الفصل الثاني (رقصة ...بين ذراعيه) ***********

846 24 9
                                    

استيقظت من نومها على صوت حركته وهو يغادر فراشهما نحو الحمام المرفق بالغرفة والذي أغلق الآن بابه بعنف...
فزفرت بقوة وهي تشعر بالصداع يكاد يفلق رأسها...
حاولت العودة للنوم لكن دون جدوى ...
هل تدركون مدى سوء هذا الشعور عندما تدرك فور استيقاظك أن لا شئ يستحق أن تقوم لأجله...
وأن عالم النوم الذي يسعك بأحلامه أكثر رحابةً من واقعٍ يخنقك بين جدرانه؟!
ابتلعت غصة حلقها بمرارتها وهي تحتضن وسادتها ليصطدم أنفها برائحة عطره فأبعدتها بعنف بأحد كفيها بينما لكمتها بكفها الآخر...
قبل أن تطلق آهة خافتة وهي تنهض من نومتها لتستند على ظهر الفراش وتلك الذكرى تداعب مخيلتها...

_تحبني؟!
_لا أعرف!
وجوابه استدعى صيحة دهشة خافتة منها قبل أن يردف بنظرات تنبض عشقاً:
_الجواب يقتضي أن أعرف شأن قلبي كي أجيب...لكن معكِ أنتِ ...قلبي صار ملكك...أنتِ أعلم بالجواب مني فلا تعيدي السؤال!
_للأبد يا تيم؟!
_للأبد يا "رائحة الجنة"!

_صباح الخير!
قالها باقتضاب وهو يخرج من الحمام وقد لف جسده العاري بمنشفته ليرمقها بنظرة استخفاف قاطعاً بها شرودها في ذكراها معه ... فالتفتت نحوه لتهمس بتشتت:
_صباح النور!
فتح خزانة ملابسه ببعض العنف الذي عكس انفعاله هو الآخر ...
فقامت من فراشها لتتوجه نحوه ثم تناولت قميصاً قطنياً أبيض اللون قربته منه مع همسها دون أن تنظر لعينيه:
_الجو حار اليوم...هذا سيناسبك أكثر.
استدار نحوها بجسده ثم ابتسم ساخراً وهو يفرد لها ذراعيه قائلاً بنبرة متهكمة:
_ألبسيني إياه !
أغمضت عينيها للحظة بألم ثم عادت تفتحهما لتلبسه إياه بالفعل...
تباطأت أناملها على أزراره تغلقها مع همسها :
_تعلم كم أحب ذلك!
اتسعت ابتسامته الساخرة والتي حملت الآن شيئاً من القسوة مع جوابه المقتضب :
_أعلم!
لم يتبقّ لها إلا الزر الأخير المقابل لصدره والذي تعمدت أن تختم به ما تفعله...
فتركته مفتوحاً للحظات صمت طالت ثم بسطت أناملها على صدره العاري مكان قلبه تماماً لتتطلع لعينيه بنظرة عميقة قبل أن تهمس برجاء:
_أخبرني بالحقيقة.
قبض أنامله بقوة مغمضاً عينيه ليرد ببرود:
_الحقيقة أمام عينيكِ...أنتِ التي ترفضين تصديقها!
_كاذب!!
صرخت بها أخيراً في انهيار تعوض به طول تظاهر بالصلابة والصبر قبل أن تبتعد عنه وهي تلوح بذراعيها مع هديرها العاصف:
_لن تفعلها....لن تجرؤ...لن أسمح لك...لن...
قطعت عبارتها بعجز وصدرها يعلو ويهبط بفيض إحساس ذرفته دموعها بغزارة...
لكنه بدا وكأنه لا يهتم بكل هذا عندما تجمد مكانه كتمثال صخر مع قوله الثلجي:
_افعلي ما بدا لكِ!
شعرت في هذه اللحظة وكأن قلبها سيتوقف من فرط مرارته لتعاود اقترابها منه وهي تهمس بذهول:
_لم تعد تهتم؟!
أشاح بوجهه دون رد ثم عاود غزو عينيها بنظراته الجامدة...
دموعها الغارقة بين تساؤلاتها لم تجد خلف قضبان جحوده أي جواب...
صرخات "صمتها" العالية لم يكن لها في وديان قسوته أي صدى...
خفقاتها المذعورة فقدت أمانها القديم في ملامحه...
فلم يبقَ لها سوى ...فراغ!!
فراغٌ أسود رهيب امتص روحها لآخر قطرة ...
لتراه أخيراً عبر غمامتي دموعها يخلع قميصه ببطء مستفز وكأنه يتعمد إثارة أعصابها أكثر...
ثم كوره بين قبضتيه بعنف حتى جعده تماماً قبل أن يلقيه على الأرض ليدهسه تحت قدميه هامساً من بين أسنانه:
_خياراتك لا تناسبني يا "هانم"!
كان مخزون انفعالاتها قد نفد عن آخره فلم يترك لها سوى جسد جامد بعينين تنزفان الدمع بلا توقف...
فيما تجاهلها هو تماماً ليلتقط قميصاً آخر" أسود" اللون ارتداه على عجل ثم أتبعه بسروال أنيق قبل أن يتوجه نحو المرآة حيث مشط شعره قبل أن يجلس على طرف الفراش ليرتدي جوربيه ونعليه بنفس البطء المستفز...
وأخيراً توجه نحو باب الغرفة حيث بدا وكأنه تذكرها فجأة ليقول بنبرات صلدة دون أن ينظر إليها:
_حريتك في يدك...كل ما عليكِ أن تطلبيها...أنا لن أمانع.
_لا!
هتفت بها بانهيار وكأنما كانت عبارته كافية لينصهر من جديدٍ جليد جسدها الذي اندفع نحوه لتطوق ظهره بذراعيها مردفةً بألم:
_قل أي شئ إلا هذا...لن أستطيع فراقك...
ثم حلّت ساعديها من على ظهره لتدير جسده نحوها مستطردة بين دموعها:
_لن أخسرك...حتى ولو كان الثمن عمري وحياتي...و....كرامتي!
