادث , وقد شعر بالارتياح الغريب حين تمكن من الافصاح عنه .
هذه الفتاة غير مسؤولة عما حدث له , بل تقع المسؤولية على ابوها .ويبدو انها تشعر ان اباها قد تأذى , هو ايضا من الحادثة مما جعل زاكاري يجن .
- لا تطلبي مني ان اشعر بالاسى من اجل ابيك ! لو كنت قديسا لأمكنني ذلك لا أدعي انني قديس . عندما ترفع القضية الى المحكمة يتقرر التعويض وفقا للبراهين . وعلى ابيك ان يتحمل قرار المحكمة .
- ولكن لو انك فقط ...
فثار زاكاري مجددا وقال ساخرا :
- هل تظنين حقا ان بأمكانك اقناعي باسقاط حقي في التعويض ؟
ولمعت عيناه حين خطرت بباله فكرة اخرى , فأضاف :
- ام لعلك جئت تقديم لي بديلا عن المال ؟
نظرت اليه وكانها لم تفهمه , وقد بدا في عينيها الزرقاوين الارتباك .
اخذ زاكاري يضحك وراحت عيناه تجولان على مفاتن جسمها وساقيها الرشيقتين في البنطلون الاسود الضيق , وظهر في عينيه تقدير واهتمام واضحين .
فهمت مراده فاحمر وجهها , واخذت تتنفس بصعوبة فابتسم لها ساخرا ثم قال ببطء :
- آسف ولكنك لست النوع الذي افضله . فأنا افضل الشقراوات الفاتنات . انت نحيلة جدا , ولا اظنك تملكين الخبرة الكافية .
اشتدت حمرة وجهها , ورمقته بنظرات حانقه . ولو امكن للنظر ان يقتل لسقط صريعا عند قدميها في الحال , اخذ يفكر في هذا متشفيا , واذا به يتساءل عما افقده اعصابه الى هذا الحد , فجعله يرغب في تعنيفها ؟
فالذنب في ما حدث لم يكن ذنبها على أي حال ! ما الذي جعله يقدم على فعل هذا ؟ ما من داع لإهانة هذه الفتاة لمجرد ان اباها سبب الحادث .
اقدم على هذا فقط لنه شعر بوخزة اهتمام حين اخذ يتأمل جمالها , هذا هو السبب, لقد كذب حين قال انها ليست النوع الذي يفضله ,اذ ليس لديه نوع معين يفضله . كان يحب النساء وحسب .
ويمكن لهذه المرأة ان تصبح المفضله لديه , لكنها قد تفضل الموت على ذلك . لقد اغمى عليها عندما عانقها . ولو ادركت انه يشعر بميل نحوها لركذت من دون توقف ومن دون ان تلتفت الى الوراء حتى تضع بينهما مسافة طويلة.
غمغمت تقول باضطراب :
- لم اعرض عليك أي شيء من هذا النوع .
فضحك بمرارة :
- احقا .
-اردت فقط ان اقترح ... حسنا , ترتيبا بيننا ....
- بيننا ؟ وما نوع الترتيب الذي تعرضينه ؟ ام عليّ استعمال مخيلتي ؟
ونظر اليها من جديد مقيما , فردت عليه تلك العينان الزرقاوان بشرر ناري . يالها من سيدة صغيرة متزنة , حسنة السلوك ! هل لهذا اختارت التمريض ؟ هل الملابس الشبيهة بلباس الراهبات تناسبها اكثر ؟
ردت وقد احمر وجهها :
- لا بل هو بينك وابي . لو سمحت له بدفع التعويض على مراحل , لن يخسر بيته وشركته .
كان في صوتها توتر ولهفة جعلا زاكاري يشعر بشيء من العطف نحوها فقال :
- لا تخافي . انا واثق من ان المحكمة ستحكم بما يتماشى ووضعه .
- احقا ؟
لكن لم يبد في عينيها الاطمئنان .
فأضاف بمزيد من الرقة :
- تأخذ المحكمة وضع الناس في الحسبان عندما تقرر قيمة التعويض , ولا شك انها لن تدفعه الى بيع بيته .
فقالت بقنوط:
- ربما لكنك لا تفهم الوضع ... فهو مدين بمبالغ ضخمة , ما يجعله غير قادر على دفع مبلغ كبير لك ايضا و ... .
سكتت وقد تاهت نظراتها ثم اندفعت تقول :
- ويخاف ان تهجره زوجته . ان هي اكتشفت افلاسه .
فقال ساخطا :
- اذا كان مثقلا بالذنوب فهذا ليس ذنبي !
- هذا صحيح . ولكن اذا انتظرت سنة واحده قبل ان تقبض أي تعويض تقضي به المحكمة , فهناك امل كبير في الا تكتشف زوجته الحقيقة . انه واثق من ان ارباحه ستتضاعف خلال سنتين , من ثم سيصبح في امكانه ان يدفع لك تدريجيا .
