ليس جان الذي أعرفه

938 48 9
                                    

ارتدى الجميع ملابسهم وانطلقوا بسيارة رب العائلة إلى حي سانم القديم، وما إن وصلوا إلى بيت الجد والجدة ترجل خمستهم من السيارة تباعاً وبدأوا يسيرون تجاه المنزل بينما كان منشغلاً بإحضار حقيبة اليد الكبيرة التي وُضع فيها ملابس احتياطية وملابس نوم للأطفال الثلاثة مع بضعة ألعاب وكتب خاصة بهم من أجل قضاء الليلة.
اقتربت سانم ودقت جرس الباب لتفتح والدتها الباب فارتسمت ابتسامة عريضة على وجهها وفتحت الباب باتساع فهتف الأطفال بسعادة:
- جدتي!!
- لقد وصلتم أخيراً!
لتقول سانم بسخرية وهي تقترب من والدتها:
- لآخذ حصتي من القبلات لأني أعرف أني سأصبح غير مرئية الآن.
ثم اقتربت لتقبيل والدتها وبعدها خطت إلى داخل المنزل.
- أطفالي الصغار، اشتقت لكم كثيراً!
بعد دخول والدتهم إلى الداخل انحنت المرأة واحتضنت أولاد ابنتها وقبلت خدودهم وتلقت المِثل منهم كذلك.
- ونحن أيضاً اشتقنا لك يا جدتي!
وبعدما سلموا على جدتهم ركضوا إلى داخل المنزل باحثين عن جدهم فراقبتهم موكبة يبتعدون ثم قالت رداً على ما قالته ابنتها منذ قليل:
- لقد أخذتِ نصيبك من الاهتمام لسنوات طويلة، يكفيكِ ذلك.
- لا أصدقك أبداً يا أمي!
خطى جان إلى داخل المنزل وحين رأته موكبة أمسكت الحقيبة من يديه لتسحبها للأسفل ليضعها الرجل أرضاً وقالت:
- ضعها على الأرض حتى لا يؤلمك ظهرك!
- يبدو أن الأطفال ليسوا الوحيدين من لهم النصيب الأكبر في الاهتمام!
وبعدها رفعت موكبة رأسها لتنظر للرجل الطويل وابتسمت وقبلت كلا وجنتيه وحينما ابتعدت وضعت كلتا يديها على وجنتيه وقالت:
- هل نحفت قليلاً؟ ألا تطعمك سانم؟!
ابتسم جان وقبل أن يجاوب قالت سانم معترضة:
- لماذا أكون أنا المخطئة دائماً؟!
لترد عليها أمها قائلة:
- لم نعاني منك قليلاً في السابق.
تأففت سانم وهزت رأسها باستسلام ليضحك جان ويرد على والدتها قائلاً:
- تطعمني، وتطعمني كثيراً أيضاً... كان عليك أن تري مأودبة الطعام التي حضرتها صباح هذا اليوم يا أمي موكبة.
علقت موكبة على ما قاله زوج ابنتها بكل تباهي وقالت:
- بالطبع فهي ابنتي، ممن غيري سترث براعة إعداد الطعام؟
- لا نستطيع إنكار ذلك!
ضحك ثلاثتهم على ما قالته المرأة ثم بدأوا بالصعود إلى الطابق الثاني تباعاً وهم يتحادثون ويضحكون بصوت مرتفع.

حين صعد الجميع إلى الطابق الثاني تقابلوا مع نهاد فاحتضن الجميع وقبلهم ولكن كان النصيب الأكبر للفئران الثلاثة بالطبع.
وبعد ذلك قادت موكبة الأبوين إلى غرفة الجلوس وقدمت لهما الشاي بينما قاد نهاد الأطفال إلى غرفة والدتهم تحت إصرار منهم لذلك.
رشف جان رشفة من الشاي الذي أعدته له ثم وضع الكوب على الطبق الصغير الذي حمله بيده اليسرى وقال:
- لا تؤاخذونا لقد أيقظناكم باكراً من أجل الأطفال.
أنزلت موكبة كوب الشاي إلى الطاولة وابتلعت ما بداخل فمها لتهز رأسها نفياً وتقول:
- نحن نستيقظ باكراً في الأساس ولكن من أجلهم أنا مستعدة للاستيقاظ منذ شروق الشمس.
ابتسم جان لسماع ردها وقالت المرأة متسائلة:
- في الأساس ألم تتأخروا عن العمل هكذا؟
ابتسامة جان تحولت لضحكة عالية فنظر لزوجته ثم عاد برأسه ليتكلم معلقاً على كلامها:
- تأخرنا قليلاً ولكن هذه ميزة أن يكون المرء مدير الشركة.
ضحكت موكبة على ما قاله وردت سانم وهي تكمل الكلام من بعده ضاحكة:
- نعم فأنا مثلاً عندي بطاقتين للنجاة، فإن لم أكن مديرة للشركة فأنا زوجة المدير.
ابتسم جان حين شعر بالفخر لسماعها تقول زوجة المدير فمهما مر من الوقت مازال يسعده سماعها تقول أنها زوجته فمال ناحيتها وتكلم بصوت منخفض وقال:
- برأيي استخدمي بطاقتك الثانية، إنها ذو كاريزما وأكثر روعة.
ضحكت سانم ومالت بجسدها ناحيته قليلاً بخجل حتى أنه انتابها أن تحتضنه وتقبله لسماعها ذلك منه ولكن تذكرت أن والدتها كانت قبالتهما فعادت بجسدها لوضعها الطبيعي متسمرة مكانها وأخذت تنظر إلى الأرض بصدمة وخجل.
كان جان على استعداد تلقي أي عناق أو قبلات منها حتى أنه رفع يده ليضعها على وجهها ولكن بقيت في الهواء حين أيقن سبب تراجعها فعاد بظهره للوراء بل نهض وابتعد مسافة بضعة سنتيمترات عنها حتى تكون بعيدة عنه ويستطيع التحكم في نفسه أكثر حتى لا يرتكب أي خطأ يحرجه أمام عائلة زوجته.
أحياناً كثيرة ينسى الاثنان نفسيهما وهذه من أصعب التي يعيشانها بسبب بقائهما في المزرعة، مكان بعيد عن المدينة وغير ممبوء بالناس.
ولكن في النهاية لم تعطي موكبة الأمر كثير من الأهمية وأكملت الحدثت وكأن شيئاً لم يكن وقالت بكل فرح وفخر:
- لم أتخيل يوماً أن تصبحي مديرة شركة وكاتبة معروفة في جميع أنحاء العالم لأنك كنتِ فاشلة في الماضي وتطردين من كل عمل تدخلينه، ما شالله!
أمسكت موكبة بآخر جزء في أذنها وقرعت الطاولة مرتين ولكن فور سماع سانم ما قالته قفزت للأمام.
- أمي!!
ثم حركت رأسها يميناً وأخذت تبحث عن لترى ما إن كان أحد أطفالها هنا ولكن لم يكفها أنها لم ترى منهم أحد هنا بل نهضت من مكانها لتنظر ما إن كان أحدهم في الممر ثم عادت حين تأكدت من خلو المكان وقالت:
- كيف تقولي هذا يا أمي؟ ماذا كان سيحدث إن سمعك الأطفال؟!
- ماذا في ذلك يعني؟ هل ستتغير حقيقة أنكِ كنتِ فاشلة ونجحتِ؟
- مازلتِ تقولين ذلك!
صمتت سانم قليلاً وهي تنظر لوالدتها بعدم تصديق ثم تكلمت مجدداً.
- أنا لم أكن فاشلة، لم يفهم الجميع رأسي وإبداعي لهذا لم أستمر في أي عمل دخلته.
ضحكت موكبة وحركت رأسها لتنظر لجان وقالت:
- لو تراها يا جان كيف كانت في الماضي، كانت تكره الشركات وتقول عن جميع من يعمل هناك رماديون ومملون حتى وصلت إلى شركتكم.
ابتسم جان وحرك ناظريه لزوجته حتى ينظر لها وبدأت صورة سانم القديمة تظهر أمامه.
أكملت المرأة بعد ما أعادت ناظريها لابنتها وقالت بعد ما تنهدت باستسلام:
- فيبدو أنك الوحيد الذي فهم رأسها المختلف وإبداعها كما تقول.
ابتسمت سانم بحب وهي تنظر لزوجها وقالت:
- هذا صحيح... كان صبوراً محباً لي وتبناني بشكل جيد.
تذكرت موكبة كيف كانت ابنتها قبل تسعة سنوات وكيف كانت مختلفة عن الجميع وترفض العيش بطريقتهم.
كانت كطفلة صغيرة لا تقبل أن تفعل ما يُطلب منها وتحاول التخلص من أي قيود وأربطة دائماً بكل عناد وإصرار، تتمرد على الواقع وتبغضه ولكن منذ أن عملت في الفكرة الرائعة تغيرت تغيراً جذرياً وتغيرت أفكارها وأصبحت أكثر صبر وليونة وتتقبل كل جديد.
وربما السبب الرئيسي لم يكن بسبب الشركة ذات نفسها بل كان جان سبباً رئيسياً لتغيرها.
فتمسكت بما كانت تدفعه بعيداً في الماضي.
