هي الداء والدواء
نامت لويزا بشكل منقطع ، إذ لم تعتد أن تنام في النهار نوماً عميقاً .
نهضت من سريرها عند العصر ، وأكلت تفاحة وشطيرة وأحتست
فنجاناً من الشاي ، ثم ارتأت أن تقوم بنزهة على قدميها في الهواء الطلق
لتجدد حيويتها ، كانت تسكن في شقة مؤلفة من غرفتين صغيرتين
نقع على مسافة قريبة من المستشفى ومن شوارع ( وينبري) المخصصة
للمشاة ، التي تكثر فيها المحال التجارية والمقاهي .
كان النهار مشمساً ، والناس يتجولون بين المتاجر .
انتهت من التسوق في ( السوبرماركت) الكبير القائم في وسط الساحة .
وقفلت عائدة إلى بيتها ، وفي طريق العودة ، كادت تصطدم بفتاة شقراء
تكاد في مثل سنها .
- آه ، هذا أنت !
لم تكن لهجة الفتاة تحمل أي مودة ، بل كانت عيناها الخضراوان تشعان عداء.
فقالت لويزا ببرودة ، وقد بدت الكراهية متبادلة : ( مرحبا ، نويل ، هل عاد أبي ؟)
- نعم ، وكان عليّ أن أذهب لإحضارة . لقد رفضوا إرساله إلى البيت
بسيارة إسعاف .
- سيارة الإسعاف مشغولة جداً.
فقاطعتها الفتاة بغضب :
- لقد نقلوه إلى المستشفى في سيارة إسعاف . فلم لا يستطيعون إعادته
بالطريقة نفسها ؟ كان لدي موعد عمل هام ، كما لا يمكنني ترك المكتب متى شئت .
وقد أحرجني إلغاء الموعد . وجلّ ما أرجوه هو ألا نخسر اتفاقية عمل لهذا السبب.
اتصلت من المستشفى امرأة متسلطة جداً، فقد أصرت على أن نحضر لاصطحابه . ولا أدري
لماذا لم يعد إلى البيت في سيارة اجرة ، أو لماذا لم تحضريه أنت إلى البيت ، فأنت تعملين هناك!
ما كان هذا ليزعجك ! قالوا إنك في بيتك ، لكنني عندما اتصلت بك ، لم يجبني سوى آلة التسجيل .
فأجابت لويزا ، محاولة ألا تفقد أعصابها : ( أنا أعمل ليلاً وعليّ أن أنام في النهار).
ردّت عليها نويل بحدة ( وعلي أنا أن أعمل لأن أباك لم يتكبد عناء إدارة الشركة !
ولولا جهودي لأفلسنا في سنة . لقد ترك الأمور تتدهور لسنوات ).
- كفانا حديثاَ عن أمور الشركة . كيف حال أبي ؟ أتركته وحده ؟
لا ينبغي أن يبقى وحده على الإطلاق ، إنه جزين جداً.
- لا تعلّميني ما عليّ فعله ! فأنا لم أعد سكرتيرة أبيك بل زوجته ، ولا
أحتمل معاملتك لي باستعلاء .
- أنا لا أفعل ! لكنني لا أظنك تدركين مدى تأثير الصدمة عليه ..
أردت أن أوضح لك الناحية الطبية .
- حسنا ! لا أريد أن أسمع . فأنا لست واحدة من ممرضاتك ، تحركينها
بإشارة من إصبعك .
لم يكن يسرها أن تنظر إليها زوجة أبيها بمثل هذه الكراهية . وشعرت لويزا
إزاء هاتين العينين الخضراوين بما يشبه الغثيان . كانت نويل غاية في الجمال ، لكن جمالها سطحي برأي لويزا .
عندما توظفت نويل في شركة أبيها كسكرتيرة ، لم تشعر لويزا نحوها
بالإرتياح ، ولم يخطر في بالها أن نويل تهتم لأمر أبيها ..
فهو يكبرها بأكثر من عشرين عاما!
ولسبب ما لم تحبها نويل هي أيضاً. وحين أعترف لها أبوها بعلاقته مع سكرتيرته ،
فوجئت لويزا وتملكتها الصدمة ، ولم تستطع إخفاء مشاعرها ، لكن كان عليها أن تخفيها
وتمنت لو أنها فعلت . كما تمنت بمرارة لو تحب نويل ، ولو تصبحا صديقتين ، وذلك من أجل أبيها .
لقد حاولت ذلك مراراً عندما أدركت أن علاقتها جادة وأن نويل ستتزوج أباها .
ولكن ، عبثاً ، فقد كانت نويل تكرهها ولم تشأ مصالحتها .
واضافت نويل ، وهي ترمقها بنظرة حادة لاذعه :
- على أي حال ، ليس وحيداً في البيت ، إن السيدة ( نورث) في البيت تنظفه ،
وقد طلبت منها أن تعتني به ، رفض التوجه إلى سريره ، وفضل الإستلقاء على الأريكة
لمشاهدة التلفزيون ، ولم ألاحظ أي شيء غير عادي ، وإذا كان حزيناً فهو يستحق
ذلك لقيادته السيارة كالمجنون ، كاد يقتل ذلك الرجل !
شحب وجه لويزا إذ أدركت أن كلامها صحيح : (لكنه لم يفعل والحمد لله ).
- لو حدث ذلك لكان الذن ذنبك .
أجفلت لويزا ، ولم تقدر على الإنكار ، ثم عادت نويل تقول متشفيه :
- لو أنك لم تتصلي بأبيك وتحدثي كل تلك المشاكل لما ترك الحفلة قادماً إليك كالمجنون .
