سارت نانسي لاول مرة على قدميها نحو منزلها .. لحسن حظها ان الطريق لم يكن طويلا .. ولكن لدهشتها .. فالطريق الذي تسير فيه للمرة الاولى خلب لبها بجماله وهدوئه .. إذ انها وما إن ابتعدت عن الطرقات الرئيسية .. دخلت في الشوارع الجانبية التي اصطفت على جانبيها المنازل الأنيقة والفخمة .. المحاطة بالحدائق الغناء .. أذهلها هدوء المكان الشديد .. إذ بدا وكأن لا أثر للحياة فيه .. فكرت للحظة بأن انفجار قنبلة وسط هذه المنازل لن يهز شعرة من سكانها .. خاصة لو كانوا على شاكلتها .. فهي ما اهتمت يوما بما يحدث حولها .. وبما يدور خارج منزلها الكبير .. منزلها الذي لن يعود كذلك قريبا عندما وصلت أخيرا .. كانت متعبة للغاية .. وقد لاحظت عليها حنان هذا وهي تقول :- هل أسخن لك الغداء ؟
تمتمت نانسي بإرهاق :- لا يا حنان .. كل ما أريده هو أن أنام
كانت معتادة على مناداة حنان لها باسمها .. فحنان لم تكن أبدا مجرد خادمة عادية .. لقد ترعرعت في هذا المنزل إلى جانب نانسي عندما كانت والدتها تعمل فيه قبل وفاتها .. غادرت حنان عندما تزوجت لعامين .. ثم عادت بعد طلاقها لتعمل من جديد في المكان الذي لم تعرف غيره منزلا .. عندما دخلت نانسي إلى غرفتها .. وجدت لينا تجلس على حافة سريرها ممسكة بصورة والدهما .. كان وجهها البريء شاحبا .. وقد اختفى اللون الوردي الذي قلما فارق وجنتيها في الماضي .. وعيناها الزرقاوان كانتا حزينتين للغاية .. سألتها بهدوء :- كيف كان يومك في الجامعة ؟
كذبت نانسي قائلة :- لقد كان جيدا للغاية
جلست إلى جانبها وتناولت منها الصورة .. وأخذت تتأملها بدورها صامتة حتى سألتها لينا :- نانسي ... أمازلت تحبينه ؟
سألتها نانسي بحذر :- أتعنين أبي ؟
قرأت الإجابة في عينيها فقالت بهدوء :- طبعا ما زلت أحبه .. فهو بالرغم من جميع أخطاءه كان أبا رائعا ومثاليا .. ولم يقصر بحقنا قط
كتمت داخلها صوت هتف بحدة :- ألم يخطئ بحقكما عندما حطم حياتكما بما فعله ؟
رسمت ابتسامة على شفتيها وهي تقول :- هل تذكرين المرات التي كان يجلسك فيها على ركبتيه ويهزك كالطفلة قائلا بأنه لن يسمح لك أبدا بأن تكبري ؟ .. لقد كنت ابنته المدللة
تمتمت لينا قائلة :- لماذا أجد نفسي غير قادرة على مسامحته ؟
أحاطتها نانسي بذراعها بحنان وهي تقول :- ستسامحينه يا نانسي .. أنت تحتاجين فقط لبعض الوقت
صمتت لينا للحظات قبل أن تقول :- لا أستطيع العودة إلى المدرسة
وقبل أن تقول نانسي أي شيء انفجرت لينا قائلة بعنف :- لا أستطيع ان أواجه الناس أو زميلاتي في المدرسة .. أو معلماتي اللاتي كن يميزنني عن غيري بسبب أبي .. أنا لست بقوتك وشجاعتك يا نانسي .. أريد أن أبقى في البيت حتى ينسى الناس من هو سلمان راشد
أخذت تبكي بحرقة .. فما كان من نانسي إلا أن تمتمت :- ليس عليك أن تعودي إلى المدرسة حتى تشعري بأنك مستعدة لهذا
ثم نهضت قائلة :- أين أمي ؟
:- إنها في غرفتها .. تعاني من الصداع كالعادة .. وتنتظرك حتى تتحدث إليك
عندما دخلت نانسي إلى غرفة أمها .. وجدتها تعيد سماعة الهاتف إلى مكانها وعلى وجهها خيبة أمل كبيرة .. سألتها :- ألم تعثري على خالي بعد ؟
هزت رأسها نافية :- لا .. أنه لا يرد على هاتفه المحمول .. أو على هاتف منزله في مارسيليا
جلست نانسي إلى جوارها على الأريكة التي توسطت الغرفة .. خالها فوزي هو القريب الوحيد الذي بقي لهم .. فوالدها يتيم بلا أخوة .. وجداها لوالدتها متوفيان منذ سنوات .. سألتها نانسي بقلق :- كيف تشعرين اليوم ؟
ابتسمت أمها بشحوب وهي تقول :- أفضل بكثير
ولكن نانسي كانت تعرف بأن أمها تكذب .. فمنذ وفاة والدها ووالدتها تذبل كما لو أنها لم تعد تجد سببا لتعيش لأجله
تمتمت :- أخبرتني لينا بأنك أردت رؤيتي
اعتدلت أمها وهي تقول بجدية :- هذا صحيح .. يجب أن نتحدث عن تركنا لهذا البيت يا نانسي .. يجب أن نجد مكانا آخر يأوينا في أقرب وقت
سألتها نانسي بحذر :- وهل لديك أي اقتراحات ؟
:- أنت تذكرين منزل الشاطئ الذي يمتلكه خالك .. لقد ذهبنا إليه عدة مرات برفقته .. أظن من الأفضل أن ننتقل إلى هناك لفترة من الزمن .. حتى ينسى الناس قصة والدك على الأقل .. قبل أن نعود من جديد ونختلط بالمجتمع كغيرنا من الناس
اتسعت عينا نانسي وهي تقول :- هل تريدين منا أن نهرب يا أمي ؟
بدا الألم على وجه أمها وهي تقول :- نعم يا نانسي .. نحن غير قادرين على مواجهة غضب الناس ونبذهم لنا .. فكري بلينا .. إنها صغيرة جدا على أن تساء معاملتها بسبب ما فعله والدها
نهضت نانسي وهي تقول بحزم :- لا .. أنا أرفض أن أهرب بهذه الطريقة .. على الناس أن يتقبلونا كما نحن .. بل وأن يحترمونا أيضا
أمسكت بيد أمها وهي تقول برجاء :- أرجوك يا أمي .. لا أريد أن نبدأ حياتنا الجديدة بالهرب كالجبناء .. امنحيني فرصة واحدة فقط .. سنبحث عن شقة صغيرة في أي حي بسيط .. وسأجد وظيفة ما .. لا بد أن يكون هناك من هو بحاجة إلى توظيف طالبة اقتصاد في السنة الثالثة
بدا الاعتراض على وجه امها ولكنها منعتها وهي تسرع في القول :- لا تعترضي يا أمي .. أعدك بأن الأمور ستتحسن
قالت الأم :- أنا من عليه البحث عن وظيفة .. يجب ألا تهملي دروسك قبل أن ...
قاطعتها نانسي بحزم :- لن تتعارض الوظيفة مع الدراسة .. أعرف الكثير ممن يعملون ويدرسون في الوقت نفسه .. وأنت غير قادرة على التفكير بالعمل حتى تتحسن صحتك
ترقرقت الدموع في عيني أمها الجميلتين .. وعرفت نانسي بانها تتذكر زوجها الراحل .. وتلومه على كل ما يحصل وإن أبت أن تظهر مشاعرها لبناتها ..
عندما خرجت من الغرفة .. وجدت نانسي حنان في انتظارها تقف في الممر .. فاقتربت تسألها :- هل من خطب يا حنان؟
قالت حنان :- نانسي .. أنا أعرف كل شيء عن ظروفكم الحالية .. وأعرف بانكن مضطرات لترك هذا البيت في وقت قريب
أحست نانسي بطعنة ألم لسماع الحقيقة .. ولكنها أخفت مشاعرها منتظرة ما ستقوله حنان التي أكملت :- أريد البقاء معكن ..أن أرحل معكن إلى أي مكان تقصدونه
استوعبت نانسي بسرعة ما تقوله حنان .. ثم أسرعت تقول :- كنت اتمنى هذا يا حنان .. أنت تعرفين بأنك فرد من العائلة .. ولكننا لن نعود بقادرين على دفع راتبك كالسابق
قالت حنان بهدوء :- أنت تعرفين جيدا يا نانسي بان راتبي لم يكن يوما سبب بقائي هنا .. فأنا لم أعرف غير هذا المكان منزلا .. وغيركم عائلة بعد وفاة أمي .. وبعد طلاقي .. أصبحتم فعلا آخر من تبقى لي .. لا مكان آخر أقصده إن رحلت من هنا .. كما انني لا أريد راتبا .. أريد الإقامة معكن .. والمساهمة في تحمل مسؤولياتكن الجديدة .. سأستمر في العمل .. في الطهي والتنظيف .. وإن اضطررت فسأعمل كي أساهم في مصاريف البيت
منعت نانسي نفسها من البكاء تأثرا بصعوبة وهي تقول بخفوت :- لست مضطرة لتقديم التضحيات للبقاء معنا يا حنان .. يكفي انك الانسان الوحيد الذي احبنا بصدق واعتبرنا عائلته
أشرقت عينا حنان وهي تقول :- هل هذا يعني أنني أستطيع الرحيل معكن ؟
أومأت نانسي برأسها .. فما كان من حنان إلا أن عانقتها بقوة .. مسحت نانسي دمعتها الفارة .. على الأقل .. هناك شخص على وجه الارض تستطيع الثقة به