الفصل الرابع

364 13 3
                                    

الفصل الرابع
(البركان يبدأ ثورته....)
========
بعد مرور شهر....

_همام! ما الذي أتى بك باكراً هكذا؟!
هتفت بها وسن بدهشة مشوبة بالقلق وهي تفتح باب غرفتها لتجده أمامها ...قبل أن تنظر في هاتفها الذي أشارت ساعته للتاسعة مساء!
كانت معتادة دوماً أن تعود هي في هذا التوقيت تقريباً من بيت عائلة الأمير فيما يعود هو من المطبعة فجراً...
وعودته الآن تعني إما أنه مريض أو ....
_تركت العمل!
جاءت عبارته المشتعلة بغضبها تؤكد هاجسها فخبطت بكفها على صدرها لتهتف باستنكار:
_لماذا؟!
لكنه تجاهل الرد بينما تراجع خطوة ليقول بصوت مختنق وقد رفع رأسه لأعلى :
_تعاليْ نخرج!
رمقته بنظرة ضائقة طويلة قبل أن يتحول ضيقها لإشفاق فاستغفرت الله بصوت مسموع ثم جذبت معطفها لترتديه بسرعة...
أغلقت باب غرفتها خلفها لتسير جواره صامتة مكتفية باحتضان كفها له ...
قبل أن تنتبه لدورها -العظيم- في علاقتهما ...
أجل...همام صموتٌ بطبعه تغنيه أفعاله عن أقواله...
لكنها هي صاحبة الركن الحصين من الكلمات الدافئة التي تجبر دوماً كسر خاطره حتى ولو كانت هي الأخرى مكسورة الخاطر مثله!
لهذا ضغطت كفه برفق وهي تستجيب لوتيرة خطواته المندفعة التي تعلم أنه يفرغ فيها انفعالاته ولم يكادا يصلان إلى شاطئ "الكورنيش" حتى بادرته بقولها الحنون:
_اهدأ أولاً وبعدها احكِ لي!
اختلجت عضلة فكه وهو يحافظ على إطراقه الصامت للحظات ...
فعادت تهمس برفق:
_دعنا نفكر سوياً ...أخبرني ماذا حدث!
وقف مكانه أخيراً ليستند على السور المعدني القصير براحتيه قبل أن يقول بغضب:
_السافل كان يحتجز إحدى الفتيات العاملات بالغرفة الداخلية...سمعت أنينها المكتوم فدخلت لأخلصها منه!
انعقد حاجباها بغضب هي الأخرى وهي تقترب منه لتستند على السور بدورها لتسأله بترقب:
_ودفعت وظيفتك ثمن شهامتك!
ضرب السور بقبضته بقوة وهو يلتفت نحوها هاتفاً بانفعال:
_إنه عِرض فتاة كل ذنبها أنها خرجت للعمل...ماذا كنتِ تنتظرين مني؟!
تنهدت بحرارة ثم اغتصبت ابتسامة واهنة لتقول بمرح مصطنع:
_وأنا التي ظننتك مجنوناً بغيرتك عليّ وحدي؟!! الأمر يتعداني لجميع النساء إذن!
لكن وجهه حافظ على عبوس ملامحه وهو يقول بجدية:
_صدقيني رأيتكِ فيها وقتها...ليس أنتِ فقط ...أمي الراحلة كذلك!
أغمضت عينيها بإشفاق وهي تربت على كتفه فيما استطرد هو بشرود:
_المرأة التي تحافظ على شرفها مع "قَرصة" الفقر في زمن كهذا تستحق أن يضحى الواحد منا لأجله بحياته لا بمجرد بوظيفة!
فتحت عينيها ببطء لتمنحه نظرة اعتزاز عميقة ثم قالت بحروف تقطر حباً:
_يالحظّي بك!
زفر زفرة خافتة وهو يهمس بنبرة مخذولة:
_أجل! يالحظك بالبائس التعس الذي أضاع عمله لتوه بدلاً من أن يسعى بجد أكبر ليعجل بزواجه منك!
وخزت عبارته قلبها وهي تدرك معنى أن يقول رجل -مثله- شئٌ كهذا!!
فازدردت ريقها ببطء لتقول بنبرة قوية:
_المال يروح ويجئ لكن قلباً كقلبك لن يُعوض...لا تبتئس هكذا...من ابتلانا يدبرها!
تنهد بحرارة دون رد للحظات قبل أن يرفع عينيه إليها هامساً بابتسامة شاحبة:
_تواسينني وأنتِ أشد ضيقاً مني أنا؟!!