تلكأت كلمتها الأخيرة على شفتيها لتلفظها أخيراً مع زخة أخرى من دموع ما عادت تنفد...
فاشتعلت عيناه بغضب أسود وأصابعه تنغرس في لحم ذراعيها بقسوة مع همسه المحترق :
_كرامتك!
قالها وكأنه يبصقها في وجهها قبل أن يميل على وجهها مردفاً بقسوة أكبر:
_أعدكِ أن أمرغ كرامتك هذه في الوحل ...وأنتِ اختبرتِ وعودي من قبل!
تطلعت إليه بذهول للحظات وكأنها لا تصدق ما تفوه به لتوه ...
قبل أن تتمالك نفسها لتهمس بصوت مختنق:
_لا أذكر الآن سوى وعدك لي بأن تحبني للأبد!
ازداد ضغط أصابعه على ذراعيها حتى تأوهت بألم وعيناه تمطرانها حديثاً لم تفهم منه حرفاً!!!
ثم انفرجت شفتاه وكأنه على وشك أن يهتف بشئ ما كتمه في آخر لحظة قبل أن يدفعها بعنف ليخرج صافقاً الباب خلفه بعنف...
رفعت رأسها للسقف للحظات تحاول كبح دموعها المنهمرة ثم توجهت نحو فراشها تستدعي نوماً توقن أنه لن يأتي أبداً...وراحةً مالها فيها نصيب...
ليته يخبرها بالحقيقة...خان أم لم يخن!!
لا!!!!!
بل ليته لا يفعل أبداً!!
وهمٌ تسكنه خيرٌ من حقيقة تنفيها خارج وطنٍ لن يكون إلا معه!!
تأوهت بصوت عالٍ وأفكارها الحيرى تكاد تفتك برأسها في مؤامرة مع دقائق تلتهمها ببطء...
حتى سمعت طرق الباب مع صوت براء:
_أمي...أنا استيقظت...تعالي وتناولي إفطاركِ معي.
زفرت بقوة دون رد لعله يظنها نائمة ويرحل...
لكن الصغير عاود إلحاحه خلف الباب المغلق:
_أمي...أنا أعرف أنك مستيقظة...سمعت صوتك مع أبي منذ قليل...هل أدخل؟!
هنا رفعت صوتها لتهتف بحدة لم تقصدها:_عد لغرفتك يا براء...لن أخرج الآن!
وكأنما ظنت أن عبارتها هذه ستصرفه عنها !!
لكن العكس هو ما حدث عندما هتف هو بلهجة راجية استفزتها أكثر:
_الجميع نائمون ولا أريد الإفطار وحدي!
_اذهب الآن يا براء!
صرخت بها بنفاد صبر ليكون نصيبها صمتٌ طويل أيقنت بعده من رحيله خائباً...
ورغم شعور الذنب الذي استنفرته أمومتها والذي احتل كيانها للحظات...
لكنها لم تقم من فراشها إلا بعد ساعات !!
ساعات قضتها لا تفعل شيئاً سوى التحديق في سقف الغرفة وذهنها يقاتل ب-شرف- بين ساحة ماضٍ "حلو"وحاضرٍ "مُرّ"!
ليس أسوأ من ذكرياتك البائسة إلا الذكريات السعيدة التي توقن من أنها لن تعود...
أجل...إن كانت الأولى قاسية فالثانية قاتلةٌ لو تعلمون!!
اغتسلت لتلقي على مرآتها نظرةً متشحةً بالهمّ قبل أن تبدل ثيابها لتذهب لغرفة الصغير الذي لم يكن هناك...
دارت بعينيها في المكان وهي تشعر بشعور غريب وكأن هناك من يراقبها !!
ثم تقدمت بحذر من فراش الصغير الذي بدا مشعثاً وقد توزعت عليه لعبه بطريقة غريبة...
كل مجموعة ألعاب متشابهة تحيط بقطعة غريبة عنها تقف وحدها في المنتصف ليتحول المشهد إلى عشرات الدوائر المتجاورة بداخل كل دائرة مركز واحد...عدا مجموعة واحدة تركها خالية الوسط بلا مركز!!
انعقد حاجباها بشدة وهي تحاول فهم ما قصده برصّها بهذه الطريقة التي لا تبدو لها عشوائية بحال...
قبل أن يعاودها ذاك الشعور بأنها ليست وحدها في الغرفة...
قشعريرة باردة لم تدرِ لها سبباً سرت في جسدها مع انقباض قلبها بإحساس خانق...
_براء!
هتفت بها تناديه وعيناها تتفحصان الغرفة باهتمام ثم أطلقت شهقة خافتة ونظراتها تتجمد على تلك الزاوية من الغرفة...
لتطلق بعدها صيحة قصيرة وهي تهز رأسها بارتياع...
فهناك ...
كانت أسماك الزينة كلها ميتةً في الحوض !!
تلك الأسماك التي كانت تحرص على حياتها بكل اهتمام ...
فقد كانت "رمزاً" كبيراً في علاقتها ب"تيم"!!
اقتربت من الحوض أكثر لتتأكد مما رأته عندما سمعت صيحة الصغير الملتاعة خلفها:
_ماتوا؟!
التفتت نحوه بحدة ليندفع هو إلى داخل الغرفة مردفاً بهلع وهو يغطي وجهه بكفيه:
_ما رأيته تحقق...العقرب...تماماً كما أبلغوني...أبلغوني أنه سيقتلهم!!
=======
_ما أخبار "المناقصة" الجديدة؟!
هكذا سأل تيم مدير مكتبه الذي تعرق وجهه مع إجابته المتوترة:
_للأسف!لم...
قطع عبارته ثم هز رأسه مشفقاً عليه من الإجابة فخبط تيم سطح المكتب بقبضته ثم كز على أسنانه قائلاً بغضب:
_ما يحدث معنا ليس طبيعياً...أريد أن أعرف من يقف خلف خساراتنا المتوالية هذه.
أومأ الرجل برأسه في طاعة بينما شرد تيم ببصره وهاجسٌ ما يغزو مخيلته بقوة...
مسلسل خساراته يتتابع بسرعة متزايدة ...
ولو استمر الأمر على هذا الوضع فسيخسر كل ما بناه في سنوات ...
