كرت نانسي بأنها لن تعود صباح الغد إلى وظيفتها الجديدة التي استلمتها اليوم كموظفة استقبال في عيادة طبيب أسنان
.. العيادة كانت صغيرة و عفنة الرائحة .. وغير مناسبة إطلاقا كعيادة طبيب .. أما الطبيب نفسه فقد كان رجلا سمينا أصلع الرأس صاحب نظرات وقحة كادت تقتلها غيظا
خرج آخر مريض في تمام الساعة السابعة .. فاستعدت للمغادرة عندما خرج الطبيب من الغرفة الداخلية ورآها ترتدي معطفها .. فقال لها :- أتذهبين بهذه السرعة ؟
قالت باقتضاب :- يجب أن أعود إلى البيت قبل أن يتأخر الوقت أكثر
منحها ابتسامة صفراء وهو يقول :- أرجو أن يكون عملك هنا قد راقك
كان بإمكانها الخروج بصمت دون اخباره بعدم عودتها ثانية .. ولكنها لم تستطع مقاومة إغراء رؤية ابتسامته السمجة تختفي .. قالت بهدوء :- للأسف .. اكتشفت بأنني لا أحبذ التأخر كثيرا في المساء .. أنا متأكدة بأنك ستجد موظفة أكثر ملاءمة للعمل هنا
كما توقعت .. اختفت ابتسامته وهو يقول بحدة :- ما الذي يعنيه هذا ؟ هل كنت تتسلين إذن بقضاء يومك هنا
:- أنا لم أتسلى .. لقد بذلت جهدي في القيام بكل ماهو مترتب علي .. ولم يناسبني العمل بكل بساطة
:- حسنا .. لم تقومي بكل شيء تماما
وقف أمامها مانعا إياها من الوصول إلى الباب وقد علت عينيه الخبيثتين نظرة أثارت الخوف في نفسها .. ولكنها لم تظهر خوفها وهي تقول من بين أسنانها :- ابتعد عن طريقي وإلا صرخت وجمعت كل سكان المنطقة
أمسكها فجأة وجذبها إليه وهو يقول :- لم لا تحاولين ؟
قبل أن تطلق نانسي صرختها تركها فجأة واندفع جسده بعيدا حتى اصطدم بالجدار .. رمشت بعينيها عدة مرات غير مصدقة لوجود محمود الذي أمسك بتلابيب ثياب الرجل .. ولكمه بعنف حتى أدمى فمه وأنفه
استدار نحوها وقد ظهر الشر في عينيه الغاضبتين .. وأمسك يذارعها قائلا بغضب :- تحركي أمامي
لم تقاومه عندما دفعها إلى خارج المكان .. ثم أدخلها إلى سيارته بينما هي ذاهلة تماما مما حدث .. وفور أن تحركت السيارة صرخ بها :- أيتها الحمقاء المجنونة .. لم لا تتوقفين عن زج نفسك في المشاكل ؟
قالت متوترة :- لم أجد وظيفة أخرى .. كما أنني لم أعرف أي رجل خسيس هو الطبيب
:- طبعا لأنك لم تتعبي نفسك بالسؤال عنه قبل تورطك في العمل لديه .. لكنت عرفت بسهولة أي سمعة وسخة لهذا الرجل في المنطقة
قالت باضطراب :- هل .. هل تعرفه ؟
ضرب المقود بقبضته بقوة وهو يقول :- طبعا لا أعرفه .. ولكنني سألت عنه فور أن أخبرتني والدتك عنه .. لقد قدرت وحدي بأنك لن تتحلي بالذكاء الكافي لتفعلي هذا بنفسك
تمتمت :- أهذا ما جاء بك إلى العيادة ؟
كاد يفقد أعصابه وهو يقول :- ما الذي تتوقعينه ؟. أنا أتصل بهاتفك المحمول منذ ساعات دون فائدة فجئت بنفسي.. ما الذي كان ليحصل لو أنني تأخرت قليلا
قالت بعصبية :- كنت تمكنت من الدفاع عن نفسي بدون مساعدتك
كانت ممتنة حقا لوصوله المفاجئ .. فهي لم تعرف من قبل هذا الإحساس بالحماية من قبل رجل منذ وفاة والدها .. ولكنها أبت أن تسمح له بالتعالي عليها أكثر
أوقف السيارة إلى جانب الطريق .. والتفت نحوها قائلا من بين أسنانه :- لا تختبري صبري يا نانسي .. قد تمتلكين لسانا لاذعا وطويلا .. ونظرة قادرة على تجميد بركان .. ولكنك لا تمتلكين القوة على رد هجوم رجل مصمم
أخفضت عينيها رافضة تلقي نظراته القاسية .. انه محق .. أليس كذلك ؟ لم تستطع سابقا رد هجوم جابر.. وما كانت لتتمكن من صد الطبيب المقرف .. تمتمت مرغمة :- أنا آسفة
زفر بقوة محاولا استعادة هدوءه ثم قال :- لماذا تصرين على القيام بهذه الأعمال القذرة يا نانسي ؟ أنت تعرفين بأنها لا تقدم ولا تؤخر .. ما الذي تحاولين إثباته ؟
قالت بعناد :- لا يحق لك سؤالي وكأنك ولي أمري .. أنا مسؤولة عن تصرفاتي ولن آخذ إذنك حتى أمتهن أي مهنة
قال بصرامة :- بل يحق لي بعد أن أنقذتك من موقف تحسدين عليه .. ما الذي تأملينه من استمرارك في التنقل من عمل إلى آخر ؟..
