المطار

11 3 0
                                    

يكاد قلبي يخرج من مكانه. ركبت تلك السيارة وأقفلت الباب بتوتر، لم ألحظ ذلك إلا بعد أن رأيت نظرات سائق السيارة التي كانت تلتهب فاعتذرت له وأكدت أن اليوم يحمل حدثا مهما جدا. اكتفى بأن رسم نصف ابتسامة على وجهه وقال:

- تكفي أهمية وجهتك يا أنسة.

ابتسمت، ولم تكن ابتسامتي موجهة إليه... لم تكن أفكاري هناك في تلك السيارة، بل قد وصلت قبل أن أصل أنا...

يداي باردتان، ترتجفان، قلبي يدق بقوة، على وجهي ابتسامة لا تزول، ودمعتان حبيستان في عيني...

يحتار المارة في وصف تعابيري وقتها أكانت توترا أم فرحا، تزول شكوك السائلين إن عرفوا إلى أين أذهب... لكن ليس هذا ماكان مهما...

تبحث عيناي في كل لافتة أصادفها في طريقي عن كلمة واحدة "المطار"... أجل كنت ذاهبة إلى المطار للقاء أحد ما. قد يبدو أحدا عاديا في نظر جميع من كانوا موجودين، لكن ليس عاديا بالنسبة لي...

وصلت إلى المطار كما أردت. تحققت من الساعة، أجل لا يزال هناك بعض الوقت لأرتاح قبل أن يصل. جلست في أحد المقاعد حيث وجب أن أنتظر وراقبت هاتفي، فتحت الموقع المتتبع للطائرات، لم يتبق إلا عشر دقائق قبل وصوله. كثيرا ما كنت مشتاقة الى المستقبل، لكن ذلك المستقبل قد أتى أخيرا...

أخذت من حقيبتي لوح الشوكولا وعلبة العصير التي اشتريتها قبل أن أصل إلى هنا نظرا لأن أسعار أبسط الأشياء في المطارات خيالية - أعني مرتفعة جدا- ووضعت سماعاتي بأغنيتنا المفضلة، ثم أني قد حاولت مسح دموعي كي لا يلحظها المنتظر...

أجل، أخيرا هو هنا.

وصلت الطائرة التي تحمل أجمل هدية في الوجود، الطائرة التي كان انتظارها من أقسى التجارب التي مرت علي. هاتفي أشار لي باختفاء أثر الطائرة التي تتبعته وصولا الى المطار مما يعني ان الرحلة قد انتهت.

وقفت ورحت أتمشى جيئة وذهابا، لم أره بعد لكني كنت أحس باقترابه، نظرت في هاتفي، لا بد أنه سيبعث برسالة في أية لحظة... ثبتت النظر في هاتفي وأنا أرى دليل دخوله لحساب الفيسبوك واضحا وأنتظر رسالته. أدرك أنها لن تتأخر كثيرا...

إنه يكتب...

قلبي يخفق بقوة أكبر...

تبدو تلك اللحظات كدهر...

أرسلها أرجوك...

ثابتة مكاني لا أحس بأي شيء من حولي...

رنة قصيرة وهزة خفيفة صادران عن الهاتف...

"أنظري أمامك" هذا ماكان مكتوبا في رسالته... يإلهي لا بد أنه يراني الآن...

تسارع خفقان قلبي لا يمكن التحكم به...

رفعت رأسي، أبحث عنه بين الوجوه، أدقق في تقاسيم كل العابرين... لكني لا أراه...

كادت دموعي تنساب، لست متأكدة لماذا ولكنني كنت خائفة جدا للحظة، لكن ذلك لم يدم طويلا...

كان خلفي مباشرة، بيني وبينه مسافة خطوة، انحنى قليلا ونادى باسمي "هبة الله" والذي اعتاد ان يكون الشخص الوحيد الذي يناديني به كاملا دون اختصار.

اتسعت عيناي فجأة، حبست أنفاسي و أحسست أن قلبي توقف للحظة، بالكاد استطعت أن ألتفت في غمرة المشاعر تلك. عيناي غارقتان بالدموع، حتى أني اضطررت أن أمسحهما لأدقق بتقاسيم وجهه، لأتأكد أنه هو، أنني لست أتخيل أو أحلم...

لحظة صمت كانت سيدة المكان، فقط صمت وسكون، لم أكن قادرة على التحرك وقتها وأنا أتأمل ابتسامته. أظنني ابتسمت بدوري، لست متأكدة من تعابيري وقتها، ولا متأكدة من أي شيء غير صدق السعادة التي كانت تغمرني وقتها.

لا أحد كان موجودا في العالم ما عدانا، لم يكن هناك غيرنا، عيوننا تلتقي في الواقع لأول مرة... لم يقل أحد منا أي كلمة بعد، لم يجرؤ أحد منا على كسر هيبة الموقف، ما عدا دموعي ربما، وضحكته...

أجل ضحكته... تعودت سماعها، لكن لرؤيتها أثر مختلف كليا، أثر يصل إلى القلب مباشرة، ما جعلني أضحك وأنسى كل التوتر.

مسحت الدموع وأملت رأسي قليلا مبتسمة، ابتسامة سعادة لم تر النور منذ فترة ليست بالقصيرة، ابتسامة كانت فعلا من القلب...

قلت أخيرا وبصوت عال:

- أخيرا أتيت، أخيرا أراك...

تعود دموعي من جديد ولا أتمالك نفسي حينها ولكني أحاول المتابعة بصوت ممزوج بشهقات البكاء:

- أخيرا كل منا حقيقي للآخر...

- توقفي أتريدين أن يسمعنا كل العالم؟

- وليكن... دعهم يعرفون أنك هنا، أنك أتيت، دع الكل...

لم أستطع إتمام جملتي بسبب الغصة في حلقي...

تمنيت او انني ابكي على كتفه، لو أنه يسندني... أردت هذا بشدة ولكن كل ما كان يسعني حينها أن أحفظ تقاسيمه وأحفرها بذاكرتي كما لو أنه كان ليختفي بعد ثوان، و أخاله فهم شعوري حين قال:

- لا بأس، توقفي عن البكاء أنا هنا الآن، أليست هذه هي الأمنية التي عملنا على تحقيقها؟

- أجل، تحققت، وبالكاد أصدق هذا...

- لست في حلم، بل إنه الواقع...

أجل كان واقعا... كان شخصي المفضل حينها واقفا أمامي يجر حقيبته بجانبه منهكا من السفر لكن ابتسامته لم تفقد حيويتها، تبدو عليه السعادة. يبدو لطيفا حقا، أجمل حتى من الصور.

لست أدري من كان منا أسعد برؤية الآخر، ولكن كان هناك أمر مهم أكثر للتفكير فيه في تلك اللحظة...

كان موجودا فعلا...

واقفا أمامي...

إنه واقع وحقيقة...

تحقق الحلم اخيرا...

حين تريد الكتابةحيث تعيش القصص. اكتشف الآن