فابتسمت وهي تقترب منه خطوة لتحتل نظراته بعمق نظراتها العاشقة مع همسها:
_وما "أنت" ؟! وما "أنا"؟!كلانا واحد!
هنا امتدت أنامله تحتضن كفها بقوة وكأنه يبثها عبرها حديثاً ليس بقادرٍ عليه لسانه...
قبل أن يتركها ليستخرج من جيبه علبة صغيرة فتحها أمام عينيها صامتاً ...
فاتسعت عيناها بترقب وهي تجد خاتماً فضياً رقيقاً تناولته بخفة لترتديه ....
ثم همست أمام عينيه بنبرة غريبة:
_ماذا أفعل فيك؟!
وعبارتها كانت تحمل نكهة عتاب خفية لذاك الذي فقد عمله فذهب ليشتري لها هدية وهما أحوج ما يكونان لأي قرش!!
لكن حروفها كانت تذوب هياماً برجلٍ تذكرها بهدية في عز همه فقط ليسعدها بها!!!
لهذا لم يكن عجيباً أن قال كلاهما في نفس اللحظة:
_لا تحزني!
_لا تحزن!
قبل أن يبتسم كلاهما ل-المفارقة- وأناملهما تتعانق بقوة لتتسلم هي مبادرة الحديث من جديد بقولها المفعم بالأمل:
_سأحدث رئيسةالخدم لتكلم السيدة إيزيس ...ربما أمكننا إيجاد عمل لك معي في بيت "الأمير"!
انعقد حاجباه يفكر في قولها مع تساؤله:
_وماذا سأعمل هناك؟!
صمتت تفكر بدورها قبل أن تهتف فجأة:
_سائقاً؟!
ازداد انعقاد حاجبيه فيما استطردت هي بحماس وقد بدت لها الفكرة رائعة:
_ألم تكن تعمل سائقاً لذاك الرجل قبل وفاته وعملك بالمطبعة؟!
التوت شفتاه بابتسامة واهنة وهو يقول بشرود:
_سائقاً فحسب؟! لن تصدقي كل الأعمال التي أديتها في عمري هذا.
كان قد حكى لها كيف اضطر للعمل بعد وفاة والديه في أعمال كثيرة ليجد ما يسد جوعه...
ورغم بساطة أعماله هذه التي كانت تشعره ببعض الخجل وهو يحكي عنها ...لكنها كانت ترفعه في عينيها أكثر وأكثر!!!
لهذا عادت تربت على كتفه لتنتزعه من طوفان إحباطه وهي تهتف بنفس الحماس:
_السيدة مزن على وشك دخول الجامعة...وقد سمعت أن السيد يزن يريد أن يكون لها سائق خاص كي يطمئن عليها..يمكنني فتح هذا الموضوع مع رئيسة الخدم...لقد أحبتك كثيراً في تلك المرات القليلة التي رأتك فيها هناك معي...وأعتقد أنها لن تمانع في ترشيحك .
هز رأسه يفكر في حديثها وقد راقت له فكرتها ليقول بتردد:
_أفضل ما في الأمر أننا سنعمل سوياً في نفس المكان ويمكنني الاطمئنان عليكِ في تلك الأيام التي تضطرين للتأخير فيها عن موعدك...لكن...
قطع عبارته بزفرة أخرى من زفراته الملتهبة لكنها فهمت ما خلفها من ضيقه بعملها هي هناك وخوفه من تأثرها بمعيشتها هناك وسط رفاهية لا يمكنه توفيرها لها مهما فعل...
فعادت تقول لتقنعه:
_ربما ستضطر لترك عملك في المطعم لكن لا بأس...راتبك من عملك هناك سيزيد عن راتب المطعم والمطبعة معاً بكثير...ليت الله يدبر لنا هذا الأمر ستكون فرصة العمر!
_فرصة العمر؟!
غمغم بها بتشكك فوكزته بسبابتها في صدغه لتهتف بمرح حقيقي هذه المرة:
_تفاءلوا بالخير تجدوه ...
ثم مدت أناملها تفك عقدة جبينه لتردف بدلال عاتب:
_ويقولون عن المرأة أنها سبب "النكد"؟!! أنا أكاد أقبل يديك لتضحك !