شركته الصغيرة التي بناها بكده وتعبه توشك أن تنهار فماذا عساه يصنع؟!
ربما لو علم من خلف هذا لاستطاع إيقاف هذه الكارثة!!
_لقد توصلت لطرف خيط ...سأتتبعه لأعلم من عدونا.
قالها مدير مكتبه بتردد مشوب بالإشفاق فرفع إليه تيم عينيه ببعض الأمل مع قوله :
_افعلها بسرعة إذن وأبلغني بآخر التطورات.
ابتسم الرجل بما يشبه الوعد وهو يغادر غرفته بخطوات متعجلة...
فيما شرد تيم ببصره للحظات مفكراً في أمر آخر صار يحتل غالب تفكيره مؤخراً...
ولما اكتملت تفاصيل- خطة ما- في رأسه تناول هاتفه ليتصل بالرقم المنشود ولم يكد الاتصال يفتح حتى قال بلهجة آمرة:
_ماذا فعلت بشأن ما طلبته منك؟!
ويبدو أن الإجابة على الطرف الآخر من الاتصال كانت مرضية فقد أصدر تيم همهمة استحسان قبل أن يتلقى رداً من محدثه جعله يتساءل بشرود:
_مواصفاتي؟!
صمت للحظات بعدها مفكراً ثم ارتسمت على شفتيه ابتسامة متلاعبة قاسية مع قوله:
_أي امرأة لا تملك شعراً أسود وعينين سوداوين...جسدٌ فائر بأنوثته...مقاييسٌ مرسومةٌ ب"المسطرة"...
ثم صمت بعدها قليلاً ليردف بنبرة غامضة:
_لا أريدها شديدة الأناقة بل على العكس...أريدها أشبه بامرأة بسيطة شعبية الأصل.
هنا ظهرت على وجهه أمارات الظفر عندما وصله رد بالموافقة من محدثه...
فاتسعت ابتسامته الماكرة ثم ضاقت عيناه بوعيد غامض مع قوله:
_أريدها متفرغة لي وسأدفع لها كل ما تطلبه!
========
_من هؤلاء الذين أبلغوه؟!
غمغم بها يزن بدهشة وهو يستمع من شقيقته لما حدث والذي انتهى بعبارة براء الأخيرة...
فهتفت إيزيس بانفعال:
_لا أعلم...سألته بعدها فلم أصل معه لشئ...هو يقول إنه سمع أناساً يتحدثون بهذا أمامه ...يخبرونه أن العقرب سيقتل الأسماك...لكنه لا يذكر شيئاً سوى هذا.
عقد يزن حاجبيه بضيق وهو يغمغم بتوتر:
_عقرب ؟!شئ عجيب!!
قالها وهو يتذكر ما حدث معه تلك الليلة عقب عودته مع مزن من الخارج ...
تلك الخرقة المحترقة وكلامها الغامض العجيب...
والعقرب الأسود الذي قتله بنفسه!!
أي هراء هذا الذي يحدث هنا؟!
أي عبث؟!
لكنه ابتسم بصعوبة ليمنح شقيقته شعوراً بالأمان مع قوله الذي اختاره هادئاً لأبعد حد:
_لا تصدقي كل ما تسمعينه من براء ...الطفل شديد الذكاء وخياله واسع...أسماك الزينة لا تعيش في الغالب لسنوات طويلة...والحقيقة أنني كنت أتعجب من طول عمرها هنا ...لكنني كنت أعزو هذا لاهتمامك الفائق بها ...فلا تحملي الأمر فوق ما يحتمل!
_تموت كلها في نفس التوقيت؟!وعقب نبوءة براء مباشرة؟!
هتفت بها بتوتر تحاول إقناعه بسبب قلقها البالغ فانعقد حاجباه من جديد وهي تستطرد بينما تقوم من مكانها لتقترب منه وهي تلوح بذراعيها:
_الولد ليس على ما يرام منذ تلك الليلة.
_أي ليلة؟!
هتف بها بتوجس لتجيبه بنبرة تصاعدت في انفعالاتها:
_تلك الليلة التي سقط فيها من على الدرج أمام غرفة (......)!
قطعت عبارتها فجأة وكأنما استنكف لسانها أن ينطق الاسم فتجمدت ملامحه فجأة عندما فهم ما تعنيه...
قبل أن يربت على ذراعيها مهدئاً مع تساؤله القلق:
_ماذا حدث بعدها؟!
هزت رأسها وهي تجيبه بين دموعها:
_لا أدري كيف أصف لك الأمر لكن براء تغير كثيراً من ليلتها...شروده طال أكثر...طريقة تناوله لألعابه صارت مبهمةً بالنسبة إليّ...يحكي لي قصصاً غريبة لا أدري من أين يأتي بها...والآن ...نبوءته ...
_ستقولين نبوءته من جديد؟!
هتف بها بنفاد صبر مقاطعاً عبارتها مع زفرة قوية ثم ضمها لصدره صامتاً للحظات...
قبل أن يقول وهو يرفع وجهها إليه:
_لا تخيبي ظني في رجاحة عقلك ...لا تجعلي صراعاتك العاطفية مع أبيه تؤثر على حسن تقييمك للأمور.
نظرت إليه بعجز للحظات وهي لا تدري بماذا ترد...
غريزة الأمومة بداخلها تنبئها أن صغيرها يواجه شيئاً غريباً قد غيّر الكثير من تفاصيله...
وحدسها يخبرها أن تلك الغرفة الملعونة لها علاقة بما يحدث هنا...
لماذا ترك يزن هذه الغرفة على حالها حتى الآن؟!
لماذا لم يحرق محتوياتها كلها بدلاً من أن تبقى هكذا تثير بداخلها كل ذكرياتها البشعة بل وتحشو عقلها بخرافات حول صغيرها؟!
خرافات؟!هل هي حقاً خرافات؟!
نعم...
نعم...يزن محق!!
هي إيزيس سيدة نساء عائلة الأمير والتي يتحدث الجميع عن صبرها وسداد عقلها فكيف تستجيب لكل هذا؟!
هي مجرد خرافات صاغها توترها الشديد هذه الأيام!!