ازداد شحوب وجه لويزا . كان هذا صحيحاً ، ولا فائدة من الندم الآن .
لو كان بإمكانها العودة إلى الوراء لغيرت الأحداث الأخيرة التي عصفت بحياتها
ولم تتمكن من تجنبها ، لقد اتصلت بأبيها وأظهرت له خيبة أملها ،
فأسرع إلى البيت ليخفف عنها ، ولو لم يفعل ،لما وقع ذلك الحادث ولما استلقى زاكاري ويست على سرير في المستشفى يتأرجح بين الحياة والموت ، ولما وقف أبوها أمام العدالة ليعاقب على قيادته الخطرة .
أو ربما على اسوأ من ذلك ، أذا لم يخرج زاكاري ويست من المحنة بسلام ، وشعرت ببرودة تسري في عروقها ،
ماذا لو لم ينجُ ؟ ..لا ، لا يمكنها التفكير في ذلك .
وعادت نويل تقول : ( لأنك انسانة أنانية أفسدك التدليل ). فنظرت لويزا إليها ببلادة . هل هي حقاً كذلك ؟ كان عليها أن تتصرف بحكمة
أكبر بدلاً من أن تفقد أعصابها لمجرد أن أباها نسي عيد ميلادها وخرج مع زوجته .
لكنها شعرت حينذاك بألم عميق ، وبإمال كبير ، لطالما كان أبوها شارد الذهن .
فتذكره عادة بعيد ميلادها ، لكنها تكاد لا تراه هذه الأيام ، وقد اتصلت به منذ أسبوع لتذكره ،
وتسأله أن يتناولا طعام الغداء معاَ ، لكنه لم يكن في المنزل ، فاضطرت إلى إبلاغ نويل ،
التي لم تعلمه باتصالها ، بل أغرته ليرافقها إلى غداء عمل ،
كانت نويل مصممه على إخراج لويزا من حياة أبيها ، ولم يعِ الأب المعركة التي كانت تدور بينهما من أجلة .
استغربت لويزا أن تتفهم الأمر من وجهة نظر نويل ، فلا بد أن سن أبنة زوجها يحرجها ،
ويظهر بوضوح فرق السن بينها وبين زوجها ، ولعلها تغار من حب الآب لابنته ،
ذاك الحب الذي يذكرها بزوجته القديمة .
كان الشبة بين لويزا وأمها واضحاً كما تبين لنويل من الصور التي ملأت البيت .
فقد كانت أنّا جيلبي ، والدة لويزا ،امرأة رائعة الجمال .
توفيت وهي في الأربعين من عمرها ، تاركة وراءها ابنتها الوحيدة لتذكر
هاري بالمرأة التي تزوجها وهو في العشرين من عمره .
وأمضى أبوها بعد وفاتها سنوات من الوحدة ، لذا استطاعت لويزا
أن تفهم سبب رغته في الزواج من جديد ، رغم أن أختياره أذهلها وأزعجها .
كما فهمت مشاعر نويل ، لكن تفهمها لم يسهل الأمر عليها ، ولطالما كانت لويوا مولعة بأبيها ،
لا سيما منذ وفاة أمها ، وقد صعب عليها الابتعاد عنه .
حاولت تقبل هذا الوضع الجديد ، من أجل أبيها . وأرادت أن تراه سعيداً من جديد بالرغم من انزعاجها لزواجه من فتاة في مثل سنها .
ليتها لم تستاء حين أدركت أن أباها نسي عيد ميلادها وأنه لن يتمكن من العودة في الوقت المناسب ليراها .
لطالما كان عيد ميلادها يوماً فريداً ، يحوله أبوها إلى يوم ساحر .
اعتادا تناول الغداء في مكان مميز ثم تمضية بقية النهار إلى غير رجعه .
فأحست بالأسى والألم . وعندما علمت بمشاريعه ، تصرفت بطريقة صبيانيه فاتصلت
به في الحفلة ، لتشعره بالذنب .
ما كان عليها أن تفعل ذلك .. ولكن أتى لها أن تعرف أن تصرفها هذا سيؤدي إلى مثل هذه الكارثة ؟
قالت نويل :
- كما سيخسر رخصة السوق لمدة عامين على الأقل ، كما يقول المحامي .
وهذا ليس بأسوأ الاحتمالات . حسناً ، لن أتمكن من مرافقته بالسيارة حيث يشاء . بل عليه أن يستخدم سائقاً خاصاً.
يمكنه أن يدفع أجره بالرغم من أنه يردد أن حالته المادية متردية .
لم يكن بهذا البخل حين تزوجته ، لو استخدم سائقاً ، لما وقع ذلك الحادث ، ففي مثل سنة
يصبح الحكم على الأمور مغلوطاً بعض الشيء.
فتصلب جسم لويزا : ( ماذا تعنين بقولك ( في مثل سنه ؟) أبي لم يبلغ الخمسين من عمره بعد ).
لم تكن نويل متقدماً في السن حين تزوجته ! فلطالما تحدثت عن شبابه الدائم .
وطاقته وحيويته البالغة ، وقد حافظ هاري على تلك الصفات طوال السنة الماضية إذ أخذ يعمل ويلهو ويسهر لكي يماشب زوجته الشابة . فإن لم يرافقها إلى حفلات الكوكتيل ، والعشاء ولقاءات
العمل ، قصد ملاعب الغولف ليلعب مع الزبائن أو مع أشخاص تعرفهم وتريد أن تترك لديهم أنطباعاً جيداً عن زوجها .
هزت نويل كتفيها قائلة : ( لم تعد ردات فعله كما كانت ).
- لعله يحضر الكثير من الحفلات !مما جعله ينفق الكثير من الطاقة .