ارتسمت على شفتيه ابتسامة شاحبة تحولت لضحكة مشرقة عندما رفعت هي صوتها نوعاً لتهتف بتأنيب لا يخلو من مرح:
_لو استبعدنا أنك شخص عبوس بالفطرة...ومهارتك الفائقة في جلب المشاكل...وغيرتك التي تقارب الجنون أحياناً...فيمكنني الاطمئنان على مستقبلنا سوياً في بيت "الأمير"...
ثم كزت على أسنانها لتقول بنبرة محذرة:
_وإلا فسينتهي بنا الحال ونحن نتسول معاً على هذا "الكورنيش"...في سابقة هي الأولى من نوعها لزوج من العاشقين المتسولين!
ولم تكد ترى ضحكته حتى ضحكت بدورها ليتشاركا الضحك للحظات قبل أن تصفق بكفيها معاً هاتفة :
_أجل...هكذا عرفت كيف أنتزع ضحكتك هذه...يا مغيث!!
رمقها بنظرة مفعمة بعاطفته ثم قال بأصدق لهجة سمعتها منه يوماً:
_أنتِ أفضل ما حدث لي في هذا العالم منذ وُلدت!
فابتسمت وهي تربت على كتفه هامسة بحب:
_أما أنا ...فلم أولد بحق إلا منذ عرفتك!
ثم رفعت رأسها للسماء مع كفيها بدعائها بصوت مرتفع:
_يارب يسر لنا الأمر واجعلها ساعة قبول!
=======
_ما الذي جاء بكِ إلى هنا؟!
هتف بها من بين أسنانه وهو يفتح باب شقته ليجدها أمامه...!!!!!
ورغم ما حاولت التظاهر به من شجاعة لكن صوتها خانها ليخرج من بين شفتيها مهزوزاً مع همسها:
_فكرت أنك ....ربما...أقصد...تريد.....
تلعثمت باقي حروفها وهي تلعن سراً صديقتها التي نصحتها بأن تقترب منه أكثر بعدما علمت عما صار بينهما من لقاءات حميمية خاصة لثلاث مرات في شهر واحد ...
لقد زعمت لها أنه من الذكاء أن تحاول تقليل المسافة بينهما ...
هو أخذ الخطوة الأولى وعليها هي أن تتخذ الثانية!
وهي -بحماقتها- هاودت قلبها قبل نصيحة تلك اللعينة وتناست أنه هو الذي كان يطلبها كل مرة!
للأسف غرها سابق هدوؤه وسابق لطفه في لقاءاتهما هنا من قبل ولم تنتبه لطبيعة شخص مثله لا يحب أن يسبقه أحد بخطوة!
لهذا لم تتعجب عندما تجاهل إجابتها عديمة القيمة للحظات ...
بل حافظ على جمود وقفته مع اشتعال "الرماد" في عينيه بقوله ببرود قاسٍ:
_انتظريني بالأسفل!
كانت ترتدي تنورة قصيرة من قماش الجلد الأسود تعلوها بلوزة ضيقة حمراء اللون من قماش لامع وقد غطى عُري كتفيها وشاحٌ أسود من قماش الشيفون...ذاك الذي ضمته إلى صدرها الآن بقوة تداري به خذلانها وهي تتمتم بنبرة خانعة:
_حسناً...كما تحب!
قالتها ثم هبطت الدرج بخطوات خائبة تلاحقها نظراته المشتعلة حتى وصلت لمدخل بنايته الذي انتظرت فيه لبضع دقائق قبل أن يلحق هو بها ليقول بنبرة آمرة وهو يتوجه إلى سيارته ودون أن ينظر إليها:
_تعاليْ!
خفق قلبها بمزيج متناقض من حب وخوف لكنها لم تعد تتعجب هذا منه...
حياتها كلها لم يعد لها معنىً منذ عشقته إلا أن تدور بين فلك "رغبتها" فيه و"رهبتها "منه!!
لهذا تبعته صاغرة حتى استقلت سيارته جواره والتي انطلق هو بها بسرعة عالية في طرقات المدينة التي خلت من المارة في هذه الساعة المتأخرة من الليل...
كادت تسأله عن وجهتهما لكنها آثرت الصمت مع ذبذبات غضبه التي تكاد تستشعرها مكانها حارقة ملتهبة...
فأظلهما صمتٌ طويل بعدها حتى قطعه هو بقوله دون أن ينظر إليها:
_أخبار "الزبون" الجديد!
قالها باقتضاب جامد فالتفتت لجانب وجهه لعلها تستسقي منه خبراً عن شعوره الآن لكنها باءت بخيبتها ...