وبهذا الخاطر الأخير ابتسمت أخيراً ابتسامة متكلفة وهي تواجه أخاها بقولها :
_معك حق...يبدو أن أعصابي متعبة قليلاً.
اتسعت ابتسامته الحنون وهو يربت على وجنتها قائلاً برفق حازم:
_إذن اذهبي ودلّلي نفسكِ كما تحبين ...ولا تحملي همّ براء...أنا سأتحدث معه!
أومأت برأسها في امتنان مع تربيتة هادئة على صدره قبل أن تغادر غرفته بخطوات متمهلة...
فيما راقب هو انصرافها بعينين شاردتين قبل أن تتزاحم الأفكار في عقله الذي لا تهدأ خواطره أبداً...
ثمة لعبة ما تحاك خيوطها هنا في بيته...
لعبة يراد بها إثارة الذعر في قلوب الجميع وقد تزامن هذا مع موعد زفافه المنتظر بمُزن...
ابتسامةٌ حانية غزت شفتيه برقّة عند خاطره الأخير!
غريبةٌ هذه المعشوقة الغالية!!
غريبةٌ حدّ أن اسمها وحده في ذهنه كفيلٌ بتبديد ضيقه كاملاً ...
وكأنها خلقت لتكون وحدها جنته الصغيرة على هذه الأرض!!
اكتفى بهذا الحد من خواطره ليغادر غرفته بعدها متوجهاً إلى غرفة الصغير الذي تهلل وجهه عندما رآه مع قوله بسعادة طفولية:
_خالي يزن!
قالها وهو يندفع نحوه فمد له يزن كفيه لكن الصغير تسلق جسده الطويل بقدميه متشبثاً بهما كما يفعل دوماً حتى وصل لمستوى كتفيه فاحتضنه يزن بقوة مع قوله:
_عاش البطل حبيب خاله!
ضحك الصغير بسعادة وهو يتعلق بعنقه هاتفاً بلهفة:
_افتقدتك كثيراً...هل ستلعب معي؟!
لكن يزن سار به ولازال يحمله بين ذراعيه ليجلس على فراش الصغير ويجلسه على ركبتيه مع قوله بحنان:
_أنا متعَب الآن ولن نستطيع اللعب.
ظهرت الخيبة على وجه الصغير لكن يزن عاجله بضحكة دافئة مع قوله بحذر:
_ما رأيك لو نتبادل القصص ؟!والدتك أخبرتني أن لديك العديد من الحكايات المختلفة...احكِ لي واحدة منها وسأحكي لك واحدة بعدها.
هنا زاغت عينا الصغير للحظات مع تجمد ملامحه الذي بدا ليزن غريباً خاصةً مع قول الصغير :
_تريد حكايةً عن "الغرباء"؟!
_من "الغرباء"؟!
سأله يزن بتوجس وهو يدرس ملامحه بدقة ...فأجاب الصغير بنفس النظرات الزائغة:
_لا أدري...هم يأتون على بالي فجأة .
ظل يزن يتفحصه وقد بدأ يعذر شقيقته في شعورها بالقلق لكنه نفض هواجسه جانباً ليعاود قوله بابتسامة مصطنعة:
_حسناً...أسمعني حكايةً منها.
صمت الصغير للحظة لتغيم عيناه بشرود غريب قبل أن يقول :
_كان هناك أخوان...أحدهما طمع في الآخر...فدعاه مع بعضهم إلى حفل كبير...أبلغهم أنه ابتاع صندوقاً ذهبياً كبيراً سيمنحه هدية لمن يناسبه قياسه...كان الشرير قد قام بصناعة الصندوق بقياسات أخيه الطيب بالطبع...وعندما نام فيه أخوه أغلقه عليه وألقاه في النهر ليموت غريقاً.
إلى هنا بدت الحكاية منطقية ولا تكاد تخرج عن خيالات طفل صغير...
ربما هي سوداوية نوعاً لكنها لا تزال طبيعية مقارنةً بما سيقوله الصغير الآن:
_وبعدها حزنت زوجة الأخ الطيب وبحثت عنه حتى وجدته...لكن الأخ الشرير قطع جسد أخيه قطعاً كثيرة وزعها في أماكن مختلفة ...
ظهر الاهتمام أكثر على وجه يزن وهو يضم الصغير لا إرادياً نحوه ليسأله:
_وماذا بعد؟!
ظل الصغير على شروده الهائم وكأنما احتُلّت ملامحه البريئة بطوفان غضب غير مبرر مع استطراده :
_ساعدها الجني الطيب على أن تجمع أجزاء زوجها الذي عاد للحياة ليوم واحد فقط حيث تمكنت فيه من إنجاب صغيرهما الذي سينتقم لأبيه.
انعقد حاجبا يزن بقوة وهو يشعر بقلقه يتزايد ...
لكن ملامح الصغير عادت لبراءتها رويداً رويداً مع قوله أخيراً وقد عادت لصوته براءته الطفولية:
_الخير ينتصر دوماً...صحيح.
أومأ يزن برأسه في تشتت وهذه الحكاية تعيد لذهنه ذكرى خاصة نسيها من زمن...
_صحيح يا خالي؟!
عاد الصغير يكرر سؤاله بإلحاح فالتفت نحوه يزن ليمنحه ابتسامة باهتة مع قوله :
_صحيح يا "بطل"...لكن الموتى لا يعودون للحياة.
ثم صمت لحظة ليعود لشروده مع قوله:
_ربما لو كانوا يعودون...لتغير الكثير!!
ولم يكد يتم عبارته حتى رن هاتفه باسمها وقد كان هذا كافياً لينسى كل شئ عندما أزاح الصغير جانباً برفق ليرد على اتصالها بهمسه الدافئ:
_نجمتي...أخيراً استيقظتِ!
ضحكتها المشرقة على الجانب الآخر من الاتصال أضاءت جنبات روحه مع عباراتها التي مزجت دلالها ببراءتها الطفولية غير المتكلفة وهي تحكي له أحلام نومها كما اعتادت...
ابتسم بحنان وهو يقوم ليغادر غرفة الصغير وقد نسي كل شئ مع سيل كلماتها الشهية...