فحملقت زوجة أبيها فيها :
_ أحسنت ! ألقي اللوم علي! ستقولين إن الذنب ذنبي أنا ، أليس كذلك ؟
حسناً ، هذا غير صحيح ..فهاري يتسمتع بالحياة الأجتماعية ولطالما استمتع بها ،
حتى قبل أن يعرفني .
لم تستطع لويزا نكار ذلك ، لأن أباها يتمتع بالحيوية والنشاط ، ويحب رفقة الناس ، لا سيما الشباب منهم .
لذا وقع في غرام شقراء فاتنه كانت سكرتيرته ، وقد شجعته نويل فلم يتسطع هاري جيلبي مقاومة سحرها وفرصة أن يجدد شبابه .
وتنهدت لويزا : ( نعم ، أعلم ذلك ) .
ثم عضت على شفتيها ونظرت إلى زوجة أبيها متضرعة وأضافت :
( نويل ، لماذا نتشاجر دائماً بهذا الشكل ؟ لا سيما الآن ، وأبي في ورطة ..
سيكون بحاجه إلينا معاً خلال الأشهر القادمة ، ألا يمكن أن نكون صديقتين ).
لكن ملامح نويل الرائعة لم تلن ، بل التمعت عيناها الخضراوان حين قالت :
- تسبب بما يكفي من الأذى ، فاتركينا وشأننا . إن هاري لي أنا الآن وليس لك.
استدارت لتبتعد ، لكنها عادت ووقفت ثم سحبت جريدة من حقيبتها الجلدية ،
وناولتها إياها قائلة هل قرأت هذه ؟)
ولم تنتظر جواباً ، بل تابعت طريقها وتركت لويزا تحدق في صورة زاكاري ويست التي تعلو عنواناً يقول :
( حادث يلغي معرض ويست ).
التفتت لويزا تبحث عن مكان لتجلس فيه وقد ازداد قلقها واكتئابها .
توجهت مرتجفه نحو أحد المقاهي وتهالكت على مقعد بجانب الباب .
وسألتها النادلة وهي تتقدم نحوها :
- ماذا تطلبون
- قهوة من فضلك .
- هل ستأكلين شيئاً؟
شعرت لويزا بداور طفيف فتمتمت تقول :
- شطيرة جبن وسلطة ، من فضلك .
توارت النادلة ،فيما فتحت لويزا الجريدة أمامها ، وعندما استوعبت ماورد فيها .
كانت النادلة قد عادت بما طلبته ، طوت لوبزا الجريدة بأصابع مرتجفة ، وحاولت الإستمتاع بطعامها .
لكن مذاقه في فمها استحال كمذاق التراب والرماد ، فقد شغل بالها ما قرأته لتوها .
جاءت نتيجة الحادث أسوأ مما تصورت ، كان زاكاي ويست فناناً مشهوراً على ما يبدو ،
وقد تحدثت الجرايد عن المبالغ الطائلة التي دفعت في الماضي ثمناً للوحاته .
وعندما وقع الحادث ، كان زاكاري ويست ينقل لوحاته إلى لندن في سيارته ليعرضها في معرض
كبير يمكله تاجر لوحات معروف ، كان من المتوقع أن يحدث هذا المعرض ضجة في عالم الفن .
على حد قول التاجر . وقد انتظره عشاق الفن بلهفة منذ اشتهرت اعمال زاكاري ويست وأخذت تعود عليه بمبالغ كبيرة .
لا سيما وأنه لم يعرض أعماله منذ سنوات .
كان عالم الفن متشوقاً إلى إكتشاف مدى تطور فنه ، من حيث النوعية والتقنية .
ويضيف التاجر بشكل مأساوي ، إن العالم لن يعرف ذلك أبداً ، إذ قضت النيران
على اللوحات التي انتجها زاكاري ويست في السنوات الأربع الأخيرة وألحقت بالفنان نفسه إصابات بالغة جداً.
سددت لويزا حسابها في المقهى وقد تملكها الرعب ، ثم توجهت إلى لويزا إلى بيتها
حيث وضعت مشترياتها جانباً ، واتصلت بأبيها تسأله بحنان : ( كيف حالك اليوم ؟ يا أبي ؟)
فرد عليها مرتجفاً ، وقد جف حلقه : ( هل قرأت الصحف ؟)
- أبي ، أبي ..لا ينبغي أن ..
- لا ينبغي ماذا ؟ أن أواجه ما فعلت ؟ يا إليهي ، عندما أفكر في ..
فسارعت لويزا تتوسل إليه : ( لا تفكر في ذلك ، يا أبي ، ليس الآن ، فما زلت تحت تأثير الصدمة ).
- وكيف أمنع نفسي من التفكير في ذلك ؟ رجل مثل هذا ، نابغه كما تقول الصحف ..
كل تلك الموهبة وذلك العطاء ..حطمته أنا ..
- لم تكن تعلم ذلك ..يا أبي ! لا تقلق ، سيتجاوز المحنة ، وعندما يتحسن سينجز أعمالاً أخرى ، فهو ما زال شاباً...
لكن كلماتها هذه لم تكن نابعه من صميم قلبها ، بل كانت تشعر بالذنب كأبيها ، فأضافت :
- على أي حال ، إنه ذنبي أنا وليس ذنبك .
- ذنبك ؟ وكيف ذلك ؟ أنا الذي كنت أقود السيارة وليس أنت .
- لكنني لو لم أتصل بك وأثير الضجه لما هرعت أن تألي !
- لكن هذا لا يجعل الذنب ذنبك ، يا لويزا ، فأنا من كان يقود السيارة ، وقد كنت أشعر بالنعاس ..
