الجزء الرابع :

1 0 0
                                    

في مكان بالكاد تتسلل إليه أشعة الشمس ، أحاطت به الأغصان اليابسة من حوله ، كل شيء حوله مكتنف بالظلام ، و السكون يسود المكان ، و كأنه خارج عن العالم بأسره ، لا ألوان زاهية و لا نبض للحياة يتخلله..
كان قد أسند ظهره إلى كل الأغصان اليابسة خلفه ، و قد صنع منها متكئا له ، عيناه الزرقاوان تحدق في المكان بصمت ، كما إعتاد أن يفعل معظم الوقت ، حلقت حوله هالات زرقاء قد إتخذت من شكل الفراشات تجسيد لها ، فأخذ يداعب أناملها في صمت حتى..

" كعادتك تداعب فراشاتك في هدوء "

ألقى الموت نظرة علئ محدثه ، كان شابا بهي الطلعة ، حيوي المنظر سمح الوجه ، شعره الأبيض المموج و إبتسامته المريحة ، أضافت لمظهره هالة تبعث على الطمأنينة و السكون..

"أليس الاهتمام بهذه الارواح هي مهمتي !! "

ضحك الخير قالئا :" إنك رحيم القلب يا صاحبي..! "

مد الموت يده لتحط فوقها إحدى تلك الفراشات المتوهجة ، تأمل تصافق جناحيها لثانية قبل أن يقول : " إن تلك الأرواح قد عانت الأمرين في هذه الدنيا ، ألا تستحق من الموت أن يكون رحيما معها ؟! "

" إنك محق ! "

نظر الخير بإستغراب ناحية الفراشة التي لازالت تقف بطمأنينة فوق راحة كف الموت ، ليقول و التعجب يرسم لوحته فوق ملامحه : " ما بال هذه الروح مطمأنة هكذا ، تصفق بجناحيها و كأنها سعيدة برفقتك ، تبدو لي و كأنها تشكرك على عملك "

" إنها كذلك حقا ! " أجاب الموت و عيناه لا تزالان تتعلق بتوهج هذه الفراشة الأخاذ ، ليردف الآخر و قد إزداد تعجبا : " أوليست تعلم من هو الموت ؟ ، إنها تختال كعروس في ليلة زفافها و كأنها لم تقبض منذ قليل بواسطة هذه الكف .! "
" إنها روح مؤمنة بخالقها ، متعلقة به ! ، رضت بما قد حمله لها قدرها و هي قد واجهته بكل شجاعة و قوة ، تلك الأرواح المؤمنة هي الأقصى عذابا في هذه الدنيا ، تعتبر الدنيا و زينتها سجن ضيق ، فما أشد بلاء هذا العالم ، في حين أني أقبضها فهي تلقاني بإبتسامة ممتنة سعيدة ، فهي تعلم ما أنا إلا بوابة عبور ، و من خلفي ستجد السعادة و ستجزى على صبرها ..! "

تبسم الخير براحة ، ينظر لتلك الفراشة و قد غادرت كف الموت ، ليقول بعدها : " إن تلك النفوس التي جابهت المصاعب بتلك القوة و  الإيمان الكبيرين ، لهي بالتأكيد نفوس عظيمة تستحق التعظيم ، لكن ماذا عن تلك التي لم تمتلك الإيمان الكبير فما عساها تكون ؟! "

" إن توهجها أقل و هي الأرواح المترددة ، لا تدري كيف عساها تواجه مصاعبها ، أو كيف تؤمن بخالقها أو حتى نفسها ، تراها تترنح فتارة تصمد في وجه المحن  و تتقبل قدرها بإستسلام لحقيقة أنه لن يتغير ، و تارة تجزع منه و  تنهار ، إنها تبذل جهدها لتكون أفضل حالا ، لكن جزء منها لا يزال يتعلق بالأمل في هذه الدنيا ، فهي دائما ما تهرب من الموت على أمل أن تخلد يوما في نعيمها الزائف "

هز الخير رأسه مؤيدا ثم لحظ فراشة كان توهجها بالكاد يرى ، تصفق جناحيها بضعف واضح تطير تارة و تسقط أخرى ، بطبيعته الخيرة المحضة كان قد إتجه إليها ليحملها بين كفيه محاولا إعانتها ، فتسائل قائلا : " و من عساها تكون هذه الروح المسكينة ؟ "

فأجاب الموت دون أن يحرك ساكنا :
" إنها الروح التي أضاعت نفسها وفقدتها وسط الزحام الدنيوي ، قد تكون فقدت إيمانها و أملها بنفسها و خالقها ، و لم تجد حلا و لا أملا ، و لم تعثر على بصيص نور ليرشدها ، قد أغمضت عيناها على كل خيط ممتد للأمل ، فلم يعد أمامها سوى خيارين إثنين ، إما أن تتحول إلى شر مطلق ، و إما أن تسلم روحها في غير ميعادها ، و بكلتا الحالتين فهي تؤول للندم على ضعفها ! "

هز الخير رآسه بأسى واضح ، و دعا في سره صادقا بأن تكون العاقبة خيرا لكل تلك الأرواح و أن تجد الراحة الأبدية !

صراع بين الحياة و الموت حيث تعيش القصص. اكتشف الآن