غافلاً عن نظرات الصغير خلفه والتي تحولت براءتها لما يشبه الشرر وقد عادت ملامحه تتجمد مع همسه الخافت:
_لا نزال في البداية!
===========
انبعثت الموسيقى الصاخبة في هذا الملهى الليلي الفاخر ... فتمايلت الأجساد استجابةً لدعواتها على تلك المنصة العريضة بأضوائها الراقصة...
بينما جلست هي على طاولتها تقلب كأس الخمر الذي تركه لها النادل بين أناملها دون أن تقربه لشفتيها...
هي لا تحب شرب الخمر إلا هرباً من واقع لا تريد أن تعيشه...
لكنها الآن تريد أن تكون بكامل وعيها ...
إن لم تفعلها له فلمن إذن؟!
ولم تكد تتم خاطرتها حتى انتبهت لأنامله التي وضعها الآن على كتفها مع همسه القوي جوار أذنها:
_قومي لنرقص!
رفرف قلبها منتشياً بلحظات قربٍ وشيكة رغم يقينها من أن دعوته لها هنا الليلة لن تزيد عن كونها مجرد اتفاق على عمل جديد...
لكنها كانت تتشبث ببقايا حلم لا تزال جذوته مشتعلة حول رماد عمرٍ محترق!!
لهذا وضعت كأسها جانباً لتقوم وتتجه معه نحو تلك المنصة حيث تبدلت الموسيقا الصاخبة لأخرى هادئة ناسبت تحول الحضور لثنائيات تبدو -للناظرين- عاشقة ...
لكنها تعلمت بالطريقة الأقسى أن القلوب تبقى سراديب مغلقة على ما فيها!!
أحاط خصرها بكفيه يتمايل معها برفق على الأنغام الناعمة وعيناه المحترقتان تجوبان المكان كعادتهما في تفحص حذر...
محترقتان؟!!
نعم...طالما أعطتها عيناه هذا الانطباع...
لونهما الرمادي الداكن يذكرها بحريق بيتها القديم ...!!
ارتجف جسدها للذكرى التي لازالت تؤرق ذهنها رغم كل هذه السنوات التي ظنت أنها ستنسيها...
فالتفت نحوها ببصره ليهمس بصوته الثلجي:
_لماذا ترتجفين؟!
رسمت ابتسامتها -الوظيفية- على شفتها ببراعتها المعهودة وهي تهمس بلهجة عملية بعيدة تماماً عما تشعر به:
_لا شئ يا "وزير"...الجو بارد قليلاً فحسب!
لم يبدُ على وجهه الاهتمام بما قالت وعيناه تعاودان دورانهما الحذر في المكان للحظات قبل أن يقول :
_مهمتك الأخيرة كانت أكثر من ناجحة...ستحصلين على أجر إضافي...يبدو أن "الفلاشة" التي حصلتِ عليها من شقة ذاك الرجل كانت تساوي الكثير.
اتسعت ابتسامتها "الوظيفية " والتي حملت الآن بعض الفخر وهي تقول بنبرة عملية:
_ألهذا طلبت لقائي اليوم؟! أم أنه عمل جديد؟!
عاد بعينيه إليها في نظرة متفحصة طالت للحظات أربكتها...
قبل أن تتثاقل نظراته على ملامحها ببطء مثير رفع الدماء إلى وجنتيها واستجلب لديه ابتسامة ساخرة قلّما تكسر قالب جموده مع همسه:
_تخجلين؟! عجباً!!
ورغم أن من مثلها اعتدن الإهانة لكن عينيها دمعتا بحق في هذه اللحظة...
لكن من سيسمح بترف "الشعور" بالإهانة ها هنا؟!
لا هي بالسذاجة لتفعلها ولا هو بالرحمة ليفعل!!
لهذا اغتصبت ضحكة رقيعة تجيد عزف ألحانها الماجنة جيداً مع همسها وأناملها تتلاعب بياقة قميصه:
_خجل؟!أضحكتني؟!
عادت ملامحه لجمودها وضغط أصابعه على خصرها يزداد قسوة مع همسه الصارم وكأنه يعيدها لمكانها على رقعة الشطرنج الخاصة به:
_دعكِ من هذا الهراء واستمعي لتفاصيل العمل القادم!
وارت خيبتها بتراب" اهتمام "مصطنع وهي تسأله مختلسةً النظر لكنزيها "المحترقين" في عينيه:
_"حلوى" أم "عجين"؟!
و"الحلوى" في عملهم إشارة لتلك الليالي التي لا يُراد بها إلا مجرد متعة جسد ...
أما "العجين" فهو ذاك العمل الإضافي الذي يتطلب المزيد...
كما كانت مهمتها السابقة في سرقة تلك "الفلاشة" من ذاك الرجل ...أو تصوير أحدهم معها في وضع مخلّ لمصلحة ما...
أو ربما مجرد جمع معلومات عن خريطة مسكنه ومحتوياته...وأحياناً "ثرثرةٌ " مقصودة لاستجلاب أخبار خاصة يخبرها هو بها قبلها!!
وفي كلي "الحالتين" الحلوى أو العجين هي لاتهتم!!
هي تنفذ ما يُطلَب منها فحسب!!
لا مجال لرفض أو اعتراض...هو طريق ذو اتجاه واحد...
بدأته خطاها وانتهى الأمل في عودة.
لكن من قال إنها تفكر -أصلاً- في عودة من هذا الطريق؟!!
هي ليست بهذا- الغباء -لتدرك موقعها الحقيقي في هذا العالم ولا بهذه -القوة- لتستطيع تغييره!!!
_حتى الآن يبدو الأمر ك"حلوى"...لكن ظني أنه سيتحول ل"عجين" من نوع خاص!
انتشلها بها من أفكارها مجيباً على تساؤلها السابق قبل أن يردف ب-شبه- ابتسامة:
_دعينا فقط ننتظره حتى يتخمر...وساعتها...
قطع عبارته عامداً وهو يعود إليها ببصره مميلاً رأسه بحركة ذات مغزى فأومأت برأسها في طاعة قبل أن تقول بضيق لم تستطع نكرانه:
_أعطني الاسم والتفاصيل وسأكون هناك في الموعد.