لم أغف أثناء القيادة طبعاً ، لكنني أعرف أن تصرفاتي كانت متأثره بإحساسي هذا .
كانت ردات فعلي أبطأ من المعتاد ، كما كانت أدرك في أعماقي أنني أقود بطيش ،
فقد زدت السرعة عند المنعطف ، مما جعلني اندفع مباشرة نحوه من الجهة الأخرى للطريق ..
وأنت لا علاقة لك بهذا الأمر ، كانت أعصابي متوترة ..فقد تشاجرت مع نويل ..
و .. آه ، حسناً ، لا داعي لذكر ذلك ، لكنه ذنبي أنا ، يا لويزا ولا ينبغي أن تلومي نفسك على الإطلاق .
لكنها بقيت تلوم نفسها ، وكانت لا تزال حين دخلت القسم ذاك المساء .
فلم تستطع الأبتسام لزميلتها ماري بيكر ، التي سألتها بإهتمام : ( ما بك ؟ لا تبدين على ما يرام )
كانت ماري امرأة متزوجة وأماً لولدين . وهي تعمل في المستشفى منذ خمسة عشر عاماً ، وتتميز بوجهها البشوش ، وطباعها اللينة ورقتها ولطفها .
وقد لمست لويزا ذلك من خلال تدريبها في هذا القسم ، حين كانت تلميذة جديدة قلقة وعديمة الخبرة .
فأجابت لويزا بسرعة ، محاولة إخفاء كذبتها : ( أنا بخير ).
وبالرغم من لطف ماري ، كانت لويزا تشعر عندما تتعامل معها ،
وكأنها تلميذة ، فلا تستطيع الأفصاح لها عما في نفسها : ( إنه صداع بسيط فقط).
فقطبت ماري جبينها :
- هل تنامين كفاية ؟ لن أذكرك بضرورة أخذ قسط من الراحة لتتمكني من تأدية عملك ليلاً ، أليس كذلك ؟
فأجابت لويزا بعبوس :
- لا . فأنا أنام جيداً ، لا تقلقي . كيف كان نهاركم ؟ هل ثمة مرضى جدد ؟ هل خرج أحدهم ؟
لوت ماري شفتيها ، وأخذت تتلو التقرير اليومي مطلعة لويزا على أحوال كل مريض إلى أن وصلتا إلى أسم زكاري ويست ،
فقالت ( سيخرج قريباً ) .
فاتسعت عينا لويزا وسألت : ( يخرج ؟ ماذا تعنين ؟)
- سينقل إلى لندن ليحصل على عناية خاصة ، يبدو أن لدينا شخص شهير في قسمنا .
واتسعت ابتسامة ماري حين أضافت انهالت الاتصالات الهاتفية عليّ طوال اليوم من الصحافة .
الكل يسأل عن حالة ! أتصدقين أن بعضها أراد أن يزورنا ليلتقط له صوراً ؟
فأجبتهم أنه غائب عن الوعي ، ولا يبدو جميل الوجه حالياً .
لو كان واعياً لما رضي بالتقاط صورا له وهو بهذه الحالة لقد حضر بعضهم شخصياً فاضطررت لاستدعاء جورج
من الردهة لكي يخرجهم !)
فقالت لويزا بإلحاح ، غير مهتمه بأخبار الصحافة : ( لكن ..لماذا سيتركنا ؟)
فردت ماري بغيظ مكبوت :
- حسناً ، يبدو أن وكيله ..مدير أعماله ، أو مهما كان لقبه ..
يعتبر هذا المستشفى غير مؤهل لعلاج هذا الرجل الشهير .
لذا يريد نقله إلى مستشفى في لندن حيث يكثر أخصأيون الجلد والجراحة التجميلية .
أرادو نقله اليوم ، لكن جراحنا الدكتور هالوز رفض الأمر بعناد ، وأشار إلى أن حالته
لا تسمح بذلك . سيقرون غداً متى يمكن نقله ، بعد أن ينهي الدكتور هالوز جولته على المرضى .
وتملك الفزع لويزا : ( لا يمكنه تحمل هذه الرحلة ! سيتألم كثيراً ).
كان قد تلقى العناية اللازمة ، ويعطي الأدوية باستمرار ،
كي يجتاز هذه الأيام القليلة بأقل قدر ممكن من الألم . وقفت لويزا بجانبة تحدق في الوجه المتجهم
المروّع الذي سيظهر به أمام العالم في الأشهر القادمة ، حتى يصبح جاهزا للجراحة التجميلية .
بدا رجلاً جذاباً في الصور المنشورة في الصحف ، وما أفظع أن يبدو الآن بهذا الشكل .
لكنه قوي البنية ، وإلا لما نجا من ذلك الحادث ولما بدت عليه أولى علامات الشفاء يمكن للناظر إليه أن يلاحظ
بنيته القوية بوركية النحيفين وساقية الطويلتين وعضلاته الرياضية
ولحسن الحظ ، لم تنل النيران من جسمة كله ، ولم تصل الحروق البغيضة إلى ساقية .
بل نجتا من النار وحافظتا على لونهما الأسمر .
فتح جفنيه فجأة ، فوجدت نفسها تحدق في عينيه . كالفضة المصقولة اللامعه ، اتسع بؤبؤهما بسبب الأدوية المهدئة التي تعطى له .
استعادت لويزا حسها المهني على الفور ، فانحنت تبتسم له وتطمئنه :
- مرحبا ، كيف حالك اليوم ؟
لم يحاول زاكاري ويست أن يجيب على الفور ، تذكرها بشكل مبهم فقطب حاجبيه المحروقين بألم .
إنها المرأة البيضاء الشاحبة الباردة التي رآها واقفة قرب سريره من قبل .