فعادت بوجهها للأمام ثم أطرقت برأسها لتقول بصوت خافت وبلهجة حاولت جعلها عملية لأبعد حد:
_التقينا بضع مرات في شقته الخاصة...لكن الغريب أنه لم يمسني...بل يكتفي بالتقاط بعض الصور لنا.
ضاقت عيناه وهو يلتفت إليها أخيراً ليسألها باهتمام:
_أي نوع من الصور؟!
عجزت عن رفع عينيها إليه ولازالت مطرقةً برأسها مع إجابتها باستفاضة تدرك أنه يريدها:
_صورٌ عادية لنا معاً لكنها ليست فاضحة...يتعمد أن يظهر فيها خلفية شقته ...وكأنه يريد لمن يراها أن يدرك أننا نلتقي هناك.
عاد يوجه بصره نحو الطريق ليعاود سؤالها :
_وماذا تفعلان هناك أيضاً؟!
هزت رأسها لتجيبه بنفس النبرة المرتبكة وقد استجابت -طوعاً -لخديعة ظنها بأن هناك طيف غيرةٍ خلف سؤاله:
_لاشىء ...مجرد ثرثرة...أحاديث عامة...ويبقى بعدها صامتاً شارداً حتى يمر الوقت فيعطيني النقود ويتركني لأرحل.
ثم رفعت عينيها إليه أخيراً لتردف بتردد:
_من خبرتي أظن أنه ...أقصد...أن هذه التصرفات لا تصدر إلا ممن يعاني مشكلة ما...
قاطع حديثها بضحكة ساخرة مكتومة وقد وصله ما تعنيه كلماتها ...
قبل أن يميل رأسه نحوها بنظرة أحرقتها قبل لفظته المتهكمة:
_خبرتك؟!
عضت على شفتها بقهر وهي تلعن لسانها الذي تسرع بعبارتها هذه ...
ألا يكفيها خوفها من غضبته فتضيف له إهاناته لها كذلك؟!!!
من يصدق أنه يمكنه تقليب وجوهه هكذا بمنتهى البساطة؟!!
من يرى لطفه وهو يغدق عليها عاطفته في لقاءاتهما الخاصة بشقته لا يصدق شراسة ملامحه الآن...
صحيحٌ أن فورة مشاعره -الجسدية- معها كانت دوماً تنتهي باعتصار أنامله القاسي لرقبتها ، لكنها كانت تلين رويداً رويداً لتتحول بعدها للمسات ناعمة!!!!
وهي رأت في حياتها الكثير مما جعلها تدرك أن هذا الرجل يعيش بداخله صراعاً كبيراً...
صراعاً كانت تفضحه حركته تلك ...
وكأن حرباً ضروساً تدور بأعماقه وتمزق روحه بين عالمين متناقضين!!
لكن...للأسف...
لقد ظنت أن المرات القليلة التي سمح لها فيها بالاقتراب من منطقته الخاصة ستفتح لها باباً معه...
و يبدو أنها كانت مخطئة...
هي لم تزد عن كونها مجرد طيف مرّ على -جسده- واستنكفت عنه -روحه-
وما أرخص أطياف الجسد لو عفّت عنها الروح!!
وعند خاطرها الأخير تجمعت دمعة كبيرة في طرف عينها لكنها حبستها كما اعتادت ...
ليصلها قوله بمزيد من التهكم الذي أحرجها أكثر:
_لا يا "خبيرة"...لا أظن الأمر هكذا!
ثم صمت للحظات قبل أن يردف بشرود جعل حروفه تتثاقل نوعاً:
_يبدو فقط أنه لا يريدك للعبث...بل للانتقام...كنت أشعر بهذا منذ البداية...منذ تحدث هو إلى أحد رجالي ليطلب منه صورةً مختلفة عن زوجته كما أعرفها...والآن تأكدت!
ابتلعت غصة حلقها المريرة رغم فضولها لتسأله كيف عرف عن زوجة تيم...
لكن هذا أكد لها ظنها القديم أن المرأة التي يسعى خلفها لها علاقة بهذا الأمر...
لهذا تجرأت لتسأله :
_انتقام؟! ممن؟!
ظل على شروده للحظات دون أن يجيبها ...
فعلمت أن سؤالها لن يقابله جواب لكنها عادت بآخر:
_هل تريدني أن أضغط عليه؟!
_لا!
قالها حاسمةً وهو ينظر أمامه قبل أن يردف باقتضاب:
_امنحيه ما يطلبه...مادام يصر على الإخلاص -لها- فلا تعيقي طريقه!