لم تمنحه جوابا .. فأصر قائلا :- انظري إلي يا نانسي وأخبريني .. من تحاولين معاقبته بأفعالك هذه
قالت فجأة بانفعال :- أنا لا أعاقب أحدا .. أنا أعاقب نفسي فحسب
عقد حاجبيه وانتظر توضيحها وقد ظهر عليه التوتر .. فأكملت :- لطالما كنت أنا الفتاة الثرية المدللة كما تقول .. لقد تصرفت بشكل سيء طوال حياتي وأخطأت في حق الكثير من الناس .. وأنا أشعر بأن أقل ما علي فعله هو أن أكافح وأعيش حياتي مثلهم لأكفر عن أخطائي
ساد صمت طويل قبل أن يقول بهدوء :- أنت لا تستحقين حتى أن تعيشي مثلهم ما دمت تعتقدين بأن هذا عقاب
نظر غليها مكملا :- إن أردت التكفير عن أخطاءك .. فذلك لن يكون بتحميل نفسك فوق طاقتها
أمسك يدها مما جعلها تنتقض مجفلة .. قال :- هاتان اليدان غير قادرتين على القيام بعمل خشن .. انظري إليهما .. إنهما ناعمتان .. وطريتان .. اعتادتا على العزف على البيانو .. ارتداء الخواتم الثمينة .. من الظلم ان ترهقيهما بأعمال لم تخلق لهما
أفلت يدها قائلا :- ما عليك فعله هو الإحساس مثل باقي الناس .. لأنك لن تستفيدي شيئا إن عشت حياتهم واحتفظت بروحك القديمة .. روح الفتاة الثرية والمتكبرة والتي لا تهتم إلا بنفسها
قطع كلامه عندما ارتفع رنين هاتفه المحمول .. فرد عليه وأخذ يتحدث بجدية إلى الطرف الآخر .. كانت هي تفكر بكلامه .. إنه محق .. أليس كذلك ؟ ولكنه مخطئ في ظنه بأنها لا تهتم لأحد .. بل هي تهتم بأمها .. ولينا .. وحنان التي ترعرعت معها .. لن تسمح لكلامه المدمر أن يذيب كبريائها
كانت تستمع إليه وهو يتحدث عبر الهاتف ويعطي بعض التعليمات بصوت حازم وقوي ذكرها بصوته في المحاضرات التي كانت تحضرها له .. تساءلت وهي تشعر برنين السلطة في صوته عما يفعله خارج أسوار الجامعة .. أنهى مكالمته .. وبدون أي كلمة .. أكمل طريقه موصلا إياها .. عندما وصلا .. ترجل معها من السيارة فقالت له بخفوت :- شكرا لك لأنك ساعدتني في العيادة .. وعلى توصيلك لي
قال بهدوء :- إن كان هذا الشكر الغير متوقع محاولة منك لصرفي فهي لن تنجح .. وعدت والدتك بالمرور والاطمئنان عليها .