إلا أنه لم يكن واثقاً متى حصل ذلك.
أصبح الوقت بالنسبة له متاهة راح يبحث فيها عن طريق للخروج .
لم يكن يدري منذ متى وهو على هذه الحال ، وجل ما يعرفه أن ثوان قصيرة
مؤلمة تفصل بين نومه ويقظته .
لم كين يدرك مكانه وماحل به .بل كان الألم يترصد به وينهش جسمه .
وفي كل مرة كان يهرب من الوعي ليرتاح لأنه يعاني الأمرين في اليقظة .
وإن كان لا يذكر سبب الآمه . وتذكر فقط أن حياته توقفت فجأة حين كان يقود سيارته في الطريق .
وأصبح منذ تلك اللحظة فريسة للألم .
قالت المرأة : ( أنا الأخت جيلي ، وأنا أعتني بك ، يا سيد ويست ، كيف حالك؟)
كان لها صوت ناعم منخفض ، يفترض به أن يخفف عنه ، لكنه ازعجه . أتظنه طفلاً ؟)
إبتلع زاكاري ريقه ، ثم شعر بعطش شديد :
- أشرب ..حاول أن يتلفظ بهذه الكلمة من خلال شفتيه الجافتين ،
ولا بد أنها فهمت مراده ، إذ أدخلت بلطف انبوباً رقيقياً بين اسنانه ،
فأحس بالماء البارد في فمه ، وعندما روى ظمأه توقف عن الشرب ثم أغمض عينيه منهكاً .
سألته المرأة بغباء : ( هل تشعر بالألم ؟)
فتح زاكاري عينيه ونظر إليها بازدراء : ( ماذا تعتقد ؟)
حملت نظراته هذا السؤال ، لكنه عاد وأغمض عينه ، ليستلم لأحلامه ،
كانت الفتاة في إنتظارة ، بشعرها الأسود المتطاير في الهواء ،
ووجهها الأبيض النقي ، وابتسامتها التي جعلت دمه يغلي . سبح زاكاري في الجو نحوها باسماً ، وقد تسارعت دقات قلبه.
عندما فحصه الجراح مرة أخرى ، في اليوم التالي ، كان زاكاري واعياً للمرة الأولى .
وتمكن دايفيد هالوز من التحدث إليه :
- يريد السيد (كورتني ) مدير أعمالك ، نقلك إلى مستشفى أخر في لندن حيث يوفر أخصائيون
في جراحة الجلد . لكنني لا أستطيع السماح لك بهذه الرحلة الطويلة ، بالرغم من تحسنك السريع والمستمر .
حدق زاكاري ويست فيه من دون إهتمام ، وقد تراخى جسده :
- فهمت .
لم يظهر أي إنزعاج لهذا الخبر ، فابتسم له دايفيد هالوز بمودة مشجعاًُ:
- سنمنحك العناية اللازمة ، يا سيد ويست، وسنحاول تأمين سبل الرحة لك .
قال زاكاري وقد صار صوته أكثر صفاء :
- كنت مخدراً بشكل منعني من ملاحظة ذلك .
فضحك دايفيد هالوز :
- حسناً ، نعم ، كان لا بد من ذلك في الأيام الأولى ، لمنعك من الحركة ، ولمواجهة تأثير الصدمة .
سننقّص حالياً كمية الدواء الذي نعطيك إياه ، إذ لا نريدك أن تتعود عليه .
وضحك مجدداً ، لكن زاكاري لم يفعل ، بل قال بإكتئاب : ( لن يحدث هذا ، فأنا أكره أن أفقد الوعي ).
- حسناً ، يسرني أن أراك على طريق الشفاء ، سأمر لرؤيتك غداً ، قبل موعدي المعتاد بقليل .
فغداً يوم السبت ، أدع لي أن أمضي عطلة نهاية الأسبوع بشكل هادئ ولو لمره واحدة .
وضحك مجدداً ، فبدت في عيني زاكاري الرماديتين ومضة من المرح وهو يقول :
- سيكون الأمر صعباً عليّ في الوقت الحالي .
جاءت ردة فعل دايفيد قوية بعد سماعه هذه الكلمات ، ثم قال بإبتسامة عريضة تحمل شيئاً من الدهشة .
- نعم ، إنك على حق .
إذ لا يمكن لزاكاري أن يبسط يديه المحروقتين للدعاء .
وتحدث دايفيد مع لويزا ذلك المساء ، قائلاً لها :
- أكن إحتراماً كبيراً لذاك الرجل ، فهو شجاع وقوي الإراده للغاية .
عرفت رجالاً لم تكن حروقهم بالغة وخطيرة كحروقه ، ومع ذلك ملؤوا الدنيا ضجيجاً وصراخاً .
يظهر مزاحه في مثل هذها الوقت مزاياه الشخصية القوية ، لا أظنني سأتحلى بمثل شجاعته لو كنت مكانه .
وسكت برهة ثم تابع مقطباً : ( أعلم في الواقع أنني لن أكون كذلك !
فلو لحقت بي إصابته لملأتني رعباً .
وربما هذا هو السبب الكامن وراء تخصصي في جراحة الجلد .
أصيب أبي بحروق بالغة في إنفجار مواد كيماوية عندما كنت في العاشرة من العمر ، ولم أنس قط منظرة عندما رأيته بعد نحو أسبوع .
انتابتني الكوابيس لسنوات ، ولطالما حلمت بأنني ملفوف بتلك الضمادات .
حملقت لويزا فيه ، وقد أظلمت عيناها في ضوء مكتبها الخافت :
- مسكين يا دايفيد ، لا بد أن الأمر كان مخيفاً في مثل تلك السن المكبرة .