وكما قالت في كتابها كان جان هو المفتاح لعديد من الأشياء ومن ضمنها كان مفتاح تغييرها فمنذ أن باتت تعمل معه في مكان واحد تغيرت كلياً وتحولت إلى ما هي عليه الآن.
- ولكن لا تقلقي يا أمي موكبة... اكتشفت مؤخراً أن كلانا كنا متشابهين جداً في ذلك الوقت.
بدأ جان ليجذب انتباههما فحرك الاثنان ناظريهما إليه.
- كان أبي في الماضي يحاول إقناعي بالعودة وإدارة الشركة ولكني كنت أرفض دائماً.
ورغم أن سانم سمعت ذلك منه عدة مرات ولكن الآن أيقنت جمال القدر الذي جمعهما في مكان لم يرغبا بالتواجد به أبداً.
فلو أصر كليهما على عنادهما ورفضا تلك الفرصة المقدمة لهما بتحقيق ذلك القدر المكتوب كيف كان لهما بأن يتقابلا إذاً؟
لم يتخيلا بأن تغيرهما في تلك اللحظة والموافقة على شيء كانا يرفضانه قد يجعل الحياة جميلة لهذه الدرجة...!
ابتسمت سانم ابتسامة دافئة وامتدت يدها لتمسك بيده وعلقت على ما قاله:
- لا أحد فينا تمنى أن يعمل في الشركة ولكن كان قدرنا أن نعمل فيها ونلتقي، ودونه ما كنا التقينا...!
نظر لها الرجل بنفس نظرة الحب التي ارتدتها عينيها وتشبث يده بيدها وتشابكت أصابعهما سوياً.
- نعم، لهذا أحببنا ذلك المكان جداً ومازلنا متمسكين بالعمل هناك حتى الآن.
كانت المرأة تنظر لهما وكأنها ترى نفسها زوجها نهاد في شبابهما.
فذاك الحب الذي يملؤ عيونهما عاشته مع زوجها ومازالت تفعل.
تذكرت الأدعية التي دعتها بعد إنجابها لابنتيها.
لقد دعت بأن يرزقا بزوجين يحبهما مثلما أحبها والدهما واستُجابت تلك الأدعية لكليهما.
شعرت بالبهجة تغمر قلبها لرؤية السعادة في عيني ابنتها حتى أنها شعرت بأنها لم تعد ترغب بأي شيء في هذه الدنيا سوى رؤية فتاتيها سعيدتان في حياتهما...!
- ما شالله!
طرقت المرأة قبضتها على الطاولة مجدداً ولكنها لم تصمت وأرادت غيظ ابنتها قليلاً فتحدثت عما كان سبب للتطرق لهذا الحديث.
- وإلا ماذا تخبري أطفالك حين تحكي لهم عن ماضيكي يا حلوتي؟ أتخبريهم بأن الأبواب تُفتح في اللحظة التي تقفين أمامها؟ أيعقل أن تكون الحياة بهذا القدر من السهولة؟
تكلمت سانم وهي تعدل على كلام والدتها بدقة تستخدمها مع أطفالها دوماً حتى لا يحصلوا على الفكرة الخاطئة وقالت:
- لا بالطبع! أخبرهم بأن الحظ لم يحالفني ولكن حين عملت في شركة أبيكم فُتحت لي أبواب الحظ... بالطبع مع احترامه لي وتقديره لإبداعي.
ضحك جان على ما سمعه منها ونظر لها وعلق قائلاً:
- إذاً أنا كنت تميمة الحظ التي حققت لكِ أحلامك؟
ابتسمت سانم على تعليقه الساخر ثم علقت بتباهي وتفاخر بنفسها وقالت:
- هذا جزء من الحقيقة، لا تستطيع إنكار أني عملت بجد حتى وصلت إلى ما أنا فيه الآن.
- بالطبع يا روحي.
أعادت سانم ظهرها للخلف وقالت بارتياح:
- وبعد أن أصبحت سيدة أعمال استطعت أن أحقق كل أحلامي...
حركت رأسها لتنظر لوالدتها وقالت وهي تدقق على كلماتها وعلى شفتيها ابتسامة ساخرة وهي تقول:
- حققت كل أحلامي يا أمي وذهبت لغالاباغوس كذلك، غالاباغوس يا أمي التي كنت تسخرين منها دائماً.
- نعم، نعم... غاباغلاغوس.
قال جان وسانم في نفس الوقت:
- غالاباغوس!!
أصبح جان فرداً في هذه العائلة ويعرف كل شيء عنهم حتى أبسط تفاصيلها.
وبالنسبة لموكبة لم تتغير حتى الآن فبعد كل السنوات التي مرت مازالت لا تعرف كيفية نطق ذلك الاسم.

A Special Dayحيث تعيش القصص. اكتشف الآن