_تيّم نصر...شقته الخاصة في (.........) العاشرة مساءً.
أجابها باقتضاب لتحفظ العنوان الذي قاله في ذاكرتها ثم تلفتت حولها لتهمس متسائلة:
_أتفهم إخفاءك لاسمك عنا...لكن هل لي أن أسألك...لماذا تسمي نفسك "الوزير" وليس "الملك" مثلاً؟!
كانت الموسيقى الآن قد توقفت تماماً فثبت كلاهما في مكانه للحظة ..
قبل أن يقترب هو منها بوجهه هامساً أمام عينيها :
_الوزير هو أهم قطع الشطرنج...هو أكثرها سلطة ...الخديعة الكبرى أن يظن الجميع أن القطع كلها تتحرك لخدمة حياة الملك...بينما هو مجرد منصب شرفي لمن يقف عاجزاً ينتظر من يحميه...لكنني أنا...
ضاقت عيناها بتفحص وكأنها تحاول قراءة ما خلف كلماته...
بينما استطرد هو بنبرة مفعمة بالثقة :
_أنا أحب الهجوم في كل وقت لاقتناص كل ما يمكنني الفوز به ...لا الوقوف خلف ساترٍ من المدافعين...
قالها ثم أخذ نفساً عميقاً زفره بعدها ببطء في وجهها ليردف بنبرة أكثر قسوة:
_وعندما تحين نهايتي فلا قيمة ل"ملكٍ" بعدي...صدقيني ستكون نهاية اللعبة.
==========
_وَسَن...لماذا تأخرتِ يا ابنتي؟!
هتف بها البقال العجوز في تلك الحارة الشعبية المتواضعة وهو يلمحها عائدةً في آخر الليل فابتسمت الفتاة بامتنان وهي تتوجه نحوه مع هتافها :
_لا تقلق يا عمي "رشدي"...السيد الكبير عاد بالأمس واضطررت للمبيت هناك ليلتي السابقة...والعمل اليوم كان أكثر من المعتاد.
أومأ الرجل برأسه في تفهم ليعاود قوله بإشفاق:
_همام قد يغضب...تعلمين كم يغار عليكِ!
فضحكت وهي تمد أناملها لتتناول قطعة حلوى من أمامه هاتفةً بمرح:
_وهل تظنه كان سينتظر لليوم؟!لقد أخذت حصتي من التقريع ليلة أمس لكنني عرفت كيف أصالحه!
ضحك الرجل ضحكة رائقة وهو يراها تفتح قطعة الحلوى
لتلتهمها ببساطة مع استطرادها:
_ماذا أفعل ؟! أنت تعلم كم يتعب في عمله ليلاً ونهاراً ليتمكن من توفير نفقات زواجنا...وأنا أحاول فقط مساعدته براتبي أنا الأخرى.
تنهد الرجل بحرارة وهو يفتح لها زجاجةً من المياه الغازية التي ناولها لها مع قوله:
_حال الشباب صعبٌ حقاً هذه الأيام ...هل تصدقين أنني تزوجت عمتك "زينب" بخاتم من فضة وفي شقة والديّ وأخذتها بحقيبة ملابسها..وحتى هذه اقترضتها من الجيران!!
ضحكت بانطلاق رغم أنها تسمع منه هذه الحكاية للمرة العاشرة على الأقل فيما استطرد هو محاولاً إبهارها:
_أجل والله...كما أقول لكِ بالضبط...وقضينا أسعد أيامنا لا نكاد نأكل سوى وجبة واحدة لكن البركة كانت تحوطنا...الأمور كانت هكذا بسيطة ..لا أدري لماذا تعقدونها هذه الأيام؟!
شربت زجاجة المياه الغازية على دفعتين ثم وضعتها برفق أمامه على الطاولة وهي تقول بصوت مرهق:
_لسنا نحن من يفعل ...لكل وقت آذان كما يقولون...دعك من هذا وأعطني ما يكفي لإفطار مناسب ...أريد أن أعد لهمام وجبة جيدة عقب عودته فجراً.
هنا تلفت الرجل حوله يمنةً ويسرة قبل أن يميل بجسده نحوها عبر طاولة المحل ليقول محذراً:
_أنا أعرف أخلاقكِ جيداً وكذلك أخلاق خطيبك...لكن عقد القران لا يعني زواجاً حقيقياً...انتبهي لهذا !
ورغم خجلها من نصيحته هذه لكنها ابتسمت مع هتافها الذي امتزج شجنه بمرحه:
_لا تخف عليّ يا عمي...من تخبطت بها الحياة مثلي تعرف كيف تحافظ على نفسها.
تمتم لها الرجل بدعاء خافت وهو يعد لها ما طلبته بسرعة إشفاقاً على إرهاقها الذي احتل قسماتها ...
ثم ناوله لها قائلاً بنبرة حنون:
_عمتك "زينب" تنتظرك على الغداء غداً...
ولما لمح الاعتراض البادي على ملامحها أردف بنبرة أكثر حزماً:
_هل كبرتِ علينا يا "بنت"؟! تعلمين أننا ننتظر الجمعة إجازتك بفارغ الصبر لتشاركينا غداءنا...وأنتِ تتذرعين بحجج واهية كل أسبوع.
هنا ابتسمت ببعض الحياء وهي تغمغم بارتباك:
_لا أريد أن أثقل عليكما يا عمي...كما أن همام...
_آآه...هماااااام!!
غمزها بها مقاطعاً بنبرة ذات مغزى فتسربت حمرة لذيذة إلى وجنتيها مع استطرادها الخجول:
_إنه اليوم الوحيد الذي يمكنني فيه الخروج معه...أنا وهو نعمل طوال الأسبوع بلا راحة.
ضحك الرجل وهو يتأمل خجلها بحنان أبوي قبل أن يغمغم برفق:
_هنأكما الله يا ابنتي...كم أود لو أغمض عينيّ وأفتحهما فأجدكِ معه في بيت واحد.
_يارب يا عمي ...يارب!!
