"أمصدق لسخفهم كاراميل؟"
سخرت فاتنة رملية البشرة، حالكة سواد الشعر، المتناثر بأطراف ملتوية على كتفيها، حاملة قطها المسمى على فروه اللامع، متربعة به على أريكة مقابلة للمدفئة. تضيء ألسنة اللهب الغرفة المظلمة كما تنعكس عن بشرتها الرملية وشعرها الأسود لتزيد فتنتها فتنة بلونٍ لامعٍ مميز. سرحت بالنار أمامها ليتخذ قطها مكانًا بحجرها عابثًا بأضواء اللهب المنعكسة على بنطالها الأسود تارة وعلى كنزتها الصوفية السكرية ذات الرقبة العالية تارة أخرى.
"يودون لو أتحدث عن الغد! أما من سواي؟ أكثر إنسيٍّ فاقدٌ حسه بالوقت! الأمر برمته مدعاة للضحك. عن أي غدٍ يتحدثون؟ نفس النهار ونفس القمر، نفس الشمس ونفس الليل، كل لحظة بكل ساعة من ساعات اليوم الأربع والعشرين، بأيام الأسبوع السبعة تتكرر. البارحة؟ الغد؟ هما وجهان لعملة واحدة...عُملة اليوم..! ثلاثتهم واحد، الأيام تتكرر. كل يوم يسرد سابقه وتاليه. أتتساءل أي كاراميل كيف يكون الحاضر تكريرا للمستقبل؟ لأن الأيام كلها سواء بالنسبة لي. أكان البارحة انتحل الغد، أو اليوم ينتحل البارحة، لا فرق!"
نَظَرَت لألسنة اللهب ملتهمة الحطب بشرود عدة ثوان وصوت طقطقة الخشب المشتعل يسود المكان، فتابعت بخفوت وتلك النظرة الشاردة تعتلي أدعجيتيها.*
"الغد الذي طالما انتظرتَه يومًا سيصبح البارحة، ويومًا سيصبح ماضيًا بعيدًا، بل ولربما لن تتذكره مُطلقًا. الغد يصبح اليوم، واليوم يمسي البارحة. الأيامُ تسابق الريح والتكرار يلتهمني ببطءٍ كما تلتهم ألسنة اللهب كل ما يقع تحت رحمتها بجفاء. بريق الشغف الملمع لأدعجيتَيّ كمجرةِ دربِ التبانةِ الساحرة قد تلاشى وبات مكانه فراغُ ثقبِ الضياع الأسودِ الحالك"
قاطع شرودها وانغماسها بأفكارها انخفاض الأريكة بجانبها، مخرجا إياها من مستنقعها لافتا بصرها لصاحب الأدعجيتين -اللتين ورثتهما منه- المجعدتين دلالة على كبر السن. لكن الفرق واضح بينهما، فهي منطفئة باهتة، وهو مشتعل بعاطفة أبويِّة مستعرة.
"أبي! لم أنت مستيقظٌ إبان الفجر؟"
"لم يجافِ النوم هاتين السوداوتين حبيبتي"
قابلته بالصمت ليتنهد
"سمعت حديثك مع كاراميل صدفة، أمن بأس؟"
تبسمت بخفوت ناظرة وسط عينيه لتتواصل روحاهما بدلا عن عينيهما.
"ما من بأس"
ساد صوت طقطقة اشتعال الحطب لثوانٍ قبل حديث الأب
"حبيبتي، لا تقلقي من المستقبل. لا تقلقي من اضمحلال الوقت وتساوي الأيام. كل امرئٍ سيمر أو قد مر بهذه الحال، على الأقل مرة واحدة بعمرنا القصير. لكن حدة وعمق الشعور بها يختلف من آدمي لآخر، وأمثالنا المفكرون بإفراط، لأوقاتٍ مطولة، أكثر من يغرق بالتفاصيل وما بين السطور. التفكير سلاحٌ ذو حدَّين، إما تطوعه أو يطوعك. العاطلون من العشرينات يهابون الغد، والموظفون من الثلاثينات كذلك يفعلون، وحتى بسن الأربعين فما فوق، كلٌّ قد يرهب المستقبل بفؤاده."
قفز القط برشاقة لأحضان الأب ملاعبًا إياه، لاعقًا يديه، متمسحا به، فخطف ابتسامته على لطافته.
"أدري صعوبة المواصلة بعد ركود الكتابة الناخر لعظمك، بعد استقباحك رؤية الأوراق والأقلام، بعد فقدانك شغفك، بعد رفض كتاباتك ورواياتك من كل الجهات لسنواتٍ عِدة. ومع هذا إياك والاستسلام، اتبعي أحلامك ولو كنتِ مُمزقة، حتى وإن تأذيتِ أكثر فهو مؤقت! فهروبك وانسحابك رغم مداواتهما ظاهرا سيلاشيان روحك باطنا! خلاف اتباعك حلمك، ربما تقاسي أكثر بينما تجري لتحقيقه، لكن تحقيقك إياه سيشفي ندوبك ويرمم حطامك. وأقسم بأني سأبذل الغالي والنفيس لتحققيه"
نظر لوجهها الضائع ممسكا بكفها الصغير المتلاشي بين كفيه.
"لا تتراجعي أبدًا، وتذكري استحالة دوام حلكة الفجر القاتمة؛ فشروق شمس الأمل ماحق إياها لا محالة. لسنا مخلدين في الحياة صغيرتي، بل آجالنا آتية، وإن أعمارنا لقصيرة، فلا تضيعي مكتوبك من الدنيا سدىً. إن استمررتِ بالعزلة ستنهارين. حالك ليس استسلامًا، بل راحة قصيرة كي تعودي بقوة، لا تدعي إجازتك أبدية. الأمر بيدك."
نهض ليقبل جبينها ثم نطق مبتعدًا
"فكري بكلماتي جيدا واتبعي قلبك صغيرتي. تُصبحين على خير."
_______________
*العين الدعجاء: العين شديدة السواد.