ثم التوت شفتاه بابتسامة قاسية مع استطراده:
_ولنرَ هل سيصمد العاشق المتيم أم سيسقط في بئر انتقامه الذي حفره بيديه؟!!
انعقد حاجباها بدهشة وهي ترمقه بنظرة متفحصة...
إنه يتحدث عن زوجة تيم وكأنه يعرفهما جيداً...
لكن لماذا يبدو وكأنه مستمتعٌ بمشاهدة لعبة ما؟!!
ولماذا يتحدث هكذا بهذه الثقة وكأنه يحيط بتفاصيلهما الكاملة؟!!
بل ..والأدهى...تلك "النظرة الملتمعة"في عينيه مع رعشة صوته عندما قال "لها" في عبارته يعني زوجة تيم ؟!!
نظرة لن تميزها إلا عاشقة خبيرة بتفاصيله مثلها!!!
من هي زوجة تيم التي يمكن أن تؤثر في رجلٍ ك"الوزير" ولو مثل هذا التأثير الطفيف؟!!
أم...لعلها فقط غيرتها؟!!
لا !!
لا يا "امرأة الظل"!!!
الغيرة "حق" !!!
ومثلكِ ليس لها حقوق!!
الغيرة "لون"!!
ومثلكِ شفافةٌ لا تبصرها العيون!!
الغيرة "حلوى" الحب و أحيانا "علقمه"!!!
ولسانكِ يا "بائسة" قد حرموا عليه متعة التذوق!!
فانفضي عنك كل هذا وعودي للرقص على مسرح الخطيئة ...
حتى تنتهي فقرتك ويسدل الستار!!!
انقطعت أفكارها عندما توقف فجأة بسيارته لتنتبه للمكان الذي هما فيه !!!
بقعةٌ منعزلة في الصحراء زادها ظلام الليل حولهما وحشةً جعلتها تغمغم بقلق:
_أين نحن؟!
لم يرد عليها للحظات مكتفياً بنقرات أنامله على مقود السيارة ثم قال بنبرة آمرة :
_اذهبي إلى ذاك القائم المعدني هناك!
ازدردت ريقها بصعوبة وهي تميز وسط الظلام ذاك القائم المعدني الذي يحكي عنه ...
ثم غمغمت برهبة:
_لماذا؟!
رمقها بنظرة صارمة عادت تشعل الرماد في عينيه وكفَتْه إعادة أمره لها...
لهذا مدت أناملها ببطء تفتح باب السيارة ثم ترجلت منها لتأخذ طريقها نحو ذاك القائم الذي قصده ...
لكنها ما كادت تصل إليه حتى سمعت صوت دوران السيارة من جديد فالتفتت للخلف لتنطلق منها شهقة خوف عالية ...
لقد ظنت أنه سيتركها هنا وحدها لكنها فوجئت أن السيارة تتوجه نحوها بسرعة سترديها قتيلةً لو اصطدمت بها!!
لم تشعر بنفسها وهي تسلم ساقيها للرياح وقد أدركت بحدسها ما ينتويه ...
يبدو أنه لن يمرر لها فعلتها لكن هل سيكون عقابه بهذه القسوة؟!!
كانت تعدو وهي تتلفت خلفها بنظرات راجية مع هتافها اللاهث:
_توقف...أرجوك...لن أكررها!
لكنه كان مصراً على مطاردتها بهذه السرعة التي تضمن له أن تبقى هي على عدوها دون أن يصيبها!!!
كاد قلبها يتوقف وهي تدور في المكان الذي خلا إلا منهما بسرعة بدأت تتناقص من فرط إجهادها...
وصوت صرير العجلات على الأرض الرملية يكاد يصم أذنيها بدويّ كالرعد...
تكاد تشم رائحة الموت تزكم أنفها...
فقط لو توقفت...
لو توقفت فستسحقها عجلات سيارته دون رحمة!!!
بلا قيمة!!!
هي الآن صارت لديه بلا قيمة!!!
عصيانها لأمره لها بألا تذهب إليه في شقته إلا عندما يدعوها لن يقابل إلا بالعقاب!!
لكن...هل حياتها حقاً لديه بهذا الرخص؟!!
وما الذي قد يزيدها غلوّاً؟!!!
مجرد جسد تكسبه الرغبة رونقاً ثم تعريه بعدها حقارتها!!
جسدٍ لن تمنحه الحياة قدراً ولن يسلب منه الموت قيمة!!
فليتساوَ الأمران إذن سواءً كان فوق التراب أم تحته!!!