- ويفترض بي ان انتظر ؟
فألقت عليه نظرة تعيسه متردده :
- هل سيكون ذلك صعبا جدا عليك ؟ هل احوالك المادية صعبة , انت ايضا ؟
- انا لا اموت جوعا . اخبريني , هل انا على صواب في تكهني بأن زوجة ابيك ليست امك ؟
- نعم لقد ماتت امي منذ سنوات .
- متى تزوج ابيك ؟
- بعد وفاتها بعامين .بدت في عينيه الرماديتين نظرة مازحة :
- وانت لا تحبين زوجة ابيك ؟
- نحن غير منسجمتين .
نظر اليها نظرة فضول وبشيء من العداء. هذا هو الوجه الذي يذكره بإقامته القصيرة في المستشفى حيث تعمل . لقد استيقظ في احدى الليالي فرأى ذاك الوجه الابيض البارد قرب سريره ,
وتلك العينين الزرقاوين الجامدتين والشعر الرفوع الى الوراء . رأى هذا المظهر الذي الذي يجعلها اشبه براهبة .لقد كرهها حينذاك من النظرة الاولى . لكنها تبدو اليوم مختلفه , وهي ترتدي هذه السترة الحمراء والكنزة البيضاء التي تلتصق بجسمها وتجعلها تبدو في غاية الانوثة .
- لم لا تحبينها ؟
فردت مدافعة عن نفسها :
- هي لاتحبني .فأبتسم وسأل :
- ولكن من البادئ , انت ام هي ؟
استطاع ان يتخيل الجفاء الذي قابلت به تلك المتطفلة . اذ لا شك ان ابها اصبح مقربا منها . منذ وفاة امها . فقد جمع بينهما الحزن , ولابد انها صدمت حين نسي ابوها حزنه وعثر على امرأة اخرى . كيف امكنه ذلك ؟
لقد طرحت هذا السؤال على نفسها مرارا وتكرارا من دون شك . اذ يفترض ان يتملك ابوها الشوق والحنين الى امها الى الابد . لا ان يتزوج امراة اخرى بعد سنتين .
اجابت وقد توتر فكها من الغضب :
- كان يمكن ان احبها لو لم تظهر بوضوح ان وجودي في البيت غير مرغوب فيه ! لم تشأ ان يرانا الناس معا . اذ قد يظنون انها اختي , فهي تكبرني بحوالي سنتين فقط .
- احقا ؟ كم يبلغ ابوك من العمر ؟
- خمسون سنة . وكان وامي صغيري السن عندما تزوجا .
- وكم يبلغ عمر زوجة ابيك ؟
ستبلغ الـ30 في عيد ميلادها القادم .
اومأ وهو ينظر اليها مفكرا :
- وانت 28 ؟
- 27 .
فقال بدهشة واستغراب :
- تبدين اصغر سنا .
اذ كان يظن انها لم تتجاوز الـ25 من عمرها .
واضاف بجفاء :
- لابد انه المظهر العذري .
علت حمرة الخجل وجهها فعلق ساخرا :
- العذرية ليست كلمة بذيئة كما تعلمين .
- جعلتها تبدو كذلك .
فضحك واخذ يتأمل وجهها الجميل وخصرها النحيف وساقيها الرشيقتين .
- انت حساسه جدا ازاء هذا الموضوع .
ثم سألها فجأة :
- هل انت كذلك ؟
اضطربت لسؤاله واستفهمت :
- ماذا ؟
فقال برصانه
- عذراء .
تلعثمت وقد احمرت غضبا :
- انا .... انا .... انا لن اجيب على سؤال كهذا !
- لدي شعور بأنك كذلك .
قالت له متوعده :
- اذا كنت ستتفوه بنكات حمقاء فسأذهب .
- اخبريني المزيد عن زوجة ابيك .
استدارت مسرعة نحو الباب فصاح بها :
- لم تحصلي على جوابي بعد .
فنظرت اليه ببروده :
- حصلت انت على التسلية , يا سيد ويست . وانا لن ابقى هنا لأكون هدفا لمزاحك وظرفك .
- لقد قضى الحادث على روح النكته عندي .
وهز كتفيه رافضا ان يقدم اعتذارا صريحا .
فقالت وقد بدأ التوتر على فمها الشاحب :
- هذا ما لاحظته .
- لكنني مستعد للتحدث مع ابيك بشأن الترتيبات كي لا يخسر بيته او عمله او زوجته .
خطت نحوه وقد انفجرت شفتاها عن شهقة وتألق وجهها بلهفة عارمة :
- احقا ؟ لا زلت  تسخر مني مجددا ؟
- بل انا جاد , انما بشرط واد .
توترت وعاد الحذر الى عينيها :
- ماهو شرطك ؟
- ان تسكني معي هنا , طوال المدة التي احددها

ملاك في خطر. روايات احلام القديمة.           للكاتبة شارلوت لامب حيث تعيش القصص. اكتشف الآن