ضحك وقد أحمر وجهه ، ثم نهض هازاً كتفيه :
- نعم .. حسناً ، يجب أن أرحل ، سأذهب إلى بيتي الآن ،
لقد أرهقني العمل في غرفة العمليات ومن الأفضل أن أنام قليلاً .
إلى اللقاء غداً ، هل أنت متشوقه لذلك ؟
فأشرق وجه لويزا بإبتسامة وأجابت :
- آه ، نعم . لم أرقص منذ زمن طويل . وأنا أعشق الرقص ، سأشتري ثوباً جديداًَ غداً.
- لكي تخرجي معي ؟ هذا يزيدني غروراً .
ضحك وشع الدفء من ملامجه الجذابة ، بالرغم من أمارات التعب والأرهاق البادية على وجهه .
لم تستطع لويزا التفرغ للتسوق قبل عصر يوم السبت . وبما أن المتاجر الأنيقة في ( وبنيري ) تقتصر على متجر واحد .
لم تحتج لوقت طويل حتى تقرر ما تريده .
اختارت ثوباً رائعاً من الحرير القاتم الزرقه ، انسدل على جسمها ،
ليصل إلى أخمص قدميها ، وزينته ياقة من الدانتيل الناعم.
لفتتها تنورته التي تصدر حفيفاُ خافتاً كلما تحركت وتعلوها عند الخصر زهرة من قماش وردي اللون .
أحبت لويزا طراز هذا الثوب .
قالت البائعه :
- يشبه هذا الثوب أزياء العصر الفيكتوري ، أليس كذلك ؟
إن تسريحة شعرك كلاسيكية وتتلاءم معه . كانت النساء يجعدن شعرهن في ذلك العصر .
لكنني أظن أن هذه التسريحه تناسب الفتيات الشابات وليس السيدات اللاتي في سنك .
ضحكت لويزا من دون بهجة ، لم تبلغ الفتاة العشرين من عمرها لذا وجدت أن لويزا ، البالغة من العمر سبع وعشرين سنه ، والغريب أن كلماتها جعلت لويزا تشعر وكـأنها كبرت فجأة من دون أن تلحظ ذلك.
إنما لم تكن مسنة فعلاً ! فلم لا تجعد شعرها ؟
عندما عادت إلى بيتها ، غسلت شعرها ، وأمضت بعض الوقت في تجعيده على الطراز الفكتوري .
عندما أنتهت من أرتداء ملابسها ، وقفت أمام المرآة تتأمل نفسها وتعض على شفتيها .
بدت مختلفة في هذا الزي الجديد ! لقد غيرّ ، في الواقع ، مظهرها كلياً .
وإحمر وجهها ، إذ شعرت أنها سخيفة ، وأوشكت أن تعيد تسريح شعرها كما اعتادت أن تفعل ، لكن وصول دايفيد منعها من ذلك .
- لويزا ؟ يا الله ، كدت لا أعرفك ، شعرك ..
فتأوهت قائلة : ( يبدو غريباً ، أليس كذلك ؟ لا أعلم لماذا سرحته بهذا الشكل ! ولكن ..)
- لقد أعجبني جداً.
فنظرت إليه بحيرة ، وسألته : ( أحقاً ؟)
- إنه رائع ، ويتناسب مع هذا الثوب .
ثم نظر إليها بحرارة وأضاف : ( وهذا الثوب مغر للغاية ).
ضحكت ، واصطبغت وجنتاها بحمرة الخجل ، فابتسم دايفيد وقال لها وهو يضغط على أصابعها : ( حمرة الخجل مغرية أيضاً).
فقالت بإحتجاج وقد ازداد احمرار وجهها : ( لا تسخر مني ، يا دايفيد هالوز).
- بل أنا أعني ما أقول . عندما تحمرين خجلاً بهذا الشكل ، تبدين كاملة الأنوثة . فأحس بأنك تحتاجين إلى من يحميك ..
- في هذا العصر وهذا العمر ؟
- آه ، أعلم أن هذه أمور رجعية .. كفتح الباب للمرأة ، والوقوف حين تدخل إلى الغرفة ..لا بأس ، يبدو هذا مضحكاً في إيامناً .
لكنني رجل رجعي الطراز ، أحب الفرق بين الرجل والمرأة ، ولا أعلم لم عليّ أن أعتذر عن قناعاتي هذه .
ردت عليه باسمة : ( ولا أنا ) .
فقد أدركت من عملها الطويل معه أنه ليس فناناً ، وأنه لا يعامل المرأة كدمية ..
بل هو بعيد عن ذلك كل البعد ، فهو يعاملها باحترام كبير ومساواة تامة .
بادلها ابتسامتها معلقاً : ( هذا ما جذبني إليك أولاً ، أنوثتك ).
حدقت به مدهوشه ، إذ لم يصرح لها بهذا من قبل ، ولطالما تساءلت
عن سبب بقائه حتى الخامسة و الثلاثين من دون زواج ، فهو محبوب وذا شعبية بين الممرضات .
وقد خرج من قبل مع فتيات أخريات لكن علاقاته فشلت كلها .
فهل الساعات الطويلة التي يمضيها في العمل ، واهتمامه البالغ به ، عائق يقف بينه وبين أي
امرأة تربطة بها علاقة ؟ لكنه بدا الليلة مختلفاً ، ومميزاً في بذلة السهرة السوداء .
