0.1

3.8K 181 112
                                    


~~~

سكن الغرفة العليا من المنزل المجاور لمنزلي من عهدٍ قريب فتًى في التاسعة عشر أو العشرين من عمره..

وأحسب أنه طالب من طلبة المدارس العليا أو الوسطى في كوريا..

فقد كنت أراه من نافذة غرفة مكتبي، وكانت على كثب من بعض نوافذ غرفته فأرى أمامي فتًى شاحبًا نحيلًا منقبضًا جالسًا إلى مصباحٍ منير في إحدى زوايا الغرفة ينظر في كتابٍ أو يكتب في دفترٍ أو يستظهر قطعةً أو يعيد درسًا، فلم أكن أحفل بشيءٍ من أمره..

حتى عُدتُ إلى منزلي منذ أيامٍ بعد منتصف ليلةٍ قَرَّةٍ من ليالي الشتاء، فدخلت غرفةَ مكتبي لبعض الشئون، فأشرفتُ عليه، فإذا هو جالسٌ جِلسته تلك أمام مصباحه، وقد أكبَّ بوجهه على دفترٍ منشور بين يديه على مكتبه، فظننتُ أنه لمَّا ألمَّ به من تعب الدرس وآلام السهر، قد عَبِئَتْ بجفنيه سِنةٌ من النوم، فأعجلته من الذهاب إلى فراشه، وسقطت به مكانه، فما رُمْتُ مكاني حتى رفع رأسه، فإذا عيناه مخضلَّتان من البكاء، وإذا صفحة دفتره التي كان مكبًّا عليها قد جرى دمعه فوقها، فمحا من كلماتها ما محا، ومشى ببعض مِدادها إلى بعض، ثم لم يلبث أن عاد إلى نفسه، فتناول قلمه، ورجع إلى شأنه الذي كان فيه..

فأحزنني أن أرى في ظلمة ذلك الليل وسكونه هذا الفتى البائس المسكين منفردًا بنفسه في غرفة عارية باردة لا يتَّقي فيها عادية البرد بدثارٍ ولا نارٍ، يشكو همًّا من هموم الحياة أو رُزءًا من أرزائها، قبل أن يبلغ سن الهموم والأحزان، من حيث لا يجد بجانبه مواسيًا ولا معينًا..

وقلت لا بد أن يكون وراء هذا المنظر الضارع الشاحب نفسٌ قريحةٌ معذبةٌ تذوب بين أضلاعه ذوبًا، فيتهافت لها جسمه تهافت الخِباء المقوَّض..

فلم أزل واقفًا مكاني لا أبرحه، حتى رأيته قد طوى كتابه وفارق مجلسه، وأوى إلى فراشه، فانصرفتُ إلى مخدعي، وقد مضى الليل إلا أقله، ولم يبقَ من سواده في صفحة هذا الوجود إلا بقايا أسطر يوشك أن يمتد إليها لسان الصباح فيأتي عليها..

ثم لم أزل أراه بعد ذلك في كثيرٍ من الليالي إما باكيًا، أو مُطرِقًا، أو ضاربًا برأسه على صدره، أو منطويًا على نفسه في فراشه يئن أنين الوالهة الثكلى، أو هائمًا في غرفته يذرع أرضها، ويمسح جدرانها، حتى إذا نال منه الجهد سقط على كرسيه باكيًا منتحبًا، فأتوجع له، وأبكي لبكائه، وأتمنى لو استطعتُ أن أُداخله مداخلة الصديق لصديقه، وأستبثه ذات نفسه وأشركه في همِّه، لولا أنني كرهتُ أن أفجأه بما لا يُحب، وأن أهجم منه على سرٍّ ربما كان يؤثر الإبقاء عليه في صدره، وأن يكاتمه الناس جميعًا..

حتى أشرفت عليه ليلة أمس بعد هدأةٍ من الليل، فرأيتُ غرفته مظلمةً ساكنة، فظننت أنه خرج لبعض شأنه، ثم لم ألبث أن سمعت في جوف الغرفة أنَّةً ضعيفة مستطيلة فأزعجني مسمعها وخيِّل إليَّ، وهي صادرة من أعماق نفسه، كأنني أسمع رنينها في أعماق قلبي، وقلت إن الفتى مريض ولا يوجد بجانبه من يقوم بشأنه، وقد بلغ الأمر مبلغ الجد فلا بد لي من المسير إليه..

Lost||Minsungحيث تعيش القصص. اكتشف الآن