هتفت بها بحماس مفاجئ وهي ترفع كفيها للسماء فعاد الرجل يضحك بحنان وهو يخبط كفيه ببعضهما هاتفاً:
_رحم الله الحياء...تحشمي يا "بنت"...أين الخجل؟!
لكنها غمزته بخفة وهي تلوح له بكفها مودعة قبل أن تأخذ طريقها لبيتها القريب والذي تسكن إحدى غرفتي طابقه الأرضي بينما يسكن همام الغرفة الأخرى ...
تنهدت بحرارة وهي ترمق باب غرفته المقابل لبابها بنظرة مشفقة وهي تتذكر أنه لا يكاد ينام بضع ساعات كي يوفق بين عملين في اليوم الواحد...
ثم عادت ببصرها إلى غرفتها التي فتحت بابها برفق لتضع ما بيدها على المائدة الصغيرة هناك...
توجهت بخطوات مثقلة نحو فراشها لتتمدد عليه بجسد متعَب قبل أن تضبط "المنبه" جوارها على وقت الفجر كي تقوم للصلاة وإعداد بعض الشطائر لهمام...
ابتسمت بحب وهي تتذكر عتابه الشديد لها بالأمس لاضطرارها للمبيت في بيت عائلة "الأمير" وكيف كاد الأمر يتطور لشجار عنيف بينهما لولا أن تداركته هي بحسن ذكائها في إدارة أمورهما...
أجل...قليلٌ من الصبر هو ما تحتاجه مع شخص غيور مثله خاصةً وهي تدرك كم يحبها ويتعب لأجل مستقبلهما معاً.
تثاءبت بإرهاق والنوم يخطف ما بقي من إدراكها قبل أن يهديها حلماً وردياً منغماً بالسعادة معه...
وفي تمام الخامسة فجراً استيقظت ببعض النشاط على صوت المنبه القريب ...
فابتسمت ل"طيف" الحلم القريب ثم نفضت غطاءها عنها لتقوم من فراشها بسرعة...
توضأت وصلّت الفريضة كما اعتادت ثم قامت لتحضر لهما وجبة سريعة...
ولم تكد خيوط الشمس تبسط سلطانها على السماء حتى سمعت صوت باب غرفته المقابلة يغلق !
ابتسمت وهي تذهب لمرآتها الصغيرة ، بدلت ملابسها بأخرى أكثر رونقاً ثم مشطت شعرها بسرعة قبل أن تغطيه بوشاحها بارتخاء -متعمد- أظهر الكثير منه ...
فتحت باب غرفتها لتتوجه نحو بابه هو الذي طرقته بخفة عدة طرقات متتالية...
لكن الصمت ظل نصيبها لدقائق طالت...
شعرت بالخيبة وهي تدرك سرعة استسلامه للنوم عقب عودته فزفرت بقوة وهي تنتوي العودة إلى غرفتها ...
لكنها ما كادت تتحرك خطوة واحدة مبتعدة حتى فوجئت بالباب يفتح وبذراعه يجذبها إلى الداخل ليلصق ظهرها بالحائط المجاور للباب مع همسه المشتعل بعاطفته:
_تأخرتِ!
كانت أنفاسها الآن متلاحقة إن لم يكن بفعل المفاجأة فمن أثر قربه الحميمي هذا...
والذي ازدادت خطورته وعيناه تطوقان نظراتها بعاطفة زلزلتها مع همسه باسمها:
_وسن!
تضرج وجهها بحمرة ملتهبة وشفتاه تغازلان بشرتها بشغف حار لكنها دفعته برفق أخيراً لتهمس بمزيج من عُتب ودلال:
_توقف وإلا لن آتيك هنا قبل زواجنا!
كانت هذه صيغة تهديدها كل مرة والتي تنتهي دوماً بانصياعه المؤقت لها قبل أن يعاود الشوق تدمير حصونه...
لهذا زفر بقوة قبل أن يهمس لها بصوته المنهك:
_أنا تعبت!
ابتسمت بإشفاق وهي تربت على وجنته برفق هامسة:
_صدقني...كلمتك هذه بلكنتك المتعبة هذه أقوى عندي من كل كلام الحب الذي يتغنون به...لا بأس يا حبيبي ...لم يتبقّ إلا القليل على مُقدم تلك الشقة الصغيرة التي رأيناها...بعدها يمكننا تجهيزها بأبسط الأشياء وساعتها لن نؤخر زواجنا ساعة واحدة...أما الأقساط فلنتدبر أمرها فيما بعد.
لكنه مط شفتيه في استياء قائلاً بتردد:
_ولماذا لا نتزوج هنا؟!
كان يعلم أن اقتراحه هذا شبه مستحيل...فغرفته كما غرفتها شديدة الضيق بالكاد تكفي أحدهما...
لهذا لم يستطع جدالها وهي تقول بتعقل:
_صدقني أنا مثلك أتمنى لو يكون هذا اليوم قبل غد...لكننا لو تزوجنا فستهبط عزيمتنا للادخار...كما أن مصاريفنا ستتضاعف لو رزقنا بطفل...وقتها سنكون جنينا على أنفسنا وعليه..
ثم ربتت على كتفه وهي تقول بابتسامة حانية:
_لا أريد أن يتذوق أولادنا ما تجرعناه من مرارة الدنيا...نتعب الآن ونصبر قليلاً حتى نرتاح فيما بعد.
_يا مسهّل!!
قالها بابتسامة فاترة وهو يرفع وجهه للسماء فضحكت برقة وهي تسحبه معها خارج غرفته لتقول بحماس:
_اسبقني إلى السطح...سأحضر الطعام هناك!
لكنه هز رأسه نفياً وهو يهتف باعتراض:
_سأحمله أنا!
هزت رأسها بلا معنى وهي تدخل إلى غرفتها لتضع الطعام على صينية كبيرة ناولتها له ثم صعدت معه الدرج نحو سطح المنزل والذي كان يطل على مئذنة المسجد القريب وما جاوره من بيوت لا تقل عنه عراقةً وقدماً...
وضع الصينية على مائدة خشبية قديمة هناك ثم ذهب يبحث عما يمكن أن يجلسا عليه ..