أطبقت فمها الرقيق بغضب وهي تتجه نحو الباب .. وقبل أن تلمس الجرس .. سمعت صرخة أمها .. تلتها صرخة لينا المذعورة .. انتفضت نانسي وهي تحاول إدخال المفتاح في القفل بيد مرتعشة ..حتى تناوله منها الدكتور محمود وفتح الباب بيد ثابتة .. اندفعت إلى الداخل لتجد والدتها مكومة على الأرض فاقدة الوعي .. ولينا وحنان تجثوان حولها بجزع .. أسرع محمود يحملها ويمددها على الأريكة .. بينما أوضحت حنان ما حصل باضطراب :- لقد أصابتها نوبة صداع قوية للغاية .. ثم سقطت مغشيا عليها
أخذت نانسي تربت على وجنة امها وهي تخاطبها بصوت مرتعش :- أمي .. ردي علي أرجوك
شعرت بيد محمود تمسك كتفها بقوة وهو يقول :- نانسي .. خذي مفتاح السيارة واسبقينا إلى هناك .. حنان .. أحضري بطانية لنبقي السيدة دافئة
أخذت نانسي المفاتيح .. أسرعت تمتثل لأوامره دون نقاش .. فقد أدركت بأن محمود هو الشخص الوحيد الذي يمكنهن الاعتماد عليه في ظرف كهذا وقد أصبن جميعا بالذهول والذعر ..
في المستوصف الصغير للمدينة .. كان رأي الطبيب هو نقل السيدة فورا إلى أقرب محافظة رئيسية حيث المستشفيات أكثر استعدادا لمثل حالتها .. القلق على وجهه وهو يفحص والدتها جعل نانسي تكاد تجن من الخوف على والدتها .. التي كانت خلال ساعات ترقد داخل أحد أهم المستشفيات في البلاد وقد تم نقلها بواسطة سيارة إسعاف رافقتها نانسي أثناء الرحلة .. بينما لحق بها محمود بسيارته .. آمرا حنان بالبقاء مع لينا وتوضيب أغراضهن استعدادا للحاق بهم فور وصول من يأخذهم
أخذت نانسي تسير في غرفة الانتظار دون توقف .. بينما يقف محمود مستندا إلى الجدار وقد عقد ساعديه أمام صدره دون أن يتفوه بحرف واحد
خرج إليهما الطبيب فأسرعت إليه نانسي تسأله بقلق :- ما الأمر يا دكتور ؟
كان عابس الوجه مما جعل قلبها يخفق بعنف قلقا .. :- نتيجة الصور واضحة .. السيدة مصابة بنزيف حاد ومفاجئ في المخ
كادت تفقد الوعي لو لم يمسك بها محمود بشدة ويخاطب الطبيب :- هل أنت متأكد يا دكتور ؟
:- للأسف .. لو أن الأمر قد استدرك باكرا لكان من الممكن تداركه .. وعلاج المشكلة قبل أن ينفجر الشريان ويتم النزيف. وتدخل في الغيبوبة .. لقد أخبرتني بأن والدتك كانت تعاني من الصداع .. أليس كذلك ؟
أجاب محمود عنها فقد كانت ذاهلة تماما:- هذا صحيح ..
:- كان يجب أن تلجأ فورا إلى الطبيب و....
بالكاد تمكنت نانسي من فهم كلمات الطبيب .. هل هو خطأها .. هل كان عليها أن تصر على أمها في زيارة الطبيب منذ أول نوبة صداع ؟ .. قالت بصوت خافت :- هل ستموت ؟
ارتبك الطبيب وقال :- حالتها متقدمة للغاية .. أي تدخل جراحي لن يكون مضمون النتائج
قال محمود بحزم :- أي شيء أفضل بكثير من مشاهدتها تعاني دون أي تدخل .. متى يمكن إجراء العملية ؟
:- فور وصول جراح الأعصاب ..
أجلسها محمود على أحد المقاعد .. وتابع حديثه مع الطبيب في الوقت الذي سالت فيه دموعها غزيرة .. عاد محمود يجلس إلى جوارها قائلا :- سوف تبقى أمك هنا في المستشفى تحت إشراف الأطباء .. الطبيب سيصل غادا وستتم العملية في الصباح الذي يليه .. في هذه الأثناء .. لقد استأجرت لكن شقة صغيرة في حي قريب من المستشفى ..ستمكثن فيها خلال الفترة القادمة
تمتمت بين دموعها :- ما كان عليك إزعاج نفسك .. نستطيع تدبر أمرنا
قال بهدوء :- لست في حالة تؤهلك لتحمل المسؤولية كاملة يا نانسي .. اسمحي لي بالوقوف إلى جانبك هذه المرة مهما كان الأمر كريها بالنسبة إليك
راقبته ينهض مبتعدا ليجيب عن إحدى مكالماته الهاتفية .. كيف تمكن من إيجاد شقة لهن بهذه السرعة ؟ .. قدرت بأنه يمتلك الكثير من النفوذ والسلطة ليحصل على ما يريد في وقت قصير ..
