0.2

1.3K 113 36
                                    


~~~

أدعى لي مينهو، مات أبي منذ عهدٍ بعيد، وتركني في السادسة من عمري فقيرًا معدِمًا لا أملك من متاع الدنيا شيئًا، فكفلني عمي، فكان خير الأعمام، وأكرمهم، وأوسعهم برًّا وإحسانًا، وأكثرهم عطفًا وحنانًا، فقد أنزلني من نفسه منزلةً لم ينزلها أحدًا من قبلي غير ابنه الصغير، وكان في عمري أو أصغر مني قليلًا، وكأنما سرَّه أن يرى له بجانبه أخًا بعدما تمنى ذلك زمنًا طويلًا فلم يدرك أمنيته، فعُنِيَ بي عنايته به، وأدخلنا المدرسة في يوم واحد، فأنِستُ به أنس الأخ بأخه، وأحببته حبًّا شديدًا، ووجدت في عشرته من السعادة والغبطة ما ذهب بتلك الغضاضة التي كانت لا تزال تعاود نفسي بعدَ فَقْدِ أبويَّ من حينٍ إلى حين..

فكان لا يرانا الرائي إلا ذاهبَيْن إلى المدرسة أو عائدَيْن منها، أو لاعبَيْن في فناء المنزل، أو مُرْتَاضَيْن في حديقته، أو مجتمعَيْن في غرفة المذاكرة، أو متحدِّثَيْن في غرفة النوم..

ولقد عقد الود بين قلبي وقلبه عقدًا لا يحله إلا رَيْبُ المنون، كنت لا أرى لذة العيش إلا بجواره، ولا أرَى نُورَ السعادة إلا في فجر ابتساماته، ولا أؤثرُ على ساعة أقضيها بجانبه جميع لذات العيش ومَسَرَّات الحياة، وما كنت أشاء أن أرى خَصْلة من خصال الخير من أدب، أو ذكاءٍ، أو حلمٍ، أو رحمةٍ، أو عفَّةٍ، أو شرفٍ، أو وفاءٍ إلَّا وجدتها فيه..

وإني أستطيع، وأنا في هذه الظلمة الحالكة من الهموم والأحزان، أن أرى على البعد تلك الأجنحة النورانية البيضاء من السعادة التي كانت تُظللنا معًا أيام طفولتنا؛ فتشرق له نفسانا إشراق الرَّاح في كأسه..

وأن أرى تلك الحديقة الغنَّاء التي كانت مراح لذاتنا ومسرح آمالنا وأحلامنا، كأنها حاضرة بين يدي أرى لَأْلَاء مائها، ولمعان حَصْبَائها، وأفانين أشجارها، وألوان أزهارها..

وتلك القاعدة الحجرية التي كنا نقتعدها منها طرفي النهار، فنجتمع على حديثٍ نتجاذبه، أو طاقةٍ نُؤلِّف بين أزهارها، أو كتابٍ نُقَلِّب صفحاته، أو رسم نتبارَى في إتقانه..

وتلك الخمائل الخضراء التي نلجأ إلى ظلالها كلما فرغنا من شوط من أشواط المسابقة، فنشعر بما تشعر به أفراخ الطيور اللاجئة إلى أحضان أمهاتها..

وتلك الحفائر الصغيرة التي نحتفرها ببعض الأعواد على شاطئ الجداول والغُدْرَان فنملؤها ماءً، ثم نجلس حولها لنصطاد أسماكها التي ألقيناها فيها بأيدينا؛ فنطرب إن ظَفِرْنا بشيءٍ منها كأنَّا قد ظفرنا بغُنمٍ عظيم..

وتلك الأقفاص الذهبية البديعة التي كنا نربي فيها عصافيرنا وطيورنا، ثم نقضي الساعات الطوال بجانبها نعجب بمنظرها ومنظر مناقيرها الخضراء، وهي تحسو الماء مرةً وتلتقط الحَبَّ أخرى، ونناديها بأسمائها التي سميناها بها، فإذا سمعنا صفيرها وتغريدها ظننا أنها تُلَبِّي نداءنا..

ولا أعلم هل كان ما كنت أُضْمِرْهُ في نفسي لإبن عمي ودًّا وإخاءً، أو حبًّا وغرامًا؟ ولكنني أعلم أنه كان بلا أمل، ولا رجاء، فما قلت له يومًا إني أحبه؛ لأني كنت أضنُّ به -وهو ابن عمي ورفيق صباي- أن أكون أوَّل فاتح لهذا الجرح الأليم في قلبه، ولا قدرت في نفسي يومًا من الأيام أن أَصِل أسباب حياتي بأسباب حياته؛ لأني كنت أعلم أن أبواه لا يسخوان بمثله على فتى بائسٍ فقيرٍ مثلي، ولا حاولت في ساعةٍ من الساعات أن أتَسَقَّط منه ما يطمع في مثله المحبون المتسقِّطون؛ لأني كنت أجلُّه عن أن أنزل به إلى مثل ذلك، ولا فكرت يومًا أن أستشف من وراء نظراته خبيئة نفسه لأعلم أي المنزلتين أنزله من قلبه، أمنزلة الأخ فأقنع منه بذلك، أم منزلة الحبيب، فأستعين بإرادته على إرادة أبواه؟، بل كان حبي له حب الراهب المتبتل صورة العذراء الماثلة بين يديه في صومعته، يعبدها ولا يتطلع إليها!..

ولم يزل هذا شأني وشأنه، حتى نزلت بعمي نازلةٌ من المرض لم تنشب أن ذهبت به إلى جوار أبي، وكان آخر ما نطق به في آخر ساعات حياته أن قال لزوجته وكان يُحسِن بها ظنًّا، لقد أعجلني الموت عن النظر في شأن هذا الغلام، فكوني له أمًّا كما كنتُ له أبًا، وأوصيك ألا يفقد مني بعد موتي إلا شخصي..

فما مرت أيام الحداد حتى رأيت وجوهًا غير الوجوه، ونظراتٍ غير النظرات، وحالًا غريبة لا عهد لي بمثلها من قبل، فتَداخَلَني الهمُّ واليأس، ووقع في نفسي للمرة الأولى في حياتي أنني قد أصبحت في هذا المنزل غريبًا، وفي هذا العالم طريدًا..

~~~

Lost||Minsungحيث تعيش القصص. اكتشف الآن