فيما وقفت هي تتأمله بإشفاق مشوب بالفخر...
قميصه الذي بدا متسخاً مهملاً بعد ليلة عمل في المطبعة ونهار شاق في المطعم ..
ملامحه الوسيمة الخشنة التي كساها إرهاقها...
جسده الطويل على قوته والذي بدا الآن في أضعف حالاته وهو يحمل لها صندوقاً خشبياً كبيراً وضعه أمام المائدة قائلاً بأسف:
_سنضطر للجلوس على صندوقين...يبدو أن أم "صالح" قد طمعت في الكرسيين اللذين كانا هنا .
ضحكت ببساطة وهي تتذكر المرأة الطيبة التي تسكن الطابق الأخير هنا ...
فقالت بمرح وهي تجلس على الصندوق أمام المائدة :
_أو لعلهم أحفادها لا يتركون شيئاً إلا أفسدوه...ابتلاء!
ابتسم وهو يحضر لنفسه صندوقاً آخر ليجلس أمامها قائلاً بلهجة تحذير:
_لا تسخري من أطفال الناس حتى تريْن أطفالك!
هنا ضحكت هي بانطلاق وهي تدور ببصرها في المكان قبل أن تعود بعينيها إليه في نظرة عاشقة مع قولها برضا:
_الحمد لله!
رفع عينيه إليها بنظرة متسائلة فتناولت كفه بين أناملها تضغطه برفق ثم رفعته إلى شفتيها بقبلة عميقة قبل أن تقول له بصدق:
_رغم أني أعيش طوال الأسبوع في بيت عائلة "الأمير" ...لكنني لا أجد سعادتي بحق إلا هنا...معك!
ابتسم وهو يحتضن كفيهما بكفه الآخر دون رد...
فيما استطردت هي بنفس النبرة الراضية:
_هل تصدقني لو قلت لك إن قميصك المجعد المتسخ هذا أفضل عندي من كل ثيابهم الأنيقة ؟!يكفي أنك تعمل بجد لتكسب من عرق جبينك؟!
فعقد حاجبيه وهو يسألها بغيرته التي اعتادتها:
_ولماذا تقارنين أصلاً؟!
عادت تضحك ضحكة صافية وهي تهز رأسها بقولها:
_لا فائدة !! غيرتك هذه غير معقولة!!
زفر بقوة وهو يشيح بوجهه مع هتافه الحاد:
_لو كنت تقيمين وزناً لغيرتي لما قضيتِ ليلتك في بيت غريب !
ربتت على كفه مهدئة وهي تقول بما يشبه الاعتذار:
_زفاف السيد يزن بعد أيام في البيت الكبير ... وقد عاد بالأمس فقط وكان لدينا بعض المهام الإضافية حتى يرضىعن الأمور جميعها فهو رجل يهتم كثيراً بالتفاصيل كما تعرف...ورئيسة الخدم أعطتني اليوم إجازة عوضاً عن الليلة السابقة.
صمت للحظات دون رد فعادت تسترضيه بقولها المرح:
_كما أنك كنت معي على الهاتف طوال الليل..."عليه العِوض" في ثمن بطاقة الشحن!!
لكنه تجاهل مزاحها ليزفر بقوة ثم لوح بسبابته في وجهها قائلاً بحدة:
_لن يتكرر أمر مبيتك هذا حتى ولو تركتِ العمل...هل تفهمين؟!
أومأت برأسها إيجاباً ثم مدت أناملها له بشطيرة مع قولها الحاني:
_لا داعي للشجار يا "مشتعل الطباع" ...دعنا نستمتع بوقتنا قبل أن يستيقظ الناس .
تناول منها شطيرتها ولازال بعض الضيق على ملامحه ...
ذاك الضيق الذي عرفت كيف تذيبه بهمسها الدافئ:
_أحبك في كل أحوالك!
التوت شفتاه بشبه ابتسامة وهو يشيح بوجهه عنها فضحكت وهي تخبطه في كتفه بقبضتها مداعبة مع قولها:
_ألن تقول شيئاً؟!
لكنه أمال وجهه نحوها وهو يرفع أحد حاجبيه بمكر هامساً:
_تعرفين أنني لا أجيد التعبير سوى بلغة واحدة!
فعادت تضحك بدلال وهي تتناول شطيرة بدورها لتقضم منها قضمة ...ثم قالت بابتسامة شاردة:
_هل تذكر أول مرة التقينا فيها؟!
ابتسم وهو يتذكر بدوره فيما استطردت هي بضحكة عابثة:
_هناك حب من أول "نظرة" ... لكن معنا نحن...كان حباً من أول "شجار"!!
اتسعت ابتسامته وهو يقول بخشونة:
_كنت ساكناً جديداً ولا أدري أن من تسكن أمامي مجنونة بحب الضوضاء...صوت التلفاز في غرفتها على آخره طوال الليل!
رمقته بنظرة عاتبة فلانت لهجته نوعاً وهو يردف:
_لم أكن أعلم أنكِ تقيمين وحدكِ وتفعلين هذا دوماً لأنكِ تخافين!
تنهدت بحرارة وهي تعيد شطيرتها مكانها ...
ثم قامت لتتوجه نحو سور السطح حيث أخذت نفساً عميقاً وهي تستند براحتيها عليه قائلة بشرود:
_عندما تتربى عمرك كله وحيداً فمن الطبيعي أن تنمو لك عادات غريبة!
لمست عبارتها وتراً خاصاً لديه فقام من مكانه بدوره ليتوجه إليها ثم احاط خصرها بذراعه وهو يقف جوارها قائلاً بشرود مماثل:
_ومن قد يفهمك مثلي في هذا؟!
فالتفتت نحوه ليطير الهواء وشاح رأسها مع همسها :
_معك حق...متشابهان نحن لأبعد حد!
هنا التفت هو نحوها ليغطي شعرها بوشاحها من جديد بحرص قبل أن يحتضن نظراتها بعمق هامساً:
_لهذا أحميكِ حتى من نفسي...
ثم أطرق برأسه ليردف:
_وإن اختلفت الملامح كلانا صورة واحدة في نفس المرآة !

تعاويذ عمران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن