معالمٌ منسية |عنصري الزمكان|

العالم الموازي

قلت لجدتي ذات مرة أن سبب اختفاء الجوارب عند إدخالها الغسالة هو أن الغسالة عبارة عن بوابة لعالم موازٍ تنقل الجوارب لعالمها الذي تعيش فيه؛ فأعطتني ضربة في رأسي بعكازها وأمرتني بإخراج الغسيل ونشره والكف عن أحلام اليقظة.

لكن عقلي لم يكف عن تخيل عالم مليء بالجوارب الحية. 😐 وقبل الدخول في ملابسات عالمي الخاص لنعرف ما هو العالم الموازي أولًا.

ماهية العالم الموازي:🌍

جاء مفهوم العالم الموازي من نظرية الأكوان المتعددة،  والتي تقول باختصار أن لكل احتمال نقوم به عالم موازٍ له؛ أي أنه في حال فرضنا حدوث  حادث سير كان فيه احتمال موتي وارد-لا سمح الله-فإن كونًا آخر ينشأ وأكون غير موجودة فيه، وأن قنبلتي هيروشيما ناجازاكي لم تسقطا على اليابان في عالم آخر، أو أن البشر هم من انقرضوا عوضًا عن الديناصورات في واحد ثالث، وواحد رابع يتم فيه قبول هتلر في معهد الفنون.

هذه النظرية تخلق عددًا لا حصر له من الأكوان لأنها تعتمد على الاحتمالات الواردة، وهو أمر غير منطقي ومجرد التفكير فيه أمر مرهق للغاية، فأغلق ملف هذه القضية حينًا من الدهر إلى أن تم إعادة فتحه مجددًا بنظرية الأوتار والتي خرجت من رحم قسم آخر من الفيزياء وهو الفيزياء تحت الذرية -في حين كانت نظرية الأكوان المتعددة خارجة من قسم فيزياء الكم- وهذه النظرية تقول:
أن الكتل البنائية للأجسام موجودة في مستوى تحت الكم، وهذه الكتل صغيرة جدًا وتشبه الأوتار وهي التي تصنع الإلكترونات والذرات وهلم جرا، وهي التي تحدد سلوكهم ونوع المادة التي ستنتج، والعوالم مترابطة ببعضها كأنها أوتار موسيقية، وهنالك ما يقارب التسع عوالم...

-وقت مستقطع-

من الأرض إلى القراء الذين سرحوا بعيدًا، هل نمتم؟ دعونا نربط بين هذه النظرية وعالم الأدب الشاسع، لتقفزوا معي داخل الأخدود الزمكاني التالي لننتقل من عالم الفيزياء إلى عالم الأدب. 

العالم الموازي بين دفتي كتاب: 📖

هذه النظريات التي تطرح هنا وهناك تلقى رواجًا كبيرًا في عالم الأدب في حين يتم رفضها بقسوة في عالم الفيزياء، ثم إن العالم الموازي في أدب الخيال العلمي يتخطى جميع النظريات المطروحة في علم فيزياء الكم أو تحت الذرية، إنه أكثر مرونة وانفتاحًا، إنه مثل عجينة لدنة تشكلها كيفما شئت لتخلق أكوانًا وعوالم بالقدر الذي يتسع له خيالك، في أدب الخيال والخيال العلمي أنت تفتح بوابات تؤدي لغابات سحرية غامضة، أو لفضاء شاسع يختزل ملايين المجرات المأهولة بالسكان، أنت من يقوم باستنساخ حيوات الشخصيات واللعب بأوتار الكون الذي تسطره بين دفتي كتابك.

لكن السؤال الأهم هنا هو كيف يبدو شكل هذه العوالم؟ 

والجواب يا عزيزي هو أنك من تتحكم في شكل ذاك العالم الموازي؛ قد تجعله شبيهًا بعالمنا من حيث الحضارة والمدنية، قد تجعله متأخرًا عنا بخمسة قرون أو متقدمًا بخمسمئة سنة. وعندما يكون عالمك الموازي متطورًا ستلجأ لتهيئة الإمكانيات للعيش فيه من اختراعات، وسائل نقل، غذاء، أزياء، نمط حياة، وغيرها؛ ثم ستضطر لعكس مرآة الحضارة التي استلهمت منها عالمك وتعيد بناء الظروف التي عاشوا فيها آنذاك لتتطابق مع عالمك الجديد فلا تبدو غير منطقية. وأحيانًا قد  يكون العالم الموازي  على النقيض تمامًا للواقع الذي نعيشه، عالم فانتازي بالأحرى، أو ربما يكون افتراضيًا داخل لعبة ما.

