0.3

994 89 42
                                    


~~~

فإني لجالسٌ في غرفتي صبيحة يومٍ إذ دخلت عليَّ الخادمة، وكانت امرأةً من النساء الصالحات المخلصات، فتقدَّمتْ نحوي خجلة متعثرة، وقالت قد أمرتني سيدتي أن أقول لك يا سيدي إنها قد عزمت على تزويج ابنها في عهد قريب، وإنها ترى أن بقاءك بجانبه بعد موت أبيه وبلوغكما هذه السن التي بلغتماها ربما يجعله يغفل عن خطيبته، وإنها تريد أن تتخذ للزوجين مسكنًا هذا الجناح الذي تسكنه من القصر، فهي تريد أن تتحول إلى منزلٍ آخر تختاره لنفسك من بين منازلها، على أن تقوم لك فيه بجميع شأنك، وكأنك لم تفارقها..

فكأنما عمدتْ إلى سهمٍ رائشٍ فأصْمَتْ به كبدي، إلا أنني تماسكت قليلًا ريثما قلت لها سأفعل ولا أَحَبَّ إليَّ من ذلك. فانصرفتْ لشأنها، فخلوتُ بنفسي ساعة أطلقت فيها السبيل لعَبَراتي، حتى جاء الليل، فعمدتُ إلى حقيبتي فأودعتُها ثيابي وكتبي، وقلت في نفسي قد كان كل ما أسعد به في هذه الحياة أن أعيش بجانب ذلك الإنسان الذي أحببته وأحببت نفسي من أجله، وقد حيل بيني وبينه، فلا آسف على شيءٍ بعده..

ثم انسللتُ من المنزل انسلالًا من حيث لا يشعر أحدٌ بما كان، ولم أتزوَّد من ابن عمي قبل الرحيل غير نظرة واحدة ألقيتها عليه من خلال كِلَّتِه وهو نائم في سريره، فكانت آخر عهدي به..

وهكذا فارقتُ المنزل الذي سعدتُ فيه حقبةً من الزمان كفِراقَ آدم جنَّته، وخرجتُ منه شريدًا طريدًا، حائرًا ملتاعًا، قد اصطلحت عليَّ الهموم والأحزان، فراق لا لقاء بعده، وفقر لا سادَّ لخلَّته، وغربة لا أجد عليها من أحد من الناس مواسيًا ولا معينًا..

وكانت معي صُبابةٌ من مالٍ قد بقيتْ في يدي من آثار تلك النعمة الذاهبة، فاتخذتُ هذه الحجرة العارية في هذه الطبقة العليا مسكنًا، فلم أستطع البقاء فيها ساعةً واحدة، فأزمعتُ الرحيل إلى حيث أجد في فضاء هادئ ومنفسح آفاقه علاج نفسي من همومها وأحزانها، فرحلت رحلة طويلة، قضيت فيها بضعة أشهر، لا أهبط بلدةً حتى تنازعني نفسي إلى أخرى، ولا تطلع عليَّ الشمس في مكانٍ حتى تغرب عني في غيره، حتى شعرت في آخر الأمر بسكونٍ في نفسي يشبه سكون الدمع المعلق في محجر العين، لا يفيض ولا يغيض..

فقنعت بذلك، وكان ميعاد الدراسة السنوية قد حان، فعدت، وقد استقر في نفسي أن أعيش في هذا العالم منفردًا كمُجتمِع، وغائبًا كحاضرٍ، وبعيدًا كقريب، وأن ألهو بشأن نفسي عن كل شأنٍ سواه، وأن أستعين على نسيان الماضي باجتناب مواطنه ومظاهره..

فلزمتُ غرفتي ومدرستي أُداول بينهما لا أفارقهما، ولم يبقَ أثرٌ لذلك العهد القديم في نفسي إلا نزوات تعاود قلبي من حين إلى حين، فأستعين عليها بقطراتٍ من الدمع أسكبها من جفني في خلوتي، فأجد برد الراحة في صدري..

Lost||Minsungحيث تعيش القصص. اكتشف الآن