بدا نحيفاً للغاية . وأسبغ القميص الأبيض وربطة العنق السوداء عليه تألقاً لم يكن جلياً ، في الأيام العادية ,
وسألها بمرح :
- هل تتأملين شكلي ، يا لويزا ؟ أم أنك نفرت مني عندما قلت إنني أحب الفتيتا اللواتي يتمتعن بالأنوثة ؟
فضحكت وهي تهز رأسها :
شدّ على يدها وجذبها نحوه محنياً رأسه ، فرفعت رأسها بحركة غريزية ، وشخصت إليه بنظرها .
عندها ، رن جرس الهاتف فجمدا مكانهما يتبادلان النظرات بغيظ ، قال دايفيد :
- لا تجيبي .
- تعلم أن عليّ ذلك ، لعله أبي .
لكن الأتصال لم يكن من أبيها ، بل من المستشفى ، فتنهدت واستدارت آسفة .
وقفت لويزا تنظر إليه ، ويدها تعبث بسترتها المخملية . ان كانوا
يستدعون دايفيد إلى المستشفى ، فلن تستطيع الذهاب إلى الحفلة .
وضع الشماعة مكانها ثم استدار نحوها ممتعضاً :
- قلت لك ألا تجيبي على الهاتف .
- لم أكن أعلم أنك الطبيب المناوب في المستشفى .
- لست كذلك ، لكن أحد مرضاي ينتظر إجراء عملية له منذ ثلاثة أيام.
يظنون أن حالته اساقرت الليلة . يطلبون مني أن أمرّ على المستشفى لألقي نظرة على المريض
وأوافق على إجراء تلك العملية .
- هل أنت من سيجريها .
- أظن ذلك .
- هل يعني هذا أننا لن نذهب إلى الحفلة ؟
- بل سنذهب ، لكن من الأفضل أن نمرّ بالمستشفى لنرى ذلك المريض
ونقرر .
- ربما من الأفضل أن تنتظروا حتى الغد ، على أي حال .
- هممم .. لكنه مريض مراوغ ،ولست واثقاً من أنه يحتمل المزيد
من الإنتظار ، لكنني سأرى .
عندما وصلا إلى المستشفى ، سألها دايفيد : ( هل ستنتظرينني هنا ؟)
لكنها هزت رأسها باسمة :
- ربما تأخرت دهراً ، سأدخل معك وأنتظر في قسمي ، سأحتسي فنجان قهوة مع الأخت ( جينكنز )
- لتتباهي بثوبك الجديد ؟
- ولم لا ؟
افترقا في المستشفى ، فسارت في الممر ، وابتسمت ابتسامة عريضة حين تفاجأت احدى الممرضات وهي تمرّ بجانبها .
كان تالأخت جنكنز في القسم ، تشرف على عمل ممرضة توزع أدوية المساء .
توجهت لويزا ناحيتها ، فنظرت الأخت جنكيز حولها ، ثم أخذت تحدق فيها ، وقد فغرت فاها :
- ألا يمكنك أن تبقي بعيدة عن القسم ؟
فضحكت لويزا : ( كان على دايفيد أن يرى أحد مرضاه ).
علقت الممرضة : ( ما أروع هذا الثوب !)
- شكراً ، هذه المرة الأولى التي أرتدية فيها .
فرددت الممرضة وهي ترفع نظرها إلى تسريحة شعر لويزا : ( إنه يناسبك تماماً).
فقالت الأخت جنكنز: ( لم أرك تصففين شعرك بهذا الشكل من قبل ).
- لم يسبق لي أن فعلت ، ولا أظنني سأفعل ذلك مجدداً.
فعلقت الممرضة : ( آه ، ولكنه جميل جداَ).
وأومأت الأخت جنكنز برأسها موافقه .
- لقد أعجبني أيضاً ، فأنت تبدين مختلفة .
شكرتهما لويزا وقد توردت وجهها قليلاً . ثم استدارت لتعود إلى
المكتب ، وإذ بصوت ضعيف يسمرها مكانها . نظرت إلى سرير زاكاري ويست .
فرأته يتحرك قليلاً . تقدمت نحوه ، وكانت عيناه مفتوحتين :
- هل ناديتنا يا سيد ويست .
راح يحدق فيها بصمت .
- ظنن أنني سمعت صوتك تنادي .
فأغمض عينيه دون أن يجيب ، ثم تمتم يحدث نفسه : ( أصبحت تتراءى لي الآن ).
انحنت لتسمع كلمات ، فسمعته يتمتم من بين شفتيه المتورمتين :
- هذا جنون ! سأجن ، فليساعدني الله .
فتح عينيه ثانية ، واضطرب حين رآها بقربة ، فإبتسمت له مواسية :
- هل أنت بحاجة لشيء ياسيد ويست ؟
فأجابها بنظرة عنيفة غاضبة وزمجر :
- ابتعدي عني ، بحق الله ، لا أستطيع أن أحتمل أكثر ..ابتعدي !
فوجئت بردة فعله هذه فأطاعته من دون أن تنبس بكلمة .
وسمع حفيف ثوبها وهي تسرع نحو المكتب .
تملكها الرعب حين رأت عينيها تغرورقان بالدموع ، وأخذت تتساءل عما يجري لها .
وهي تبحث عن منديل لتمسح به دموعها بغضب .
لا يستطيع هذا الرجل السيطرة على طباعه السيئة ، فهو مريض جداً !
وهو ليس أول مريض يهاجمها ، فلم البكاء ؟
أخذت تحضر القهوة كما طلبت منها الأخت جكنز لكنها لم تجد فرصة لتشربها .
فما أن عادت جنكنز إلى المكتب ، حتى رن جرس الهاتف ، ليصلها صوت دايفيد : ( هل أنت جاهزة ؟)
- نعم ، طبعاً كيف حال مريضك ؟
- مزال غير جاهز لإجراء العملية . سأراك في السيارة بعد دقيقتين !