وكأنما سلبتها الفكرة الأخيرة ما تبقى لها من غريزة البقاء ...فانحنت فجأة لتسقط!!!
أجل ...سقطت على ركبتيها ثم احتضنت جسدها وهي تدفن رأسها بين ذراعيها تنتظر مصيرها المحتوم...
والغريب أنها حتى في هذه اللحظة لم تكرهه!!!!!!
بل على العكس...كادت تحمد له أن خلاصها من هذه الحياة سيكون على يده...
دقات قلبها كانت تصدح بجنون والهواء يعاند رئتيها في استقباله ...
حتى شعرت بذاك الألم العنيف يشق صدرها ويجبرها أن ترفع رأسها لتفتح فمها شاهقةً تطلب الهواء...
وعندما فعلتها فوجئت بالسيارة تتوقف تماماً على بعد سنتيمترات منها!!!!
حتى كادت مقدمتها تصطدم برأسها لولا أن عادت به إلى الخلف وهي ترمقه بنظرات راجية تقطر خوفاً!!
ظل واقفاً بالسيارة للحظات و"رماد عينيه"يكاد يصعقها بشراسته حتى ترجل منها أخيراً ليتوجه نحوها وينظر إليها من علوّ قائلاً بقسوة:
_ترى ما الذي تساويه حياة واحدة مثلك؟!
عادت تطرق بوجهها دون رد...
أنفاسها اللاهثة تجاهد للخروج من صدرها...
خصلات شعرها المبتلة بعرقها تلاصقت على جبينها ووجنتيها...
ذراعاها يحتضنان جسدها بقوة وأظافرها تخمش جلدها بحركتها المعهودة التي اعتادتها....
بينما انحنى هو فجأة ليجذبها من شعر رأسها مجبراً إياها على النظر إليه مع استطراده الشرس:
_دمية حلوة ...لكن من يبالي لو كسرها أحدهم ليلقي بها في قارعة الطريق...تدوسها الأقدام ويكسوها الطين ...ونهايتها ...مجرد نفاية!!
كانت كلماته تطعنها طعناً في قلبٍ ما ظنته سيتألم بعد كل ما لاقاه في هذه الحياة...
وكم كانت مخطئة!!!
فيروزيتاها الآن لم تكونا تمطران دمعاً بل كانتا تنزفان وجعاً!!!
وجعاً بطول العمر وأيامه...
لماذا لم يصدمها بسيارته؟!!
لماذا لم يطلق سراح هذه الروح التي تعذبها وتتعذب معها؟!!!
لماذا سمح لها أن تعاود التقاط أنفاسها مادام سيخنقها في النهاية؟!!
لكن دموعها لم تحرك فيه ساكناً بل على العكس ....
ازداد جمود ملامحه القاسية وهو يردف بنفس النبرة:
_لا يغرنّك تساهلي معك في الأيام السابقة...الوزير يأخذ ما يريد وقتما يريد قبل أن يعود منتصراً لمكانه على رقعة الشطرنج...
ثم اقترب منها أكثر لتمتزج نيرانه الرمادية بنحيب فيروزها المعذّب مع قوله:
_عصيان أول يعني عقاباً...عصيانٌ ثانٍ ...
صمت لحظة بعدها ليعطي عبارته بعدها حدة التهديد المطلوبة:
_لن تجدي الوقت لتدركي عاقبته!!
أومأت برأسها في طاعة وقد أدركت ما يقصده فنفض رأسها عنه بقوة لتطلق هي آهةٌ خافتة...
قبل أن يعود هو لسيارته التي أعاد تشغيلها فتحاملت على نفسها لتقف بصعوبة ولازالت أنفاسها تشكو لهاثاً متعباً ثم توجهت إلى الجانب الآخر من السيارة لتستقلها ...
لكنها ما كادت تضع أناملها على مقبض الباب حتى قال هو بنفس النبرة الصارمة:
_لن تركبي معي...
ثم التفت إليها ليردف بقسوة :
_عودي وحدك حتى تتعلمي أن القرار الذي ستأخذينه من رأسكِ ستتحملين عواقبه كاملة !
اتسعت عيناها بترقب وهي تظنه فقط يهددها لكنها شهقت بارتياع وهي تراه يغادر بسيارته حقاً وأضواء كشافيها تتوارى عن عينيها تدريجياً حتى اختفت تماماً...
ليتركها خلفه حقاً في هذا العراء وهذه الظلمة ...
وحدها!!

تعاويذ عمران حيث تعيش القصص. اكتشف الآن