باختصار مجددًا أنت من تتحكم في المعالم الزمكانية لتلك العوالم التي تخلقها -مع مراعاة المنطقية طبعًا- فمثلًا عالم الجوارب الذي خلقته سابقًا لا يمكن دخوله إلا بواسطة غسالة الثياب، ما يعني أن سكان ذاك العالم لا يمكن بأي شكل من الأشكال أن يكونوا بشرًا، وإلا  لكان البشر سيضطرون للانسحاق داخل الغسالة للذهاب لذاك العالم -أعتذر عن هذا العنف- لهذا، فلابد أن تكون قماشي الهيئة لتمتلك تصريح دخوله. هذا لا يعني أننا لا نستطيع تخيل كيف يبدو شكله، سأتخيل جوارب بسيقان مثل القش تجوب الشوارع القماشية، كل شيء من قماش هناك، السيارات، المنازل، عمود الإنارة وحتى الطعام من قماش، وهناك جوارب مخططة كالنحلة، أخرى بالأبيض والأسود، قططية، بها ورود، صبيانية، جوارب بدينة محشوة بقطن وأخرى بها رقعة من قماش مختلف، ربما تكون الشمس عبارة عن قماشة صفراء والسحب بيضاء مطرزة في قطعة أخرى زرقاء والمطر  خيوط رفيعة، ولديهم مكب نفايات من الأقمشة،… لخ.

حسنًا فيم استفدت من عالم الجوارب ذاك بعد صناعته؟

الكثير منا يعتقد أنه بمجرد اختلاق عالم مواز فإنه كفيل بجعل فكرة قصته فريدة مثلما كنت أظن سابقًا مع جواربي، لكن صدقًا ما الذي استفدته من إهدار الزمكان بهذا الشكل؟ 

الإهدار، هو مختلف عن نسيان المعالم وهو الإفراط في هذا العنصر بحيث يكون وجوده لا يقدم فائدة ترجى، أخبرني لماذا نقفز بالزمن ونخلق عوالمًا جديدة؟ هل ستقول لي لمجرد التباهي بقدرتك على اختلاق العالم؟ هل ستقول لي لأنك سئمت من الحاضر؟ -أوه مهلًا هذا سبب منطقي، دعني أعد ترتيب أوراقي- ما أريد إيصاله أنه يتم استغلال الزمكان بحسب الحوجة، فعندما نريد أحداثًا معينة لا يمكن أن تحدث إلا في زمكان معين عندها سنشعر بمدى اللامنطقية في الأحداث إذا ما حذفنا الزمكان.

مثلًا، في رواية ألعاب الجوع حيث قسمت القارة إلى ثلاثة عشرة مقاطعة تربطهم العاصمة الدكتاتورية، وهذا التقسيم يحدث بعد عشرات السنين في مكان كان ذات يوم  يسمى أمريكا، وكان له نظام جمهوري ينتخب فيه الناس رئيسهم بحرية على عكس ما يحدث لهم. إذا ما حذفنا الزمكان فهل نحن نستطيع جعل نفس القصة تحدث في أمريكا دون أن تتغير؟ كلا، وهنا  نقول أنه تم توظيف الزمكان بإتقان.

لكن أخبرني عن شخص يقوم بالقفز  بالزمن ويستهلك كل قدراته في شرح الزمكان الجديد وقصته كلها ترتكز على أحداث يمكنها أن تحدث ببساطة في الحاضر دون جهد يبذل؟ مثل أنمي أساطير في قادم الزمان الذي يعرض حديثًا في الشاشات العربية، لا أرى شخصيًا دافعاًا  للقفز بالزمن لأنه لا يشكل فرقًا كبيرًا في القصة، تمامًا مثلما لم يكن هناك داع لخلق عالم للجوارب.

 والآن أستودعكم الله الذي لا تضيع ودائعه لأن علي نشر الغسيل والكف عن الثرثرة في عالم الجوارب وإلا تلقيت ضربة لا أحسد عليها.

-كانت معكم الصهباء نارنج خذوا برتقالة. 🍊 

*********

-كيف كان الفصل؟

-هل تهدرون هذا العنصر أم أنكم تستخدمونه بحكمة؟

-هل هنالك زمكان معين تودون منا التطرق له في فصولنا؟