وضعت السماعة ثم التفتت إلى زميلتها :
- آسفة ، يا هيلين ، لم يتأخر دايفيد بقدر ما كنت أتوقع ، إلى اللقاء فيما بعد .
- نعم ، أتمنى لك وقتاً ممتعاً ، إنما لا تتأخري في العودة !
خرجت لويزا من المكتب ، ووقفت لحظة تنظر إلى سرير زاكاري ويست .
يبدو أنه عاد إلى النوم ، تنهدت . ثم أسرعت نحو دايفيد .
أثار وصولهما معاً إلى حفلة المستشفى التي أقيمت في أفخم فندق في وينبري اهتمام وانتباه الجميع .
كانوا يعلمون أنهما يخرجان معاً ، ولكن حضورهما معاً إلى مثل هذا الحدث البالغ
الأهمية بدا كتأكيد للنوايا . واقترن بذلك اسمها بأسمه اجتماعياً ، واعترف بهما صديقين
تربطهما علاقة غرامية .
قالت لها إحدى صديقاتا أثناء الحفلة : ( عندما تختارين وصيفات عرسك ، لا تنسيني ) .
فردت لويزا بنفاد صبر :
- مهلاً ، يا جين ! لم يمض على بدء علاقتنا يوى بضعة أشهر ولا نفكر في الزواج حالياً.
فقالت جين ضاحكة : ( ربما يفكر هو في الأمر ، فقد لاحظت ظراته إليك ).
احمر وجه لويزا مما جعل الفتيات يغرقن في الضحك .
لم تكن المرة الأولى التي تستاء فيها من سهولة احمرار وجهها . وقد يرى دايفيد
في ذلك دليل أنوثة ، لكنها لعنة ودت لويزا التخلص منها .
أعادها دايفيد إلى المستشفى عند الساعة الواحدة والنصف بعد إنتهاء الحفلة .
وركن السيارة في ساحة المستشفى ثم سألها : ( هل استمتعت بالحفلة ؟)
فأومأت وقد تألقت عيناها : ( أمضيت وقتاً رائعاً ، يادايفيد ، شكراً لك .
ليتني لم أعد إلى العمل !).
بعد أن تناولا عشاءً فاخراً ، وضحكا وتسامرا مع الأصدقاء ، وبعد أن رقصت
مع دايفيد لساعات ، لم تعد ترغب بالعوده إلى رتابة العمل . رد دايفيد برقة :
- صدقيني ، لو لم يكن عليك العودة إلى العمل الليلة ، لتعرفنا إلى بعضنا البعض بشكل أفضل .
دفعت تلك الكلمات بالحمرة إلى وجنتها ، مما جعله يبتسم : ( ما أجملك يا لويزا !)
ومال نحوها يعانقها فأغمضت عينيها ، لكنها لسبب ما ، لم تتجاوب معه .
فابتعد عنها بالرغم من أنها لم تدفعه بعيداً.
رفع رأسه بعد قليل ، ونظر إليها بجفاء : ( اخترت لحظة غير مناسبة ، أليس كذلك؟)
- أسفة يا دايفيد ، لقد تغير مزاجي وحسب ، أظن أن السبب هو عودتي إلى العمل مباشرة .
فابستم لها مواسياً : ( لا بأس ، من الأفضل أن تسرعي إلى عملك ، تصبحين عللا خير يا لويزا )
استبدلت لويزا ملابسها بثياب العمل ، وسارت إلى سرير زاكاري ويست .
كان نائماً ، فوقفت تتأملة ، متمنيه لو تفهم هذا الأحساس الغريب الذي تملكها طوال السهرة ودفعها لرؤيته .
كان جسمها مع دايفيد فيما بقي عقلها هنا . مع هذا الرجل الغريب العدائي !
بعد لحظات ،تابعت جولتها على بقية المرضى ، وعادت إلى المكتب لتكمل عملها .
أخذت تنظر بين الفينه والأخرى إلى سرير زاكاري ويست وهي تتنهد وقد تملكها الإرتباك لمشاعرها هذه .
بقي زاكاري ويست في قسمها طوال الأسبوع التالي . وأظهر تحسناً مستمراً ، بانتظار أن يوافق دايفيد على نقله
إلى المستشفى في لندن .
تمنت لويزا لو يوافق ، فرحيل زاكاري عن القسم سيشعرها بالإرتياح .
ولكن ، هل هذا صحيح ؟ أرادته أن يرحل ، لكنها كانت تشعر بالإكتئاب كلما اقترب موعد قرار دايفيد .
كانت تأتي إلى العمل في المساء لتجد زاكاري ويست في سريره ، فتشعر بإرتياح يزعحها .
وبعد مرور أثني عشر يوماً على الحادث ، دخلت القسم ذات ليلة فوجدت مريضاً جديداً في سرير زاكاري ويست . لقد رحل !
وقفت لويزا تحدق في القسم ، وقد غمرها إحساس بالبرودة والفراغ .لكنها ما لبثت أن انتفضت وسارت مبتعدة . أصبح بإمكانها الآن أن تعود إلى حياتها الطبيعية وان تنسى كل ما يتعلق بزاكاري ويست .
أنت تقرأ
ملاك في خطر. روايات احلام القديمة. للكاتبة شارلوت لامب
Roman d'amourالملخص الاباء ياكلون الحصرم والابناء يضرسون .. ماذنب ملاك الرحمة لويزا جيلبي ان كانت سيارة والدها قد اصطدمت بسيارة الرسام الشهير زكاري ويست ؟! وما ذنبها ان التهمت النيران لوحاته وشوهت وجهه الذي افقد صواب نساء كثيرات ؟! - لا تكذبي علي ! اعرف ما اراه...