كانت تعلم بأنه هو من تكفل بمصاريف المستشفى .. أثار هذا حفيظتها .. ولكنها لا تملك إلا أن تقبل عطائه في وقت لن يحتمل منها أي تكبر أو كبرياء .. فحياة أمها على المحك
أمها الحبيبة الرقيقة .. التي لم تذنب في حياتها إلا في حب رجل لا يستحقها .. رجل مات تاركا إياها لتلملم بقايا عاره .. وكان الحمل ثقيلا على كيانها الضعيف .. حتى فتك بها ..
وصلت حنان مع لينا .. ولم تتساءل نانسي عن طريقة وصولهما .. فقط عانقت أختها الصغرى التي عرفت من النظر إلى وجه نانسي مدى صعوبة الوضع .. فأجهشت بالبكاء حتى قبل أن تعرف التفاصيل .. وعندما رأت محمود .. أسرعت إليه ترمي نفسها في صدره وتبكي هاتفة :- دكتور محمود .. هل ستكون أمي بخير ؟ .. هل ستموت ؟
ربت على شعرها الأشقر بحنان قائلا :- أمك ستكون بخير يا لينا
رفع رأسه إلى نانسي الشاحبة الوجه وقال :- نانسي .. سآخذكن لترتحن قليلا في الشقة
ردت نانسي :- لن أتحرك من هنا
أسرعت حنان تقول :- اذهبي يا نانسي .. أنا سأبقى برفقة السيدة مريم .. وإن طرأ أي جديد سأتصل بك على الفور
استسلمت في النهاية لتعب أعصابها و جسدها .. واستجابت لإلحاحهما .. وجدت نفسها بعد فترة تدخل إلى شقة صغيرة برفقة لينا ومحمود .. لينا كانت تبكي بحرارة .. فجلس محمود إلى جانبها فوق الأريكة محاولا تهدئتها .. بينما دخلت نانسي إلى غرفة النوم المحتوية على سريرين صغيرين .. وأغلقت الباب ورائها .. نظرت إلى نفسها في المرآة .. إلى وجهها الشاحب .. وتساءلت :- ما الذي علي فعله ؟ .. كيف سأتدبر تكاليف العملية وأنا لا أملك قرشا
الحقائب المحشوة بأغراضها كانت على الأرض إلى جوار السرير .. لم تتساءل عن كيفية وصولها .. انحنت لتخرج من إحداها صورة والدها .. ونظرت إليها طويلا .. سالت دموعها بغزارة .. ما كانت لتحقد عليه لو اقتصرت نتائج أفعاله على تشردهم واحتقار الناس لهم .. ولكن أن تمتد إلى صحة والدتها .. لماذا هي بالذات ؟ لماذا ؟
قذفت الصورة بكل قوتها على المرآة الكبيرة فكسرتها .. فتح محمود الباب ليجدها تلقي بالأشياء من حولها في كل مكان وكأنها تفرغ غضبها الكامن داخلها
أمسك بها من الخلف فقاومته بشراسة .. ولكنه ضمها إلى صدره بقوة وقد كبل حركتها بذراعيه وهو يقول :- إهدئي يا نانسي .. غضبك هذا لن ينفع أحدا
انهارت مقاومتها وهي تبكي بمرارة قائلة :- لماذا هي ؟ إنها لا تستحق أن تموت
أدارها إليه وهو يقول بحزم :- أمك لن تموت يا نانسي ..
أخذت تبكي على صدره فقادها برفق إلى السرير قائلا :- تمددي وخذي قسطا من الراحة .. وغدا سوف نتكلم في الموضوع
عجبت من نفسها كيف أطاعته وتمددت .. وتركته يغطيها بإحكام .. أطفأ النور وغادر الغرفة .. فلم يطل بها الوقت حتى استسلمت لإرهاقها وغابت في نوم عميق