2. لا حضنَ يحويهِ بعد اليوم.

121 29 18
                                    

لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين..
قراءة ممتعة 💞

...

الحرب وحشٌ دميم، غير رحيم
زنيمٌ لهُ قبضتان من جحيم
يجتثّ براعم الطّفولة
ينثرها كالهشيم

...

واقفةً أمام باب مدرستهِ تتأفّف متبرّمةً والنظراتُ غير الودّيةِ للمارّين من أولياء الأمورِ برفقةِ أطفالهم تجعلها تحسَب الدقائق ساعاتٍ تحت ضغطٍ مهيبٍ. وبعد طول انتظارٍ تلمحُ هيئة أخيها المنكسرةِ بتقدمٍ نحوها، فتتنفّس الصعداء وتقتربُ مختصرةً الوقت لتسحبهُ من يده وتقول موبّخة:
«أين كنت؟ هل تعرف كم من السيّء الوقوف هنا في انتظارك؟»

ولأنها لم تلحظ الدّموع المتلامعةَ في عدستيه لم تحذر من نبرتها العالية التي زادتهُ ترَحًا. والصغير اكتفى بالصمتِ وسار محاولًا مزامنة خطواتها السريعةِ، يتنشّقُ مبتلعًا شهقاتِ بكاءٍ متمرّدةً تباغتهُ مع كل نفَس. 

مدّةٌ وجيزةٌ انقضت وسحبت معها غضب سومي بعيدًا، فالتفتت لأخيها الذي كان صامتًا على غير عادتهِ، وبرؤيتها لزاويتي فمهِ المنخفضةِ حزنًا اندفعت بالسؤال:
«ما بك؟»

فلم يجبها جيمين، ولأنّ ما خاضتهُ اليوم من شجارٍ مقيتٍ في مدرستها كفاها عن فائضٍ من الألم لم تحاول تقصّي حالتهِ، وعادت تقلّبُ الأحداث في عقلها وتزدادُ بها أسىً.. إذ تلاسنت بحدّةٍ مع زميلةٍ راحت تطعنُ بانتمائها وتنعتها بألفاظَ مسيئةٍ لسببٍ واحدٍ يتّمثّل بكرهها للفارّين من حربٍ اندلعت في كوريا، إلى هنا بحثًا عن الأمان، وانتهى بها الأمرُ كارثيًا، باكيةً أمام زملائها الآخرين حين بلغ منها الاحتمال ذروته.. ولولا وجود صديقةٍ طيّبةٍ لجانبها لما صبرت على تلك المدرسةِ والمعاملة يومًا إضافيًّا.

تابعا السير بصمتٍ، وكلّ منهما منشغلٌ بأفكارهِ، حتّى بلغا المنزل وقبل أن يخلع جيمين حذائهُ ويدخل نبس بغتةً:
«أريد أمّي.»

سومي التي كانت تجلسُ القرفصاء وهي تخلع أحذيتها التفتت تنظر إليهِ بدهشةٍ من فوق كتفها. كان عاقد الحاجبين يشدّ على قبضتي يديهِ الصغيرتين بعزمٍ، فبسطت شفتيها بتعبيرِ أسفٍ ثمّ لم تولّيه الأنظار وتابعت ما تفعلهُ متمتمةً تتقنّع اللامبالاة:
« مالذي جعلك تذكرها الآن؟»

شعرت حينئذٍ بيدهِ الصغيرةِ تقبض على ملابسها وأتاها صوتهُ راجيًا في حين يحاول جاهدًا التحدّث بجديّة وحزم:
« خذيني.. إلى أمّي! إنّي أريدها!»

التفتت إليهِ حين أفلتها، وبالنّظر لعينيهِ التي اتّسعت وامتلأت بالدموعِ فقدت هبةَ تجاهلِ الألم وأدمعت لحالهِ مشفقةً. كان من عادة أخيها حين يذكر أمّهما أن يكون مبتسمًا وهي التي تبكي فحارت في أمره..

برزت خطوطٌ في جبينها دهشةً وأسفًا وهي تحاولُ الهيمنة على حروفٍ ارتجفت في قولها:
«جيمين.. لا يمكننا زيارتها بعد الآن.»

فهزّ الفتى رأسه بعنفٍ نافيًا حين انفلتت من شفتيهِ الملتحمةِ غضبًا شهقة. ثمّ رفع كتفيه وأكمل بعناد:
«لماذا لا يمكننا؟»

- «لأننا بعيدون جدًّا عنها.»

أنكس رأسهُ بخيبةٍ وتهافتت الدموع على وجنتيهِ التي احمرّت، فأخذته بين ذراعيها معانقةً تربّت على ظهرهِ وخصلاتِ شعرهِ السوداء، ونطقت بعد حين بلكنةٍ لطيفةٍ محاولةً درأ الحزن عنه:
«أخبرني ما تريدُ أن تقولهُ لها وهي ستسمعك.»

لكنّ إجابتهُ اختزلها بعلوّ النحيب، يهزّ رأسه بعنفٍ يخبرها أنّه ما عاد ذاك الصغير الذي يصدّقُ كل ما يقال، فعامٌ في الغربةِ وضعهُ في صورة قسوة الحياة، وعلّمهُ ما عجزت الأفواهُ عن البوحِ به لسنوات..  فما كان منها إلّا أن تشاركهُ البكاء، بقلبٍ ملوّعٍ جاهلةً بما يدورُ من حولهِ ليرديهِ صريعَ الشوق لماضٍ نُسي، على حين غرّة..

ولو أنّه لم يمتنع عن البوح بما بداخلهِ لعلمت أنّ انبثاقَ الذكرياتِ ما كان سوى ثمرة حادثٍ أليمٍ وقع له في المدرسة..

وقبل ساعات، كان يجلسُ في مقعدهِ مستمعًا لثرثراتِ الأطفال من حوله. ورغم ما استعصى عليه من فهمٍ لما يُقال فطنَ أنّ محور الحديث هو، و أنّه المقصودُ بالإساءة.. فهناك طفلٌ بأصابعهِ يسحب زوايا عينيهِ لتضيق وآخرُ يضحكُ لمهارة التقليد.. ثمّ يتباهى أحدهم بسرد كلامٍ حفظهُ عن والدهِ حول الأضرار التي لحقت ببلدهم بعد توافدِ اللاجئين، ويتفنّن آخر بالشتائمِ وها هم جميعًا بالضحك غارقون..

ويبقى جيمين بينهم دون جرأةٍ على رفعِ عينيهِ، ولا تنفكّ النظراتُ المهينة تبثُّ الضعف في قلبهِ ولو ادّعى النقيض فليس بمفلحٍ في إقناع نفسهِ أن لا بأس.. 

ولم يكن الحالُ ليزداد سوءًا لولا اقتربَ أحد الأطفال منه،  وجثى أمامهُ ليحدّق بوجهٍ باكٍ يحاول التواريَ عن العيون، فابتسمَ لا يبتغي بالبسمةِ مودّة، وشقَّ شفتيهِ ليقول: « ألن تشكونا لأمّك؟ هيّا عُد أيها الصبي الغريب.. اذهب وابكِ في حضنِ أمك هيّا!»

...

يتبع..

زنيم: لئيم.

تَرَح: حزن.

أزِف الرّحيلحيث تعيش القصص. اكتشف الآن